الخميس ٧ حزيران (يونيو) ٢٠١٢

هلا سألت الخيل...

زاهد عزت حرش

تُغمض الذاكرة مسامات الرحيق الآتي من غياهب الماضي السحيق، متلهفة لجرعة مجد على بساط الذكريات.. علها تتوالف في تجانسها مع ما نصبوا إليه وما نريد!! كيف انبثق هذا الحلم بين جفنيك يا صديقي ماهر الصفوري.. كيف انبثق؟؟ ومن أيفظك في ساعة وهم سرمدية لتلقي أمام ناظري بما ابدعه حدسك وقلبك ويداك!!

هي الخيل إذًا..
أيام العزة والفخر والتاريخ المجيد.. ومع هذا، لا أجد الوقت مناسبًا للدخول في متاهات الزمان الغابر، كي لا يبقى واقعنا معلق على حلم الذكريات، لا على حلم الآتي من مجد لا يلوح في الأفق!! فأنا لا اسمع إلا قرع طبول الصراع القبلي في دنيا العرب.. فتعود لي رائحة غبار حرب البسوس وداحس والغبراء.. وأسباب وقوعها يعود لناقة وخيول! بيد أن خيولك يا صديقي مفعمة بالرجولة.. طاغية في الحسم، واثقة الجمال، عصية على البكاء.. كأنها حلمنا الأبدي.

يقول بابلو بيكاسو: “الفن يمسح عن الروح غبار الحياة اليومية.” وهذه أعمالك تساهم بشكل ملموس في عملية مسح الغبار عن حياتنا اليومية، فهي تعطي للمتلقي لها، ذاك الفضاء المتجانس في الأبعاد والمنظور والخيال.. لتستقر في ذاته ساكنة ملهمة، كأنها حبيبات طل على شفة الصباح. مستوحاة أعمالك "الخيول" من واقع المكان الذي تعيش.. ونعيش نحن فيه! وقد حملتَ كل "حصان" في لوحته، لتنقله من مربطه إلى فضائنا اليومي.. ليلتقي به كل من يشاء.. ولا يستطيع.

في اللوحة التي تحمل اسم "أبرار" نجدها هادرة كموج البحر, صاخبة واثقة كالثورة، ملهمة جامحة كالواثق يخطو على أمل.. في حين جعل ماهر في البساط المتقدم من اللوحة، مشهدًا يوازي الواقع الحياتي للمجتمعات العربية قاطبة، فالأرض مصفرة جرداء.. أشجارها عارية رمادية، مغبرة كواقع الحلم العربي. وفي بساطها الممتد في الخلف، أفق يحمل في سناه أسراب الطيور وغيوم العطاء الأخضر!! تذكرني بزمن كان للعرب به أمجاد! ومع هذا فقد لفت انتباهي، انه رغم جموحها فإنها موثوقة بحبل ينساب أمامها على وقع الريح لا على وقع هديرها.. وباعتقادي انه لو كان المشهد بدونه لكان أفضل.

في لوحة الحصان "زمزم" نلتقي بالتحدي، بالشبق، بالعنفوان.. فهي عمل جميل من عدة جوانب.. الضوء، اللون، الحركة، البعد ألمنظوري، كأنه "منتصب القامة امشي" رغم أسوار الحجارة السوداء الجاثمة من حوله! هل لهذه الحالة علاقة بما يعاني منه شعبنا الفلسطيني من واقع الاحتلال!! ربما جاءت المصادفة بالحدس لا بالقصد.. لكنني أراها كذلك. وفي هذه اللوحة كما في سواها، فمعظم الموتيفات موظفة في أكثر أعمال هذا المعرض، لتدل على عمق التعاطي الفني بين ماهر وأعماله هذه، وهو بذلك يثبت أنه قادر على إنجاز أي عمل شرط أن تكون له رغبة صادقة في ذلك.

هل يتأمل الحصان.. ويُطرق في التفكير كالإنسان؟ ربما!! ففي لوحة الحصان "رشوان" حالة ترنو إلى صورة لنظرة فلسفية ساهية عما يحيط بها.. أو عازفة عنه. ورقصة الرقش بالفرشاة التي انجزها ماهر على بعد قريب منه.. توحي إلى تلك الأفكار المتشعبة فيه! في حين انه متيقظ النظر مستعد لكل ما يأتي وما لا يأتي. أما لوحة الحصان "يزن" فأن العلاقة بين الحصان والخلفية جاءت موفقة حد التقاط صورة فوتوغرافية.. وتجانس العلاقة ما بين اللون والحركة فيها، لا يترك أي مجال للشعور أو الإحساس، بان الحصان مركب على الخلفية، أنما منبثق منها.. وهي اللوحة التي جاء لظل الحصان دور فيها، كي يتأكد ذلك الإحساس بتوافقها ودلالتها.

في لوحة "دوحة" الحجارة العتيقة، العشب وأزهار الربيع، والحزن!! ففي ملامح الحصان حزن عميق.. لا نرى ذلك في سهوة عينه فقط.. إنما في تطبيق فمه أيضًا! وهل تحزن الخيول يا ترى؟! يقال إن "الخيل تحلم وتصدر أصواتًا تشير إلى فرحها وحزنها حسب حالة الحلم".. في حين أن ريشة ماهر جعلتها تحزن في يقظتها ليروي قصة ما.. ربما هي رواية الحزن العادي للإنسان العربي في هذا الزمان. بيد أن الجدير بالذكر، أن الرسم هو التصوير أيضًا.. ففي أعمال ماهر هذه، تكمن دلالة لهذا النوع من الرسم التصويري.. الذي يشبه عمل آلة التصوير الفوتوغرافي.. مع العلم أن الصورة الفوتوغرافية تحمل ملامح اللحظة وحسب، وتحمل في بعض الأحيان صبغة فنية راقية إذا كان المصور فنانًا أيضًا.. بيد أن أعمال الرسام ماهر صفوري المتمكن من أدواته الى حد ما، تحمل صيغة من ذاته وإحساسه، لتترك رحاب لا متناهية من التخيل استرسالاً، وعبورًا باللوحة ومضامينها إلى الشمولية، بحسب المتلقي لها وثقافته وإدراكه.

عند تجوالك في رحاب المعرض.. حتمًا ستلتقي بلوحة "مروان الشقب".. هنا عليك التوقف والإمعان بالنظر.. لا تقرأ اللوحة من خلال ذاكرتك للأشياء التي تراها.. إنما حاول أن تبحر في ثناياها، اذهب معها إلى حيث هي تريد! فهذه الجميلة الأصيلة العربية.. صقلاوية، شويمية، تعود إلى اعتق بطون الخيل عند العرب.. لما تحمله من مزايا جمالية راقية في تكوينها، وقد استطاع ماهر أن ينقل هذه الملامح في تكوينها وتصويرها بشكل جميل حقًا.. أنا لست خبيرًا في نوعية الخيول العربية.. لكني هكذا أحسست.

أما بعد..
فعذرًا صديقي ماهر.. فهناك لوحة "غزال شقب" تعود لأحد الأمراء من بلاد الذهب الأسود، رغم جمالها وعنفوانها وميزاتها، ألا أنني لا استطيع الكتابة عنها، لأنني لا أكتب عن الأمراء، لا عن كلابهم ولا عن خيولهم!!

في نهاية الأمر تبقى كل قراءة للوحة ما، أو تفسيرها، أو البحث عما تحمله في ثناياها، اجتهاد شخصي لكل متلقي. في حين أن الأهم من كل ذلك، هو أن يتفاعل المتلقي مع اللوحة بإحساسه ومشاعره.. أن يراها بعيون قلبه، كأنه يستمع إلى معزوفة موسيقية لأول مرة، مع أنه يحفظها عن ظهر قلب.

زاهد عزت حرش

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى