الأربعاء ٣٠ أيار (مايو) ٢٠١٢
بقلم عبد المجيد العابد

العولمة المعلومية الاتصالية ومجتمع المعرفة الحديث

يعيش العالم ثورة معلومية هائلة انتقل كثير من المجتمعات المتطورة بفضلها إلى مجتمع الحداثة البعدية أو المجتمع المعرفي، وإذا كانت الدول العربية ليس لها حظ إلى حد الآن من هذا المجتمع المعرفي، نظرا للتخلف الهائل في نظم المعرفة بها، وتراجعها الكبير في مجال الثروة المعلومية الاتصالية التي تبنى أساسا على الرأسمال البشري والكفاءات المائزة داخل البلاد الذي لا تهتم بها هذه الدول للأسف، بحيث إن نظمها الاقتصادية لا زالت تأسرها النزعة الماضوية في الاقتصاد المبني على الثروة المادية فحسب، وإن كانت هذه الأخيرة فعلا مطلوبة في كل وقت وحين إلا أنها اليوم ليست مطلوبة لذاتها، بل لما تتيحه من إمكانات للاقتصاد المعرفي المستند إلى المقدرات المعلومية المعرفية وليس إلى أي شيء آخر.

فإذا كانت العولمة في زمننا هذا قد بدأت مشروعا اقتصاديا متوحشا بناء على الهيمنة الاقتصادية من قبل الدول العظمى على الاقتصاديات الضعيفة، وانتقلت بفعل العلاقات الدولية المتشعبة التي تتضافر فيها الجوانب السياسية والدبلوماسية وغيرها، إلى عولمة تسود في جميع مجالات الحياة القيمية والاجتماعية والحقوقية والثقافية (بالمعنى الأنتروبولوجي) وغيرها، فإن العولمة الأخطر على المجتمعات الحديثة اليوم تتعلق بالعولمة المعلومية الاتصالية، حيث يمكن القول إن الثروة الحديثة المعتد بها لم تعد ثروة موارد مادية، لكنها ثروة موارد معرفية بالأساس.

ترجع الثروة المعلومية الاتصالية المستجدة إلى طبيعة تطور المجتمعات الحديثة نفسها، حيث إن الحداثة البعدية أنتجت مجتمعات معرفية، أضحت فيها المعلومة بضاعة تباع وتشترى، وما فتئت في كثير من الأحيان تحل محل البضاعة المادية. وبالتالي، فإن تقويم التقدم ليس يكون، في المستقبل القريب على الأرجح، بما تملكه الدولة من مخزون مادي من المنتجات، بل بما تروجه من ذخيرة معلومية معرفية، ومنه، فإن اقتصاديات الثروة إذا لم تواكب هذا التقدم الهائل الذي تفرضه العولمة المعلومية الاتصالية، فستكون من الماضي بعيدة عن ركب الحداثة البعدية ومخلة بنسق السباق الذي يهم إلى حد الآن خُمُسَ سكان الأرض المرفهين الذين يشكلون لوحدهم فقط مجتمع المعرفة بامتياز.

يبرر هذه العولمة المعلومية الاتصالية الناهضة حجم استثمارات الدول المتقدمة في هذا المجال، التي أحست بهذا التغير المهول منذ مدة، حيث انتقلت نسبة استثمار الولايات المتحدة الولايات المتحدة الأمريكية، مثالا، في تقنيات المعلومات والاتصال من 4,9٪ عام 1995 إلى 8,2٪ عام 1997 من ناتجها الخام. ناهيك عما تخصصه اليابان وكوريا الجنوبية والصين وغيرها من استثمارات ضخمة في المجال المعلومي، حيث احتدم الصراع اليوم وسيبقى كذلك دائم الأوار بين شركاتها العملاقة في اختراع أحدث تقنيات الاتصال في مجال الحواسيب والهواتف والبرمجيات (ميكروسوفت، آبل...) وغيرها. وما يبرر كذلك هذا التوجه الاقتصادي الجديد أن أغنى أثرياء العالم في عصرنا الحالي هم في الغالب مستثمرون في مجال الاتصالات (بيل غيس...) كما بين ذلك ترتيب أثرياء العالم الأخير. وقد ظهرت على أبواب الاستثمار اللامادي شركات جديدة استثمرت في مجال المعلومية والاتصال، وشركات أخرى غيرت وجهتها من الاقتصاد المادي نحو هذا النمط الاقتصادي الجديد المربح، مثل قنوات الجزيرة التي أصبحت إمبراطورية قطرية بامتياز، صنعت بفضل تركيزها على الثروة الاتصالية "عولمة عربية اتصالية" قائمة على الهيمنة الإعلامية منتجة لمجتمع معرفي عربي "افتراضي" نخبوي بالأساس، كما أنها بفضل ثروتها المادية واللامادية على حد سواء أصبحت قاطرة نمو مهمة مؤثرة اقتصاديا واجتماعيا ونفسيا في معظم الدول العربية التي مازالت ترزح تحت طائلة الاقتصاد الماضوي الهش.

إن العولمة المعلومية الاتصالية تمظهرت في كثير من الأحوال بوصفها استعمارا هادئا للدول المتخلفة، حيث لم تعد التقنية جوهرا للتقنية نفسها، كما يقول هيديجر، بل غدت سلاحا فتاكا للتدخل في الاستقلاليات الثقافية للمجتمعات، من خلال ترسيخ نمط موحد يعد نمطا نموذجا يقتفى من قبل المنظومة العالمية بأسرها، وهو نمط المهيمن معلوميا واتصاليا (النمط الأمريكي في الغالب).

إن العولمة أخيرا في تجليها الاقتصادي المادي، لم تكن وليدة اليوم، بل إن هناك نزوعات عولمية عرفها العالم منذ الإسكندر المقدوني (ذو القرنين)، وإن اختلفت بحسب طبيعتها وتصوراتها بالنظر إلى تمايز ظروفها التاريخية والاجتماعية، إلا أن العولمة المعلومية الاتصالية هي وليدة عصرنا الحالي بامتياز، وستكون مآل الأجيال التي تأتي فيما بعد "أجيال المعلوميات والاتصال" التي ستجد نفسها كائنات معرفية اتصالية، مما يفرض علينا منذ اليوم، نحن العرب والمسلمين" إعادة النظر في رتق الفجوة المعلومية التي نعاني منها في جميع المجالات وعلى رأسها المجال التعليمي الذي يعد معين كل نهضة حدثت وستحدث عبر التاريخ.
فإذا لم نعر اهتماما خاصا في منظومتنا التربوية بالأساس للثروة المعلومية قبل كل شيء، فإن هذه الفجوة ستزيد اتساعا، وسنبقى متخلفين عن الركب بآلاف السنين، لأن وثيرة التطور سريعة جدا في هذا المجال وقدراتنا إلى حد الآن لا تسمح لنا ولأجيالنا المستقبلة بتدارك التأخر ومسايرة الركب. إن السياسة التعليمية الناجعة المستثمرة لمنتجات العصر الحديث والمستفيدة من هذا التطور الهائل في تقنيات الاتصال والمعلومات هي الكفيلة بانتقال مجتمعنا التقليدي إلى مجتمع المعرفة الذي ننشده ونتغياه، إذا عزمنا على مجاراة طبيعة التحولات الاجتماعية التي تعيشها المجتمعات المعرفية الحديثة، التي تجاوزت كثيرا من النماذج الماضوية التقليدية، وغيرت من نظرتها للزمان والمكان، وكسرت الحواجز بين المنظومات التقليدية التي تنوء بكلكلها وتأسر كل تقدم ونهضة منشودين.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى