السبت ١٩ أيار (مايو) ٢٠١٢

دراسة نقدية ل«عودة الآلهة» لدوريس خوري

إسحار علي مصري

يترعرع الطفل الشرقي في كنف أهله، فإن بكى لسبب ما تجد ردود الفعل العنيفة تقع على هذا الطفل ، فيصرخ والداه في وجهه محاولين تأنيبه وشرح وجهة نظرهم ان البكاء فقط للنساء وانه ينقص من رجولته، فيحاول هذا الطفل اخفاء دموعه وكفكفتها لكي لا تسجل له وصمة عار كما يظن الكثيرون، وانها تنقص من رجولته وكرامته، فيتحول هذا الطفل مع مرور الزمن الى صخرة صماء لا يفتتها بكاء ولا حزن ولا ألم، فيحصرها بين ضلوعه وقلبه، ففي هذه الحالة يصبح البكاء محرماً على الرجل وهو من اختصاص النساء فقط ، علماً ان بعض النساء تتحجر الدموع في مآقيهن اكثر من الرجال. ففي هذه الحالة يصبح الرجل الشرقي رهيناً لعادات وتقاليد لا علاقة لها بالرجولة والكرامة سوى انها عادات موروثة تفعل فعلها في حياة الرجل، علماً ان الرجل في طبيعته هو كائن رقيق الاحاسيس جياش المشاعر يستجيب لنداء دموع المرأة حتى ولو كانت هذه المرأة غير صادقة في احاسيسها ومشاعرها، فالرجل لديه مهارة فائقة لاظهار مشاعر الفرحة فيستجيب لها ويترجمها بسرعة البرق بملامح وجهه. فلا ندري من حول مشاعر الحزن الى وصمة عار على الرجل.. هل هو نفسه وعدم استجابته للحدث ورفض الواقع ان المرأة تحب ان ترى الرجل بمظاهر القوة والجلد فتقول له انت فارس مغوار من العيب عليك ان تبكي كما النساء ، فهذه الازدواجية والتصارع القائم في داخل الرجل تحوله الى انسان كئيب يكبت مشاعره داخله حتى يتملكه هذا الحزن فتكون ردود فعل نفسية وصحية تنعكس سلباً على هذا الرجل، فإن عدنا الى الوراء يا اخي الرجل وتذكرنا ان آلهة وانبياء وعظماء بكوا جميعاً وسجلت لهم الاسفار هذه المواقف النبيلة والمشاعر الانسانية التي لا يشوبها شائب، ولا علاقة لها بالقوة والكرامة والرجولة الى ما هنالك من نعوت مغلوطة تجاه جانبك الانساني الذي لا يحق لانسان في الكون ان يتدخل ما بينك وما بين داخلك الانساني النبيل. فلا نريد ان نعود بك الى البعيد البعيد ، وفي عباب التاريخ ان سجل لكثير من الآلهة والانبياء انهم بكوا بحرارة. فلنبدأ من تاريخ السيد المسيح عندما بكى فوق صخرة في موقع اسمه جسمانية فقال : " ان نفسي حزينة حتى الموت" وصلى وقال " ان امكن يا ابي فلتعبر عني هذه الكأس لا كما انا اريد بل كما انت تريد" وفي مزامير النبي داوود عندما صلى صلاته كي يسمعه الرب وفي حروبه مع اعدائه في المزمور السادس. وفي المزمور الثلاثين وفي المزمور مئة وواحد. ويذكر ان النبي محمد صلى الله عليه وسلم بكى عدة مرات وفي عدة مواقف في حياته..كان يزور الخنساء وهي شاعرة مخضرمة فكان يطلب منها ان تلقي على مسمعه بعض ابيات الرثاء في مقتل ابنها واخويها وزوجها فكان يقول لها : " اتحفينا يا خنس" ، أي ابكينا يا خنساء، فهذه الرغبة والاستجابة لدى الرسول ان يسمع صوت البكاء والرثاء، فما هذا الا شعور انساني نبيل يعبر عن تعاطفه مع ابناء امته

وخصوصاً من ادركوا واستشهدوا في سبيل الاسلام والدعوة للشهادة ، وله عدة مواقف في البكاء.. كذلك كان يبكي عن تلاوة القرآن وفي صلاته..

فالتاريخ مليء بأسماء رجال بكوا فكان بكاؤهم اشد وقعاً من بكاء النساء ونواح الخنساء. قيس ابن الملوح بكى حبيبته ليلي لوعة وحسرة فهام في البرية حتى قضى نحبه حزناً على حبيبته، وكم من عظماء سجلهم التاريخ بكوا بالرغم من صلابة قلوبهم وشدة بأسهم ، الا ان فراق حبيبة ابكاهم واحزنهم . انطونيو القائد الروماني بكى لحبيبته كليوباترا تعبيرا عن حبه وولعه بها ، القائد الفرنسي نابليون بكى حبيبته وكم شاعراً من شعراء الزجل اللبناني رثوا احباء وشهداء فرثاء الميت في لبنان هو حكر على الرجال من الشعراء والقوالة ، فهذه عادة متداولة حتى يومنا هذا...عندما يخرجون الميت من بيته يسجى في بهو واسع او خارج الدار يرثيه شعراء من الرجال فيكون رثاؤهم اشد وقعا ولوعة واضعاف اضعاف من رثاء النساء ، فطريقة تعبير هؤلاء الزجالة والقوالة تفتت فلذات القلوب فتبكي الجبابرة قبل الضعفاء. فإن قلنا ان البكاء وما يقصد منه سيل الدموع وذرفها فهذه صفات نسبت للمرأة. وقيل بكاء التماسيح، ولا ندري ما صحة هذه المقولة اهي فعلا جادة ام هي من باب المداعبة والهزل ، فالبكاء الحقيقي ليس بذرف الدموع فحسب، وكلما لاحت لنا صورة كئيبة او سمعنا خبراً مفجعاً ، انما يتضمن البكاء صوراً وتعابير ولوحات محزنة مؤلمة معبرة عن الحزن والاسى في نبرة الصوت ورجفة الشفتين وحشرجة الصوت والتعلثم في الكلام وغيبوبة الذاكرة . كل هذه التعابير والصور ترسل رسائل تخبرنا عن حزن هذا الشخص، الا تبكي يا اخي الرجل لاستشهاد ابن لك!...ألا تبكي لمنظر نازحين عن اوطانهم تاركين اعز ما لديهم وهو الوطن ! ألا تبكي من منظر شهيد مضرج بالدماء وهو يعلم انه سيفارق الحياة بعد لحظات ولم يتح له الموت وداع ام او اخ او اب ! ألا يبكيك ان كنت شاهدا على وصية والدك لاخوتك الصغار وانت اكبرهم وستصبح في المستقبل اباً واخاً وسنداً معيناً لهؤلاء الاخوة ! ألا يبكيك منظر راحل عن وطنه قسراً يدور حول منزله ويودعه الوداع الاخير! ألا يبكيك ان عدت الى منزل ووطن فارقته من سنين طويلة ووجدت اعداءك يقيمون فيه ! ألا يبكيك ان رأيت احد ابنائك يصارع الموت وانت عاجز وجميع الاطباء عن مساعدته، لان المرض العضال نال منه مأرباً... ألا يبكيك ان هزمك الاعداء في ساحة الوغى !! ألا يبكيك عندما تزج في غياهب السجون ظلما وبهتانأً ! الا يبكيك عنما تتعرض لحادث وافتقدت احد اعضاء جسدك !ألا تبكي يا اخي الرجل بكاء الفرح وسط زغاريد الاقارب عندما يزف لك ابن بعد انتظار وعناء سنين طويلة !

الا تبكي عندما تنجو من حادثة غرق كما سفينة التايتنك غرق فيها المئات ونجا العشرات وانت من هؤلاء الناجين ! الا تبكي عندما تزف اليك بشرى قدوم مولود بعد انتظار سنين طويلة وان تصبح اباً كباقي الاباء! الا تبكي عندما تزف الى حبيبتك ورفيقة دربك فتصبحان جسداً واحداً وروحاً واحدة ! الا يبكيك هذا الاتحاد والشراكة الزوجية ! لا تبكي ان كنت زائراً وحاجاً لبيت الله وانت خاشع بين يدي المولى تناجيه فيسمعك يكفر لك عن معاصيك واخطائك فيهبك الحياة الروحية الجديدة ، وتلك الولاد الجديدة! فالدموع تمحو الاثام وعن طريقها تتحقق المغفرة والصلاح ... فاتحادك بالإله يريح نفسك وجسدك ويزيل جميع الادران العالقة بقلبك ، فابك فالبكاء من شيم المؤمنين فما بعد البكاء الا الفرج والمغفرة.

من كتاب "عودة الآلهة"
اصدار: دائرة الثقافة العربي 2001

التمهيد :

يندرج هذا النص ضمن مجزوءة الوضع البشري، وعلى الاخص فئة الذكور.
لقد طـُرِحت مسألة جديرة بالنقاش والجدال في هذه الايام ، وهي قضية بكاء الرجل. فالكثير من الاسئلة تدور في اذهاننا وتتقلّب في البابنا : ترى لماذا يأبى الرجل البكاء، سواء على الملأ ام امام نفسه ؟ ألأجل تلك الترهات والخرافات التي لا ينفك عن اقناع نفسه بها ، وهي كون ذرف العبرات اسقاطاً لعرش الرجولة وشيمة من شيم النساء؟ ام لاجل كونه طـَبْعاً غـُرِسَ وتجذّر في داخله مذ نعومة اظافره؟ وهل يتوجّب عليه -فعلا- ان يبكي؟ وما هي نظرة المجتمع للرجل الباكي؟

هذه الاسئلة المبهمة التي لطالما دبت الحيرة في عقولنا وشوشت تفكيرنا ستمسي عكس ذلك بعد ان تكشف الكاتبة النقاب عنها وتحاول الاجابة عليها من خلال كلماتها المنسابة في نصنا .

طرح الإشكالية وموقف الكاتبة:

تبدأ الكاتبة كلامها بذكر احداث واقعية بحتة تواجه الفرد العربي في مجتمعاتنا الشرقية ، حيث تبدأ عائلته في وقت مبكر جداً بحصاره بهالة من الحزم تتلخـّص بإقناعه بتلك التقاليد والعادات التي تربـّت عليها الاجيال السالفة ، وترسيب تلك المفاهيم بعقليته ، والتي مفادها كالتالي : الرجل ذو انفة وكبرياء ، لا يحق له البكاء ، فهذا يضعضع من رجولته ويهز كيانه ، ووصمة عار لا تــُغتـَفر ، فحريٌ به ان يتصلـّب ويتجلد ويكتم مشاعره واحاسيسه.

ان الرجل بنظر الكاتبة ليس الا كتلة من المشاعر الفياضة والجياشة ، اليس انساناً بين جوانحه فؤاد ينبض ، ويجد من الالم والحزن ما الله به عليم ؟! كيف له الا يكون كذلك وامارات الغبطة والحبور لا تفتأ تظهر على محياه حين يفرح ، واذن ما المانع بظهور امارات الحزن حين يكتئب.

تذكر الكاتبة معلومة جد مهمة وهي ان الرجل عندما يكبت اشجانه وهمومه يتضرر ضرراً جسيماً من ناحية نفسية وصحية، فقد اثبت العلماء ان للدموع فوائد كثيرة ؛ فتـُفرز في الجسم مواد كيميائية ضارة حين يكون الشخص تعيساً كئيباً، والدموع تساعد على التخلص منها ، وتعمل على زيادة خفقات القلب، وبالتالي يـُشكّل تمريناً مفيداً للحجاب الحاجز. وعند الانتهاء من البكاء تعود عضلات القلب الى حالتها الطبيعية فتنبسط وتسترخي ، فيتسلل الانسان شعورٌ غريب بالراحة ، الامر الذي يساعده على تجاوز المحنة التي المّت به ، وعلى التفكير بصفاء دون ان يعتكر مزاجه وتضطرب خواطره ، وبالتالي ينظر الى همومه نظرة اكثر وضوحاً وموضوعية.
لهذا فإن الكاتبة تنصح الرجل بأن يطلق العنان لعبراته كما تفعل النساء، فالبكاء لا يبرر ابداً ما اذا كان الشخص ضعيفاً ام قوياً ، شهماً ام متواطئاً !

في الفقرات التالية تـُفنّد الكاتبة رأي المجتمع ببعض من الحجج والبراهين التي تستمدها من شتى الميادين والأزمنة . فالانبياء والرسل - عليهم السلام - خير وابلغ مثال على من استعبر وكانت عبرته قصة تاريخية عظيمة تضفي جوّاً ايمانيّاً روحانيًاً لأولي الالباب ، منهم أليسوع وداود - عليهما السلام ، واشرف الخلق - سيدنا محمد عليه افضل الصلاة وازكى السلام - كان يطلب من الشاعرة المخضرة الخنساء إلقاء رثائها لتنساب الى اذنيْه ، فينال وقع تلك الكلمات منزلة سامية في نفسه ، فتنهمر الدموع من مقلتيه اثر ذلك. هاك بعضاً من ابياتها في رثاء اخيها صخر :

"اراها والها تبـكي اخـاها عشية رزئة او غب امس
وما يبكون مثل اخي ولكن اعزّي النفس عنه بالتأسّي".

رُبّ دمعة تنهمر في سبيل الاسلام ، في سبيل التوحّد مع ابناء الامة ؛ فقد كان عليه الصلاة والسلام بكّاءً حين يُلقى القرآن على مسامعه وأثناء الصلاة ، وكان قلبه عطوفاً يبكي عند مواقف الحزن ، كيوم وفاة خديجة رضي الله عنها ووفاة ابنه ابراهيم واستشهاد حمزة بن عبد المطلب .

وهنالك الكثير من الشخصيات الحازمة الجَلِـدة التي بكت محبوبتها ، منها : قيس حين بكى محبوبته ليلى الى ان قضى نحبه ، وانطونيو حين بكى
محبوبته كليوباترا تعبيراً عن ولهه بها ، وكذلك الامر نابليون. وها هو امرؤ القيس ينشد قائلاً:

" قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل بسقط اللوى بين الدّهول فحومل
وإنّ شـــفائي عــبـرةٌ مُهــــراقـَة ٌ فهل عند رسم ٍ دارس ٍ من معوَّل
ففاضت دموع العين مني صبابة على النحر حتى بل دمعي محملي".
ويقول القشيري :
" لو كنت ساعه بيننا ما بيننا وشهـدت حين نكـرر التوديعا
ايقنت انمن الدمـوع محـدثا وعلمت ان من الحديث دموعا".

تذكر الكاتبة ملاحظة مهمة وهي ان الانفعالات الناتجة عن الحزن ليس بالضرورة ان تكون البكاء ، فدموع القلب ابلغ أثراً من دموع العين ، فهناك الحشرجة وارتعاش الجسد وما الى ذلك من ردود فعل .
وها هنا تكثر كاتبتنا من استخدام الاسئلة البلاغية – الاستنكارية مخاطبةً فئة الذكور ، حاثة اياهم على البكاء.
فما اشدها من لوعة وما اشده من اسى حين يهزمك عدوك فيقوم باحتلال وطنك ونهب كل ما هو لك رغماً عنك ، فما تكون نهايتك الا نازحاً ثاكلاً لاولئك الشهداء الابطال اللذين ابت ارواحهم الا ان تكافح في سبيل الله والوطن حتى تستوفيهم المنية.
ويقول الصمة القشيري في ذلك:

" واذكـر أيـام الحـمى ثـم انـثني على كبدي من خشية ان تصدعا
فليست عشيات الحمى بـرواجع عليـك ولـكن خـل عينـيك تدمـعـا
بكت عيني اليسرى فلما زجرتها عن الجـهل بعد الحلو اسـبلتا معا".
فما بالك ايها الرجل لا تبكي؟!

تصور الكاتبة مدى صعوبة فقدان وموت اقرب الناس اليك ، اباك،امك! ، فهما علة كيانك وغذاء روحك ... ماذا عن ابنك؟! فلذة كبدك! الا تبكي؟
لا ضير في ذلك ، فهاك ابن عبادٍ يكبح جماح عواطفه لحظة علمه بوفاة ابنه ، حتى تحقق من الامر دون اندفاعٍ للطلب بالثأر ، فقد تأنـّى ولم يتسرّع في اتخاذ الامور على اساس حدث محزن ، حتى ظهرت له الحقيقة بأن ابنه قـُتِلَ بشكلٍ مهين ، وحينها طرد الموجودين ثم اجهش بالبكاء .

وتصور ايضاً مدى سعادة اللحظة حين تنتظر مولوداً، فهناك الكثيرون ممن طال انتظارهم حتى منّ الله عليهم بطفلٍ، ألا يستحق عبرة؟ .. الا يستحق
دموع الفرح حين يكبر امام أعين ذويه حتى يـُزف ويصبح رب منزلٍ وعائلة ؟!

تحث الكاتبة الرجل هاهنا للبكاء على مواقف عديدة اخرى، منها : حين يـُزف الى شريكة دربه وحب حياته، حين يـُسجن ظلماً واجحافـاً لذنبٍ لم يقترفه ، حين يفقد قدرة وهبه الله اياها في حادث او ما شابه ذلك ، فيقعد ملوماً محسوراً ساعتئذٍ، حين ينجو من مصيبة ألمت بالجميع عداه ، اذ يتمنى الجميع ان يكونوا ذاك الشخص الناجي.

تـُضفي الكاتبة جوّاً من الايمان على النص بلفتة جميلة ، فتـصوّر للرجل وللقارئ مشهد الوقوف بين يدي الله زائراً بيته الحرام - الكعبة المشرفة ، حيث لا تخرج من هناك الا عفيفاً طاهراً كيوم ولدتك امك ، حيث يكفـّر الله لك عن ذنوبك ومعاصيك!ان هذه المواقف كفيلة بأن تبكيك.
يقول القحطاني في خوفه من الله عز وجل :

" قم في الدجى واتل الكتاب ولا تنم فتـُساق من فرشي الى الاكفان
يا حــبذا عيْـنـان في غــسق الدجـى مــن خــشــيــة الله بـاكـيــتــان".

في نهاية المطاف تكرر الكاتبة الثيمة المركزية بنصح فئة الذكور بالبكاء ، فهو السبيل لتطهير النفس من الشوائب والآثام ، فأحد السبعة الذين يظلهم الله يوم لا ظل الا ظله رجل ذكر الله خالياً ففاضت عيْـناه !.

موقفي ووجهة نظري :

بداية ذي بدء ، اود ان اسهب فيما تم ذكره في النص ولم تتوسع به الكاتبة ، الا وهو الفرق بين دمعة الرجل ودمعة المرأة .
ان سر بكاء المرأة اكثر من الرجل يرجع الى الاختلاف الفسيولوجي والهورموني بينهما ، وبما ان البكاء هو نوع من التأثر الشديد والحساسية المفرطة ، فالمرأة هي الاكثر بكاءً، فقد خلقها الله عز وجل من ضلع آدم الاعوج ، وعبراتها هي الوسيلة الوحيدة التي تلجأ اليها للتعبير عن ضعفها وقلة حيلتها او لشدة حبورها وغبطتها ، ولانها بحاجة الى عطف من حولها ولا تجد وسيلة للتنفيس عن الضغط النفسي الا بالبكاء. وفي هذا دليل على مدى شفافية احاسيسها الفياضة ومدى طيب قلبها .
اعتماداً على ما ذكرته سابقاً، وتبعاً لخشونة التكوين الرباني للرجل، فإنه الطرف الاقوى، كقول رسول الله – صلى الله عليه وسلم - :" الرجال قوامون على النساء" ، ولذا فإن دموعه عزيزة عليه ، فإن خرجت فستحرق كما الجمر ، فكل دمعة من العين هي جرح في القلب .
ان كلامي هذا لا يعني بتاتا ان على الرجل الّا يبكي ، فالبكاء صفة فطرية وفسيولوجية لدى الانسان ، وهو الراحة للنفس والروح والجسد. وبالتالي فإن اجبار الذكر على كبت مشاعره الحقيقة وتجاهلها واظهار ما لا يشعر به يـُحدث فجوة عميقة ما بين الواقع وبين ما يـُظهـِره . لقول شاعر السن :
" تضحك والاحشـاء تحــترق وانما ضحكـُها زور ومختلق
يا رُبّ باكٍ بعين لا دموع لهـا ورُبّ ضاحك سنّ ما به رمق".
و أوافق الكاتبة حين اشارت الى ان ذرف العبرات هو دليل على امتلاك الرجل لقلب نابضٍ نقي يتأثر بما حوله ، وليس كحجار الصوان التي لا يفتتها شيء؛ وهو اثبات لحضور المشاعر والرهفة والخشوع في القلب.
هنالك مواطن لا بد للرجل ان يبكي بها ، ومواطن لا يجب البكاء فيها ، لانه يـُعتبر ضعفاً لان الرجل هو السند ومصدر القوة للاناث ، فإذا اظهر قلة حيلته امامهن فستترسّخ القناعات السلبية في عقولهم بعدم وجود حل للموقف، لان القادر على ذلك قد وهن ، فكم بالحري بنا نحن فئة الاناث؟!
لذلك ، فمن الافضل للرجل ان يتمالك نفسه قدر المستطاع ، وان يخفي

ضعفه عن اعين الخلق التي لا ترحم . ففي قضايا كثيرة يـُغالي في تحليل المواقف، فتكون النتيجة اتخاذ القرار الخاطئ، لأن العقل له تفكيره وكذلك هي المشاعر. سالم الزير كان مثلاً حياً على هذا الشيء، فإن تأثره المفرط بوفاة اخيه ، بعد ان اعتقد بأنه حازماً لدرجة التجبر والتصلب، جعله ينصاع لعويل وتحريض النساء له فأدّى ذلك الى ما يشبه المجزرة.
يبكي الرجل حين ينتظر محبوبته فتتخلف عن موعدها ، بينما لا تهتز له شعرة عندما يفوته اهم موعد مع فاطر السموات والارض حينما تفوته الصلاة !
يبكي عندما يتأثر بكلام وغناء المطربين ، بينما تتجمد احاسيسه ويتصلب فؤاده حين ينساب كلام الله الى اذنيْه.
يبكي عند رؤيته مشهداً رومانسياً في التلفاز ولا تزأر فيه الشهامة حين يعلم بأن الملايين من الابرياء تـُسفك دماؤهم كل يوم !
عزيزي الرجل .. ما بالُك توهمنا وتوهم نفسك بجبروتك وعدم ذرفك للعبرات ، وانت عكس ذلك فيما يتعلق بأمورك الدنيوية؟!
ما بالك لا تبكي لآخرتك؟ لوطنك؟
ابكِ ، اجل ابكِ ، فكم يحتاج مثلك للبكاء، ودع كبرياءك وغطرستك جانباً، واذرف دموعك ، فبحق السماء ماذا كنت تفعل لحظة ولادتك؟ أكنتَ تضحك؟
سأضع بين يديك ابيات شعر للعباس بن الاحنف لتتفكّر وتتأمّل بها علّك تعي ما انت فيه :
" يا ايـها الرجـل المعــذّب نفسـه أقصِر فإن شفاؤك الاقصار
 نزف البكاء دموع عينك فاستعر عيناً يعيـنك دمعها الـمــدرار
مـن ذا يعـيرك عيـنـه تبـكي بـهـا أرأيـت عـيـناً لـلبـكـاء تـعــار".

الخصائص الاسلوبية :

ينتمي النص الذي امامنا الى ادب المقال الذاتي.
تعريفها :
المقالة كما يعرفها أدمون جونسون ، فن من فنون الأدب ، وهي قطعة إنشائية ، ذات طول معتدل تُكتب نثراً ، وتُلِمُّ بالمظاهر الخارجية للموضوع بطريقة سهلةٍ سريعة ، ولا تعنى إلا بالناحية التي تمسُّ الكاتب عن قرب .
والمقالة ـ بتعريف آخر ـ قطعة من النثر معتدلة الطول ، تعالج موضوعاً ما معالجة سريعة من وجهة نظر كاتبها ، وهي بنت الصحافة نشأت بنشأتها وازدهرت بازدهارها .
كلمة " موضوعاً ما " في التعريف تعني أن المقالة من أكثر الفنون الأدبية استيعاباً وشمولاً لشتى الموضوعات ، فموضوعات كالتضخم النقدي ، وأساليب الإعلان والتخدير بالإبر ، لا يمكن أن تحملها أجنحة الشعر ، ولا حوادث القصة ، ولاحوار المسرحية ، والمقالة وحدها تتقبل مثل هذه الموضوعات ،وأية موضوعات أخرى وتجيد توضيحها وتحسن عرضها .
وكلمة " معالجة سريعة " في التعريف تعني أن كاتب المقالة ، مازاد على أنه سجل تأملات ، أو تصورات أو مشاهدات تغلب عليها العفوية والسرعة ، فلو كانت المعالجة متأنية فجمعت الحقائق ، وفحصت وصنفت ، واعتمد على الإحصاء ، والتجربة والمتابعة ، لعُدَّ هذا العمل بحثاً علمياً ، وليس مقالة أدبية .
اما بخصوص المقالة "متى يبكي الرجل؟" فتتبع الى القسم الذاتي :
وهو المقال الذي تظهر فيه شخصية الكاتب بشكل آسر وقوي من خلال عرض القضايا ممزوجة بمشاعره , أو عرض الكاتب لقضاياه الشخصية .
ويستخدم الكاتب في المقال الاسلوب الأدبي المعروف , حيث يعتمد على اللغة الرفيعة والصور الخيالية المعبرة والإيقاع المؤثر .


ويشبه المقال الذاتي الشعر الغنائي في تعبيره عن انفعالات الأديب وعواطفه دون أن يلتزم بالأوزان والقوافي الخاصة بالشعر .وقد يستخدم بعض الكتاب المحسنات البديعية كالجناس والطباق والشجع والمقابلة ولكن دون تكلف وكلما كان الكاتب منساقاً مع طبيعته بعيداً عن التصنع نجح في توصيل موضوعه إلى القراء .

عناصرها:

1- المادة :
هي مجموعة الأفكار ، والاراء ، والحقائق ، والمعارف والنظريات ، والتأملات ، والتصورات ،والمشاهد ، والتجارب والأحاسيس ، والمشاعر ، والخبرات التي تنطوي عليها المقالة.

2- الأسلوب :
وهو الصياغة اللغوية ، والأدبية لمادة المقالة ، أو هو القالب الأدبي الذي تصب فيه أفكارها .

3- الخطة :
تتألف من مقدمة ، وعرض ، وخاتمة .
أ- المقدمة :هي المدخل وتمهيد لعرض آراء الكاتب. 
ب- العرض ، فهو صلب الموضوع ، وهو الأصل في المقالة ، وفيه تعرض أفكار الكاتب عرضاً صحيحاً ، وافياً متوازناً ، مترابطاً متسلسلاً ويُستحسن أن يمهد الكاتب لكل فكرة ، ويربطها بسابقتها ،ويذكر أهميتها ويشرحها ، ويعللها ، ويوازنها مع غيرها ، ويذكر أصلها وتطورها ويدعمها بشاهد أدبي ، أو تاريخي ، ويُفضل ان تُعرض كل فكرة رئيسة في فقرة مستقلة .
ج- الخاتمة تلخص النتائج التي توصل إليها الكاتب في العرض ، ويجب أن تكون واضحة ، صريحة ، حازمة .

نوعها :

اجتماعي :
وهي تنقد عادات المجتمعات التي أصبحت ضارة , أو تنقد البدع الطارئة التي لا تغني ولا تفيد . كانصراف الناس إلى ما يضرهم , ومن أهم مجالاتها قضايا الصراع بين القديم والحديث , ويجب أن تتحلّى بدقة الوصف وإجادة التحليل حتى تصل إلى التأثير المنشود.

مميزاتها:

1- المباشرة :اذ ان الكاتبة تتجه لمعالجة الفكرة مباشرة ودون مقدمات مطوّلة.

2- تعالج المقالة فكرة واحدة تركز عليها الكاتبة ، الا وهي قضية بكاء الرجل .

3- تتميز المقالة باللغة السهلة ، وذلك لان الكاتبة تحرص على ان تصل الفكرة الى اكبر عدد من القرّاء ، وعلى الاخص فئة الذكور.

طريقة عرضها:

المنهج الاستدلالي :
لقد استخدمت الكاتبة دوريس طريقة استنباطية من العام إلى الخاص .
العام هو ذكر ما تتربى عليه الأجيال الشرقية، والخاص فئة الرجال.

اسلوب الحجاج:
استخدمت الكاتبة حججا أدبية تاريخية اجتماعية نفسية ، منها عندما ذكرت مواقف بكاء الانبياء والرسل والشخصيات التاريخية الشهيرة.
علاوة على ذلك استخدمت حججا منطقية عقلية ، وذلك في تفسيرها ان الرجل في طبيعته هو كائن رقيق الأحاسيس جياش المشاعر ...الخ

ومن مقومات الحجاج :
أ – الربط بين الفقرات :
بحروف التوكيد ، حروف العطف خاصة الواو ، عبارات الإثبات .
ب‌- الربط بين الجمل :
بحروف العطف : أو ، و ، ف.
بالأسماء الموصولة : الذي ، التي .

الخصائص الفنية البلاغية:

1- الخطاب :
يظهر من خلال الطلب : "عليك ان تبكي كما النساء" ، "ابكِ فالبكاء من شيم...".
ومن خلال الاستفهام : "ألا يبكيك عندما تزج في غياهب السجون ظلماً...؟" ، "الا تبكي ان كنت زائاً وحاجاً لبيت الله...؟".

2- استعارة :
" تهب عليه مشاعر الفرحة" ، "بكاء التماسيح" .

3- استفهام بلاغي – استنكاري :
" الا يبكيك عندما تتعرض لحادث وافتقدت احد اعضاء جسدك ؟" ،"ألا تبكي يا اخي الرجل بكاء الفرح وسط زغاريد الاقارب عندما يزف لك ابن...؟".

4- تكرار:
لفظي : "الا تبكي .."، "البعيد البعيد" .
معنوي : يتمثل بتكرار الثيمة المركزية وهي ان للرجل مشاعر فياضة واحاسيس ، وبذلك فمن الحري به ان يبكي ، فالبكاء ليس عاراً ...

5- كنايات :
"دموع التماسيح" ، كناية عن دموع الرجال.
"الادران العالقة بقلبك" ، كناية عن المعاصي والآثام.

6- طباق :
طباق الايجاب:
الرجل ، النساء.
مشاعر الحزن ، مشاعر الفرحة .
جادة ، من باب المداعبة والهزل .
الحياة ، الموت.
الجبابرة ، الضعفاء.

7- الحصر والقصر :
" فما بعد البكاء الا الفرج " .

8- النفي :
"لا علاقة لها بالرجولة" ، "لا يشوبها شائب" ، "لا ندري مدى صحة هذه المقولة".

9- الاستثناء:
" لا علاقة لها بالرجولة والكرامة سوى انها عادات موروثة ...".

10- سجع :
"الى صخرة صماء لا يفتتها بكاء" ، "تهب عليه رياح الحزن فيخفيها ويتداركها وتهب عليه مشاعر الفرحة فيستجيب لها"، "بكاء النساء ونواح الخنساء".

11- التعليل :
" عليك ان تبكي كما النساء ، فهذه الازدواجية والتصارع القائم في داخل الرجل تحوله الى انسان كئيب يكبت مشاعره داخله حتى يتملكه هذا الحزن فتكون ردود فعل نفسية وصحية تنعكس سلباً على هذا الرجل".

12- تشبيهات:
"ان الرجل هو تماماً كما المرأة تتملكه مشاعر مختلفة" :
المشبه : الرجل.
المشبه به : المرأة.
اداة التشبيه : الكاف.
وجه الشبه : امتلاك مشاعر مختلفة.
نوع التشبيه: غير محسوس.

إسحار علي مصري

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى