الخميس ٥ تموز (يوليو) ٢٠١٢
بقلم مهند النابلسي

مهرجان الفيلم الفرنسي

كوكتيل من المواضيع والتجارب الانسانية اللافتة يتخلله: البعد اليهودي "الحاضر-الغائب"!
(عرض نقدي مختصر لأحد عشر فيلما روائيا ووثائقيا مميزا)

كوميديا ريفية وارهاب وحفل زواج!

حرم القروي البسيط موجا من أرضه مصدر رزقه الوحيد، فقرر في فيلم الجامع (للمغربي اولاد السيد) ان يشن حربا مقدسة (كوميدية الطابع) وحده ضد الجميع، القصة المأخوذة عن أحداث حقيقية، تستخدم الاستعارة اللاذعة والمجاز المعبر وبشكل كوميدي مرح لتصور العلاقة بين موجا القروي المسكين "والظريف" من جهة، والسلطات البيروقراطية والأهالي لاسترجاع حقه في أرضه وازالة ديكور الجامع، ولكن جهوده تذهب سدى. أما فيلم التفكك للفلرنسي فولون، فلا يمكن لأحد ان ينكر الابداع الواضح بطريقة تطور الشخصيات، ولكنه يتناول بسطحية وتحيز موضوع الارهاب وعلاقته بالاسلام، حيث يتعرف ثلاث شبان مغاربة علي وناصر وحمزة وهم في العشرينات، على شاب رابع واسمه جمال يكبرهم بحوالي عشر سنوات، ويستطيع بقدراته الاقناعية الطبيعية من استمالتهم، ومن ثم توجيههم لعمل ارهابي ضد مركز الناتو في برويكسيل، وبالرغم من انه تم اختيار هذا الفيلم للعرض خارج المسابقة في الدورة 68 لمهرجان البندقية السينمائي، الا أنه لم يعجبني، ووجدت الربط سطحيا وغير مقنع ما بين توجه الشباب للعمل الارهابي، وتحريضهم الديني المتصاعد، وقد واجهت احد الممثلين اللذين حضروا (واسمه جمال بالفيلم) قائلا: ربما يصلح هذا الفيلم للمشاهد الاوروبي المتحيز اساسا ضد الاسلام، ولكنه لا يصلح أبدا للعرض في بلد عربي ولمشاهد عربي، نظرا لاسلوبه الاستفزازي ولطريقة الربط المتحيزة وغير المنطقية، فمجرد التدين العادي واداء الصلوات في المساجد وقراءة القرآن يجب أن لا تقود (حسب وجهة نظري) للغلو والتطرف التلقائي ! أما فيلم 7 ساعات الاردني من اخراج ديما عمرو، فهو فيلم اجتماعي ساذج وغير منطقي، ويحوي العديد من اللقطات الطريفة، كما انه يشبه لحد بعيد المسلسلات المصرية الطويلة التي تتحدث عن علاقات غير متكافئة بين حبيب امريكي اسمه جيسون (ممثل يشبه بشكله وادائه الكوميدي التلقائي الممثل المريكي اليهودي بن ستيلر )واردنية عائدة من أمريكا لحضور حفل زواج شقيقتها، الفيلم يصلح ريما للترويج السياحي للاردن وبشكل طريف جذاب، فهو يستعرض باسهاب العادات الاجتماعية الدارجة كالجاهة وطريقة تناول المنسف والكنافة، كما يستعرض عرسا اردنيا فاخرا في احد صالات فنادق الخمس نجوم، الطريف في الموضوع أن الأب المخلص المتفاني لا يجره الفضول لكشف علاقة ابنته العاطفية مع الأمريكي الضيف، كما انه يبالغ بتقديم هدية التخرج لابنته المهندسة المعمارية المرتقبة، حيث يقدم لها كهدية التخرج مكتبا معماريا فاخرا في ارقى مناطق عمان، وعندما يعلم صديقها جيسون بالأمر يغضب ويثور ولا ندري لماذا؟ واخرج هنا بنتيجة مفادها ان استنساخ الافكار والموضوعات لا يحقق سينما محلية مقنعة ولافتة.

اضطهاد اليهود والتحرش الجنسي و"قيس ولبنى"!

يعتبر فيلم المغربي اسماعيل فروخي ( الرجال الأحرار) رائع بكل المقاييس السينمائية، ولقد ابدع الممثل طاهر رحيم بدور البطولة المطلقة وادى دورا لافتا باسلوب عصبي جذاب وممتع، أما مأخذي المتواضع على هذا الفيلم فهو في طريقة تناوله لموضوع اضطهاد اليهود بباريس وتحديدا في العام 1944،، والفيلم وان كان يدعي الصدق التاريخي وربما التوثبقي لفترة مجهولة من ملفات الحرب العالمية الثانية، الا انه غير مقنع دراميا ومتعل من حيث المبالغة بالتركيز على مصائر اليهود الفرنسيين والشمال-أفريقيين، وكيق يكاد البطل يضحي بنفسه في آخر الفيلم لانقاذ فتاة فرنسية بريئة وتهريبها بعبارة لخارج باريس، كما ان المشاهد الخاصة بتلفيق فبر خاص لوالد المغني الجزائري اليهودي كانت مفتعلة وان كانت مؤئرة وحابسة للانفاس، كما ان اقحام مشهد يدل على شذوذ المغني لم يكن ضروريا للسياق الدرامي، أبدع فروخي باخراج هذا القيلم مستخدما عناصر الصمت والترقي والايماء التعبيري والحركة الديناميكية المتصاعدة، كما أبدع ممثل فرنسي يدعى ميكابيل لوتسدال بدور رئيس المسجد، الا أن تركيزه المبالغ به على حماية العائلات اليهودية واعطائها شهادات مزورة باعتناق الاسلام يثير الشك والريبة ! أما فيلم باص 678 (للمخرج محمد دياب) فيتعرض

لأول مرة لموضوع التحرش الجنسي السافر في مصر، ويتطرق لقصص ثلاث نساء من طبقات مختلفة ولطريقة تفاعلهن مع انواع التحرش الجنسي المختلفة في اماكن العمل والمواصلات العامة (وخاصة في باص النقل العام 678 !)، الفيلم لافت وواقعي وطريف و يستحق المشاهدة، ولكنه اطول من اللازم ويبالغ بطريقة معالجته لحالات التحرش ولمعاناة النساء وللتداعيات الشخصية والعائلية، كما انه كاد أن يتحول لفيلم بوليسي غير مترابط، . يتمتع الفيلم الفلسطيني "حبيبي" من اخراج اللبنانية سوزان يوسف بجاذبية خاصة، تعزى لواقعية السرد وأجواء الحياة بغزة وخان يونس ولصدق اداء الممثلين، ويسجل لهذا الشريط الريادي اللافت أنه ربما الفيلم الروائي الذي تم تصويره بالكامل في قطاع غزة وذلك منذ اكثر من خمسة عشر عاما، يتحدث الفيلم ذو البعد الرومانسي عن علاقة حب جارف بين شاب وفتاة نشأت أثناء دراستهما الجامعية في جامعة بير زيت، واسمهما للمفارقة قيس ولبنى، وعند عودتهما لغزة يصدمان بالبعد الطبقي-الاجتماعي، حيث ان الشاب فقير ومعدم ويعمل كعامل بناء ويعيش في المخيم. تكمن روعة هذا الفيلم في معالجته الواقعية البسيطة وبقدرته على تجسيد الحب الجارف بين قيس ولبنى في اجواء منغلقة ومتحفظة لاتسمح بالحب والرومانس، وفي اعادة صياغته العصرية لقصة الغرام التاريخية الشهيرة، كما يسجل للعشيقين اخلاصهما لوطنهما ورفضهما الحازم للعرض الاسرائيلي المشيوه بتسفيرهما لهولندا لاتمام عقد زواجهما، مع تزويدهما بالمال اللازم، شريطة ان يعمل الشاب كمخبر للاسرائليين!

الاحتلال الاسرائيلي ومعاناة اللاجئين الفلسطينيين!

أما فيلم نبيل عيوش الوثائقي، فيعتبر حقا من الأفلام الوثائقية النادرة التي حاولت أن تعطي بعدا حياديا غير مسبوق للقضية الفلسطينية والاحتلال الاسرائيلي الغاشم، فالفيلم الذي يشدك باسلوبه المتوازن، يسجل تداعيات وذكريات الفلسطينيين القدامى اللذين طردوا من قراهم في شمال فلسطين في العام 1948، ولم يعودوا أبدا وعاشوا كلاجئين مسحوقين في مخيمات اللبنان البائسة، حيث سجل المخرج ذكرياتهم وأسمعها كما هي لشبان اسرائيليين يعيشون حاليا في نفس القرى والبلدات التي كانت موطنا لهؤلاء النازحين، وتكمن فرادة هذا الفيلم في رصده الدقيق لردود الأفعال وصدى هذه الذكريات لدى هؤلاء الشباب، حيث أبدى ثلاثة منهم تعاطفا انسانيا وحزنا حقيقيا، ولا شك أن المخرج الذكي قد استطاع ان ينجز عملا مميزا، موثقا الصراع من زاوية جديدة تنسجم لحد بعيد مع قناعاته الانسانية والوجودية (لكونه من اب مغربي مسلم وام يهودية تونسية!). يتضمن الفيلم شهادة تسجيلية مؤثرة لشابة اسرائيلية تقر بالظلم الذي وقع على الفلسطينيين وبامكانية التعايش المشترك مع الفلسطينيين اذا ما ارادوا العودة لديارهم في دولة واحدة ثنائية تتسع لكلا الشعبين، فيما أبدت شابة اخرى رفضها لفكرة العودة والتعايش، منوهة لرفض العرب لقرار التقسيم، ومؤكدة بأن وجود اسرائيل هو قرار دولي شرعي، فيما اشار شاب ثالث لاشمئزازه من البدو العرب المحيطين بمنزله واللذين يطمحون بالاستيلاء عليه ! وتاثر يهودي امريكي مهاجر عجوز من مشاهد الذكريات، ثم أشار لمفتاح قديم معلق على الحائط في حديقة البيت الفلسطيني الذي يسكنه حاليا، والذي بدا كمنزل مهجور مطل بمنظر خلاب على مناطق جنوب لبنان! ولكن باعتقادي فان النوايا الحسنة والطرح اللماح المبسط والتمويل الفرنسي السخي والتعاون الاسرائيلي الخفي، كل هذه المكونات لم ولن تنجح في اقناع احد (الا السذج المضللين!)، فاسرائيل دولة محتلة غاشمة، وشعبها الصهيوني (ولا أقول اليهودي) لا يقبل أبدا فكرة التعايش واعادة الحقوق لاصحابها، وهم يذيقون فلسطيني الداخل الاسرائيلي والضفة الغربية وغزة كافة صنوف الاذلال والحصار والتنكيل، فكيف سيقبلون باعادة اللاجئين الفلسطينيين من منافيهم وهم لا يعترفون أصلا بحقوقهم المغتصبة والانسانية؟!

كوميديا مغربية على النمط الايطالي!

أما في الفيلم المغربي "الأندلس مونامور" فهناك كوميديا ذكية حسب النمط الايطالي الطريف، وتتحدث باختصار عن شابين أمين وسعيد، يدرسان في الدار البيضاء ويحلمان بالهجرة لاوروبا، ويخوضان لهذه الغاية مغامرة عجيبة تؤدي لوصولهما بالخطا لقرية نائية في شمال المغرب، يواجه أمين مشاهد غريبة وطريفة في القرية المغربية، ويتعرض الشريط بمجمله بعبثية وسخرية لاذعة لموضوع الهجرة الغير شرعية.

التحرر والانفلات ومعاناة الجزائري مسيو لازهار!

لم يعجبني اطلاقا فيلم المغربية ليلى كيلاني " على الحافة "، فهي تتحدث عن أربعة فتيات يعملن اساسا بكدح ومثابرة في مصنع لاعداد القشريات، ويقودهن الطموح للحياة الأفضل والرغبة بالتحرر واللهو لمغامرات خطرة وتيه وضياع في شوارع طنجة "المدينة المنفتحة ". لجأت المخرجة لاسلوب معقد للتعبير عن وجهة نظرها برغبة المرأة المسحوقة للتحرر والانطلاق، وخلطت ما بين حدود الحرية الشخصية والانفلات السلوكي، فضاع المشاهد في تفاصيل مملة، محاولا بصعوبة سبر غموض الأحداث والشخصيات، وتملكه الملل الشديد، كما بدا الفيلم وكأنه موجه للمشاهد الفرنسي وليس العربي تحديدا!

قدم المخرج الكندي فيلييب فالاردو فيلما لافتا ممتعا، وتم ترشيح فيلمه "السيد لازهر" لاوسكار أفضل فيلم أجنبي لعام 2012، يتحدث الفيلم عن مدرس جزائري اسمه بشير لازهر، وعمره 55 عاما، يعيش في كندا ويقدم نفسه كبديل لمعلمة اطفال أقدمت على الانتحار شنقا، وحيث تم توظيفه سريعا لملء الفراغ، وينجح بمهاراته كمدرس من استمالة التلاميذ والسيطرة عليهم وضبط العملية التدريسية، كما يستميل بجاذبيته الكاريزمية معظم التلاميذ بالرغم من تأثر فتاة وفتى بفقدان معلمتهم المأساوي، وتكمن المفارقة في أنه بالرغم من معاناته الشخصية وفقدانه التراجيدي لزوجته وعائلته، فانه يبقى محافظا على هدؤه وتوازنه وهيبته، حتى وهو معرض للطرد من البلاد في اية لحظة ! ما اعجبني في هذا الفيلم ادانته الغير مباشرة للبيروقراطية الكندية والعنصرية الخفية، ويبدو ذلك جليا بطريقة التعامل مع حالة الاستاذ، وطريقة تعيينه المؤقت بالوظيفة، عدا عن عدم شعوره بالأمان وامكانية طرده، بالرغم من سمو اخلاقه وحاجة المدرسة والتلاميذ لخدماته التعليمية والتربوية اللافتة، حيث لا يبدو أن هذه الامور تؤخذ بعين الاعتبار أمام سطوة أصحاب القرار ونزعتهم البيروقراطية. أبدع فيليب فالاردو باخراج هذا الفيلم الاجتماعي، وبدا وكأنه متخصص بهذا النوع من الأفلام، ولم يقحم قصة غرام ملفقة كعادة الأفلام العربية الممائلة !

كوكب الشرق ام كلثوم (11)

العرض الأخير الذي شاهدته هو فيلم وثائقي فرنسي رائع يلخص مسيرة اسطورة الغناء العربي ام كلثوم، والفيلم بالرغم من أنه لم يتجاوز الساعة، الا ان المخرجين نيكولا دانييل وفريال بن محمود تمكنا بمهارة وخلال 52 دقيقة فقط، وبواسطة عدد كبير من الصور الوثائقية والأفلام المسجلة واللقاءآت المتنوعة مع العديد من الشخصيات الثقافية والأدبية والفنية والمؤرخين، وباعتماد مجموعة من أغانيها الرائعة المشهورة، قد تمكنا من تغطية معظم المحطات الهامة بتاريخها الفني الحافل الطويل، والفيلم درس تطبيقي للمتسرعين العرب والاردنيين اللذين ينتجون افلاما وثائقية طويلة مملة لا تحقق الهدف المنشود بل تشتت احيانا المشاهد المسكين ! الرائع في هذا الشريط المميز ربطه لتاريخ مصر السياسي مع مسيرتها الغنائية الحافلة، كما رصد تاثيرها الجامح على الوعي الجماهيري والذائقة الفنية الطربية، مستعرضا خصوصية علاقتها تحديدا مع زعيم مصر الراحل جمال عبد الناصر، حيث تطرق لصورة فوتوغرافية نادرة تظهر الود الكبير بينهما. أما الشيء الذي لم يعجبني في الشريط فهو تبجح مغنية فرنسية مغمورة وحديثها عن صدى غناء ام كلثوم في اسرائيل، في محاولة مصطنعة ومكررة لاقحام اسرائيل في معظم الأحداث الثقافية والسينمائية والغنائية التي ينبض بها عالمنا العربي، ويبدو وكأن هذا الاقحام شرطا اساسيا للتمويل السخي في مسعى جلي لفرض التطبيع الثقافي!

تعرض الفيلم للحياة الشخصية والعاطفية لام كلثوم، وكيف انها أبدعت بأغاني الحب الخالدة، لأنها ربما عشقت قصص الحب التي غنتها ووجدتها بديلا عن الحب الحقيقي، كذلك تعرض الفيلم لمظهرها وسلوكها المتحفظ الرزين، وكيف نجحت باخفاء نفسها من خلال النظارة السوداء وتسريحة الشعر الكلاسيكية والثوب الطويل المهيب!

كان هناك في هذا المهرجان الرائع المنظم ثمانية أفلام مميزة اخرى لم تتسنى لي مشاهدتها، وليس من عادتي أن اتحدث عن أفلام لم اشاهدها.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى