السبت ٢٣ حزيران (يونيو) ٢٠١٢
بقلم مادونا عسكر

الزّانية الفاضلة (مريم المجدلية)

هوت على ركبتيها تقبّل قدميّ ذاك الّذي يتوهّج قلبه حبّاً، وفاضت عيناها تبلّل قدميه وتمسحهما بشعرها، ثمّ سكبت ناردينها تدهنهما. لم تتفوّه بكلمة بل وبصمت بليغ غرفت من حبّه بنهم لتشبع جوعاً قديماً يمزّق إنسانيّتها وتروي ظمأً لا يطفئه إلّا من هو ماء الحياة.
إنّها مريم المجدليّة، تلك الّتي يعتبرها حافظو الشّريعة "زانية" والّتي تستحقّ الرّجم حتّى الموت. حملها العطش إلى الحبّ لملاقاة المسيح بعد أن سمعت عنه. وماذا سمعت عنه؟ وما الّذي حرّك شوقها إليه؟

في عرف عميان البصيرة، تبحث الزّانية عن رجل يشبع شهوتها، تسلّم له جسدها وتقبض الثّمن. كما أنّها لا تستحق الرّحمة وإنّما الموت فهي وبفعلتها تنجّس شعب الله. يحقّرونها بنظراتهم إلّا أنّهم في سرّهم يتمنّونها.
هذه المرأة تحدّت جمعاً رفيعاً يضمّ أحد الفرّيسيّن الّذي كان قد دعا المسيح إلى الاتّكاء على مائدته. ولمّا رأى ما حصل، استاء وتململ لأنّه كان ينتظر من المسيح أن يرذلها ويمقتها ليعلنه نبيّاً. ولكن المسيح كان منبهراً بفعل حبّ هذه المرأة، ولأنّه الحبّ فهو لا ينظر إلّا إلى أعماقها الإنسانيّة. فالحبّ لا يعرف النّظرات الخبيثة ولا يلبس قناع العفّة والطّهارة يغلّف به داخله المقزّز. وهو لا يرى إلّا العمق الإنسانيّ ويبحث فيه عن الجمال ليرفعه إلى مستوى الإنسانيّة.
هذا الحبّ قاد المجدليّة إلى ذاتها، تغسلها من أيّة شائبة فتمسي أرفع من أيّ مدّعٍ أو مدّعية للطّهارة والنّقاء.

وضعت عند أقدام الحبّ كلّ ما تملك، جسدها المنحني، شعرها، دموعها طيبها الغالي الثّمن. إنّها تتخلّى عن كلّ شيء من أجل الحبّ الحقيقيّ. فلم يكن من المسيح إلّا أن يعاين حبّها الكبير ويمنحها الحرّيّة بالحبّ والسّلام.

إن كانت هذه الزّانية الفاضلة تمثّل شيئاً، فهي تمثّل كلّ أنواع الزّنى من فكريّ وجسديّ وروحيّ، وذلك لأنّ الزّنا لا يقتصر على الجسد. ولكن البصيرة العمياء لا ترى في الزّنا إلّا الفعل الجنسيّ، وتحكم على الإنسان انطلاقاً منه دون أيّ عودة للأسباب او الظّروف. لا يولد المرء زانياً ولا تستلذّ من نسميهنّ زوانيَ بوهب أجسادهن وبدل الحكم عليهنّ وجب علينا الولوج في عمق إنسانيّتهنّ لمساعدتهنّ على الانعتاق من سجنهن. بعضنا بل أغلبنا يتلذّذ بالرّجم حتّى الموت كي يخفي زناه الحقيقيّ.

وحده الحبّ يلج الذّات الإنسانيّة وينظر إليه بعين الرّحمة ليخلقها من جديد ويقوّم سبيلها. وحده الحبّ يعاين الجمال في ما نراه بشعاً ومقيتاً فيمدّ يده ويرفع الإنسان إلى أرقى درجات الكمال.
مساكين من ظنّوا أنّ المسيح اشتهى المجدليّة أو ارتبط معها بعلاقة حبّ أرضيّ. هم مساكين لأنّهم لا يرون في المرأة إلّا الغواية واستثارة الغرائز ولا ينظرون إلى الفعل الجنسيّ كفعل حبّ إنسانيّ بل كفعل إشباع لرغبة عابرة.

قادها حبّها إليه فأشرقت حياتها بالحبّ، ولمّا عاينته رفعت رأسها وسارت معه في طريق الألم ، ووقفت عند أقدام الصّليب ولم تهرب كأقرب النّاس له. تغلغل الحبّ في قلبها فنقلها من الموت إلى الحياة ومن الظّلمة إلى النّور. فالحبّ لا يعاقب بالموت وإنّما بالحبّ، ينحني بكلّ بهائه ويرفع الإنسان إلى مستوى جماله ويبدعه لوحة ناطقة بالحبّ والجمال في متحف العالم.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى