الخميس ٣١ أيار (مايو) ٢٠١٢
بقلم هيثم نافل والي

قارئ الكف

تنويه:

من الحقائق ما هو اعجب من الأحلام... وهذه الحكاية هي اعجب الحقائق صدقاً، وأكثرها حزناً، فهي تضاهي الموت في قسوته! على الرغم من إنها تنافي طبيعة الأشياء وتناقض الأمور المألوفة لدى الناس.( المؤلف)

ليتني لم أعط له يدي اليسرى!

لقد تحولت حياتي بسببه إلى جحيم لا يطاق، تباً لي... ماذا فعلت بنفسي؟! ليأخذني الشيطان.

بهذه الكلمات القاسية، المتشائمة المليئة بالحسرة والندم؛ سجلَ ستار في دفتر مذكراته ما كانَ يعاني من ألم وحرقة وعذاب قبلَ أن يهجره العقل وقبل أن يستسلم للضياع والبؤس...

تعرفت عليه بالصدفة في ميونخ؛ عندما كنت أجلس في مطعم عربي بائس، فقير يتناسب وحالتي المادية، خاصة وأنا كنت حينها طالباً أدرس الهندسة الزراعة في جامعة المدينة وعلى نفقة أهلي الخاصة!

أعجبتني هيئته المتواضعة، وحرصه في النطق، وهدوءه الذي ينسجم ووقاره الحكيم... ابتسمت له وأنا أرحب به ضيفاً على طاولتي التي سبقته إليها وأنا أتناول غدائي، عند ذلك النهار اللطيف، الذي يذكرني بأجواء الخريف البغدادي الظريف والذي لا يخلو من تناقض، كطبيعة وقدر الأشياء التي نحياها!

رد على ابتسامتي ودعوتي بالتحية وهم بالجلوس وهو يقول بهمس، كالغزل: شكراً لكَ... ثمَ أردف: أنا ستار، أعيش هنا منذ سبع سنوات، وسألني مباغتاً: وأنت؟

 أنا سامي، أدرس في جامعة ميونخ منذ سنتين... ثم تبادلنا المعلومات... وأصبحنا معَ الوقت، صديقين لا يستغني عن بعضنا البعض، إلا ما ندر.

لم ألحظ عليه في البداية أي أعراض قهر أو هوس أو ميول تسترع انتباهي... وفي كل مره أراه فيها أجده منتظماً، دقيقاً، صادقاً وحقيقياً، كالذهب الخالص؛ لا يحب التزلف أو الكذب أو المحاباة ولم أجده يعتنق أي مذهب من مذاهب الشرور! جادا في منطقه، حريصاً على وقته؛ لكن بدا يتمتم في الفترة الأخيرة برنة( فهمتها على أنها رنة اعتراف منهزمة) في حين كانت نظراته أو كادت تنطق بصدى حزين جهلت أسبابه، نظرات لها طعم الهلاك، ممصوصة وكأنها لميت أو على أقل تقدير نظرات لم تعد تهتم لرؤية العالم، وكأن مذاق الحياة أصبح بالنسبة له، كالتراب! وهو يزداد نحافة وهزالا وشعره أنقلب بينَ ليلة وضحاها أبيض بلون القطن؛ وهو دائم الإسهاب والسرحان وكأنه في حلم أبدي لا يريد أن يستيقظ منه أو ينتهي...

لاذ بالصمت وكأنه الفردوس؛ ومعَ ذلك لم أتجرأ أن أسأله عن أمر لا يحب هو الإفصاح عنه، فبقيت حزيناً كحزن نظراته، وأراقبه بقلب ملتهب، كشعلة؛ وتمنيت أن يأتي اليوم الذي يصارحني فيه، عن ما تخزنه ذاكرته، وما يقلقه... ولم أفز بذلك اليوم حتى قابلت أستاذ علم النفس والاجتماع في الجامعة لأستشيره في أمر صديقي... فرويت له وبنفس مقطوع، مذكراته التي خطها بنفسه، كنقش على الحجر؛ بالحرف كما دقها على الورق، بعد أن تركها بين يدي ورحل إلى مكان مجهول، لم أعثر عليه طوال سنة كاملة؛ رحل ستار بعد أن فاض فيه حنين موجع وحسرة آسرة، جعلته سجيناً خلف قضبانها... وهو يود أن يصرخ خزناً، ليهز كيان وأركان الأرض... لكنه رحلَ وهو صامت، وكأنه يقلد الموت في صمته! أو يريد بذلك الاقتراب من صميم الآخرة...

مازالت كلماته الأخيرة ترن في أذني كالصدى عندما كان يردد: بريبة وحذر شديدين: لابد أن الجحيم يتسع لأكثر من شخص؛ فلا خوفَ عليَّ إذن!

هرب ستار من سجانه الوهمي المحتوم، وهو يرنو درباً آخر جديداً، لعله يلهيه عن مأساته أو يجعله يحيا على غير ما تنبأ به قارئ الكف، وكأنه يطلب من الندم أن يرحمه!

يئست من العثور عليه أو الاهتداء إلى طريقه... قررت أن أسأل في شأن ما خلفه من مذكرات، أستاذي في الجامعة، ورحب الأخير بصدر واسع وهو يردد بوقار: أنا أعلم بأنكم يا معشر الشرق، تخبئون أحزانكم كما سعادتكم في قلوبكم كالأسرار... وما أكثر أسراركم وما أعظمها!! ثمَ ابتسم بصدق وأردف: سأصدق كل ما كتبه صديقك، كما صدقت تاريخكم المليء بالمعجزات من قبل! ثمَ قال وهو يعدل من جلسته، وكأنه يتهيأ للأكل: هات ما عندك وأنا كلي آذان صاغية...

ابتسمت له مجاملاً، كعادة الإنسان الشرقي في التملق والمحاباة! وأنا أفتح دفتر ستار... ثمَ بدأت أقرأ بحذر ورهبة وحرص:

ليتني لم أعط له يدي اليسرى!

لقد تحولت حياتي بسببه إلى جحيم لا يطاق، تباً لي... ماذا فعلت بنفسي؟! ليأخذني الشيطان.

الكتابة، كالكلام... فن لا يتقنه إلا فئة قليلة من أصحاب المواهب والميول الأدبية والفنية؛ وأنا أعرف نفسي جيداً، لا أنتمي إلى حظيرتهم، ولم أكتب يوماً شيئاً ذا بال؛ ولا أعلم السبب الحقيقي الذي يدعوني للكتابة الآن وبهذه الطريقة المكشوفة! قد يكون الألم هو السبب أو الحسرة والحيرة وقد يكون الندم والاستغاثة؟! وقد يكون لا هذا ولا ذاك؛ وقد يكون قارئ الكف أو الشيطان نفسه هو الذي يغريني ويدعوني للمضي في تسجيل هذه المذكرات وما حدث قبل تسع سنوات تقريباً... وبالتحديد في تلكَ الجلسة التي أمقتها، والتي من خلالها وقفَ بجانبي وبعوده الرفيع قارئ الكف الذي ظهر علينا كالقضاء، ونحن( أنا وزوجتي وصهري وأخته) جالسون في المقهى، نتباحث بهمس وبصوت لا يكاد يسمع لخوفنا من رجال الأمن ونحن نخطط للهروب من العراق بشكل غير قانوني، جراء الحرب والحصار الذي ضرب وطننا كالزلزال.

سألني قارئ الكف( الذي له شارب مميز، أبيض ويبدو كهلال مقلوب) دونَ غيري، بقوله: اسمح لي أن أقرأ لك كفك، وسأخبرك بما يخبئه لك قدرك... ثمَ أردف بتأكيد، وكأنه سمعنا: خاصة وأنتم تخططون للهرب والعيش خارج العراق!!

تجمدت أطرافي، جفَ حلقي فجأة، وصمت الجميع، وكأننا نمثل دور الأصنام... وبعد أن أفقنا من نوبة الصمت التي انتابتنا، أجبته بحزم: ليكن، وبسطت له يدي اليمنى، فرفض وقال بتصميم: اليسرى من فضلك!

 ولماذا؟

 لأنها بريئة لم تأت بإثم أو خطيئة، ثمَ أردف مختصراً، مقتضباً: ولم تثر حنق أو غضب ربك! وصمت وكأنه ينتظر.

زاد قوله من حيرتنا واستغرابنا وقلقنا، ونحن ننظر له ببلاهة، مشفقين على أنفسنا من هول الموقف؛ فصرخت هاتفاً بجزع: خذ... فغرق كفي الأيسر في يده وهو يتفحصه بمهل، كما يتفحص الصائغ الذهب! وقال بعدَ أن جلس بجانبي دون دعوة:

ما أخطر حظك وأتعسه!! ثمَ أردف بنبرة غريبة، ثقيلة، ومخيفه وكأنه ساحر أو مشعوذ، وهو يدقق بنظراته على زوجتي وصهري وأخته( تلك النظرات التي أوحت لي بإن نصفها كان إغراء)

قال وكفي مازال رهينة في يده: ستغادرون العراق دون مشاكل، ثمَ استطرد بتشاؤم عجيب: ستقيمون هناك بعيداً، سعداء لوقت قصير فقط! ثمَ فرك كف يدي بقوة وهو يهمس: خاصةً أنت، ستعيش لحظات موتك ببطء معذب، أما الآخرون... وهو يقصفهم ببصره: سيموتون جميعاً وهم مازالوا شباباً... ثم صمت، وكأنه فارق الحياة...

بهت كما بهت الجميع؛ تحولنا فجأة إلى تماثيل من الشموع وسط دوامة من الذهول ونحن لا نصدق شيئاً مما نرى ونسمع؛ فقام صهري من مجلسه وصاح به آمراً: أغرب من هنا حالاً يا إبليس... وإلا سترى ما لا يرضيك( وهو يلوح بيده غاضباً ممتعضاً)

 سأذهب يا سيدي، لكنك ستموت بعد أن ترى موت أختك، وهم واقفاً ينوي المغادرة؛ فاستوقفه صهري وهو يسأله مستغرباً: كيف عرفت بأنَ الجالسة بجانبي هي أختي؟! ها... انطق وإلا... فقاطعه قارئ الكف بهدوء الحكماء قائلاً: ستدفنها وتبكي عليها ومن ثم تموت.

فصرخت به دون وعي، بعد أن حول جلستنا إلى كابوس لا يطاق: أنت يا وجه الغراب، اذهب من هنا حالاً... وأنا أبلع ريقي بصعوبة بالغة، وكأن في حلقي نواة لخوخ بري كبيرة أبت أن تدخل أو تخرج.

لم أكن إلا ضحية؛ وما زلت على الرغم من معرفتي المسبقة بأن هناك ثلاث أشخاص سيلقون حتفهم قريباً، وسأشهد لحظات موتهم وسأعيش موتي وكأنه الحياة نفسها، وأبقى صامتاً كالأخرس! يا له من رهان خاسر ومدمر... كيف لا وأنا الشاهد على المأساة وناقلها!! ولم يدم بقاؤنا في العراق بعد تلك الجلسة المشؤومة سوى بضعة أسابيع ثم غادرنا بلد الرافدين دونَ رجعة ونحن لا نحمل معنا سوى بعض من أمتعتنا وذكرياتنا بما فيها تنبؤات قارئ الكف الملعون؛ وأقمنا في الغرب، حيث الحرية والأمان؛ حيث الحضارة والحياة... التي تبهر وتخدع وتوهم، أكثر مما تقنع وتسعد وتفرح من الأعماق!

في خضم الحياة الجديدة السريعة البراقة التي لا يتغير في روتينها شيء سوى الكلمات الجديدة التي نتعلمها بصعوبة بالغة... ورضينا بقدرنا وقد توهمت بأن القدر هو الآخر رضي بنا وقبلنا في حظيرة الغرب دون امتحان لنفسية أو امتهان لكرامة؛ وسررت لهذا الاتفاق غير المبرم! ونسيت تماماً ما قاله لنا في حينه قارئ الكف، ولم يزورني طيفه أبداً...

انقضت سبع سنوات ونحن نتمتع بسعادة وهمية... فالاتصال الهاتفي الذي وصلنا من صهري(ج) معلنا فيه موت أخته(س) نتيجة أزمة قلبية مفاجئة؛ جعلتني كما جعلت زوجتي نتذكر قارئ الكف،وكأنه ماثل أمامنا للتو... يشاركنا أحزاننا ويعازينا في موت أخت زوجتي، وعلى هذا النحو المفجع.

صدمنا من الأعماق وفي الصميم، كشوكة غرست في القلب... وخفنا من مصيرنا، وكأن الموت يركض وراءنا سريعاً، أسرع من الضوء... كما أخبرنا ذلك الوغد، الذي له وجه الغراب، وفي رنة صوته التي مازلت أتذكرها جيداً، لها رنة الأفاعي وهي تتوثب للدفاع عن نفسها؛ ولنظراته سموم يذرها على العيون، كالسحر... لا يشعر فيها المرء إلا بعد فوات الأوان. فبدأت حياتنا تنزلق نحو المأساة بسرعة البرق، ونحن ننتظر رحيلنا عن الحياة في كل لحظة، بل عند كل صرخة أو انفعال أو حركة نأتي بها... فتحولت حياتنا سلسلة من الفزع والخوف والرهبة؛ أصبحنا نحذر كل شيء، ونشك حتى في أنفسنا... يا لها من مأساة لا تريد أن تنقضي...

لم تمض سوى ثلاثة أشهر من موت( س) حتى فاجأنا صهري بأنه يعاني من آلام حادة في معدته؛ صعقنا بالخبر في الوهلة الأولى، وسرعان ما سرى في جسدنا شعور غريب بالراحة، فتحولت نظراتنا الخائفة الزائغة إلى نظرات تنطق بابتسامات لا ندرك لها أي معنى، وتذكرت قول الشاعر المراني، عندما قال:

يسير الناس تدفعهم مناهم
وقد بسطت لسيرتهم دروب
فمنهم من يسير على هداه
ومنهم من يسيره غريب

لم يقاوم صهري المرض طويلاً، فارق الحياة وهو يهزأ من قدره... مات بعد أن دفن أخته! فصدق قارئ الكف، ويا ليته كانَ كاذباً أو حاسداً أو حتى منافقاً... لكنه للأسف كان صادقاً... وهذه هي مأساتنا التي نعيشها وعلينا تحملها كما هي... والقادم هي زوجتي!!

اعتكفت المنزل، ولم أود كما كنت من قبل أن ألتقي بصديقي سامي؛ أبكي عذابي بصمت... وماذا عسى أن أفعل، فزوجتي لم تعد تهتم للقضية كلها، وغالباً ما كانت تردد بإيمان حقيقي: الأمور التي واجهتنا كلها حدثت بمشيئة الله، ولا دخل للمشعوذ ذاك من دخل فيها... ثم تردف بحزم وتصميم خارق عن العادة وحتى عن طبيعتها التي أعرفها جيداً: إنهم أخوتي، وهذا كان عهدهم في الحياة، وهكذا كتب الله لهم... وتابعت بشغف: هذا قدرهم ومن الجنون والكفر لو صدقنا قول قارئ الكف، وبأننا سنموت أيضاً؛ فقاطعتها قائلاً، وأنا أردد كلام الساحر: ليس تماماً... فالتالي هو أنتِ، وأنا سأرى موتي وأعيشه ببطء كما قال وتنبأ!!

 فتضحك زوجتي مني هازئة وهي تردد: ما عاد يهم أو يلهمني شيء... بعد أن رحلوا عني أخوتي وتركوني أحيا الغربة من دونهم؛ ثم قالت باستخفاف شديد: لن أهاب أو أخاف الموت، وليأت إن أراد فأنا جاهزة ومستعدة...

انقطعت عن العالم أجمع والحياة، وباتت عزلتي كميت في قبر، أقضم أفكاري وأداري وهمي الذي هو كحقيقتي، وكأنني أخطط للمستقبل!

لم يحدث أي شيء مما كنت أخافه، طوال سنتين كاملتين، وكدت أصدق قول زوجتي، لولا وفاتها المفاجئة وهي نائمة بجانبي كالملاك... أصبحت جثة هامدة في لحظة منسية، تناساها الله فيها ولم يتذكر إيمانها به، فتركها للقدر الذي كشفه قبل أكثر من تسع سنوات ذلك الذي له وجه الغراب... قارئ الكف.

أحترقت لوعة وألم وانهارت قواي، كسهم أصاب القلب بالحقيقة التي كان يقصدها: سأعيش لحظات موتي ببطء معذب في الحياة، فيا له من موت مقدر ومكتوب... ووعدت نفسي وأنا في حالة إعياء تام، يائس بلا رحمة، قاس كالموت نفسه: سوف لن أسمح لقارئ كف ثانية أن يقترب مني أو يقرأ كفي الأيسر أبداً... ثم غرقت في موجة من الضحك الهستيري الذي جعلني أتوقف عن الكتابة عند هذه الحدود وأستعد لمقابلة صديقي سامي، ولأعطيه هذا الدفتر الذي ماتت في حناياه أجمل وأروع وأعز الذكريات في حياتي وما صادفت... ولأودعه دون رجعة... سأمضي بعيداً، أهيم على وجهي لا ألوي على شيء، كمجنون هارب من قدره؛ ولكن هل هناك مفر من القضاء؟! الذي له سلطان وجبروت على الجميع كالزمن.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى