الثلاثاء ٣١ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٦
بقلم محمود البدوي

أكسير الحيـاة

التقيت وأنا أعبر شارع الشيخ حمزة إلى عيـادتى فى أمسية من أمسيات الخريف بصديقى لطفى.. وكان من رفاق الحداثة فى المدرسة الخديوية.. ولما دخلت مدرسة الطب كان هو قد ترك الجامعة واشتغل فى الصحافة.. وغمره تيارها وأصبحت لا أراه إلا قليلا..

وسر لما رآنى عرضا فى الطريق وسررت أنا أكثر منه.. ولكن شيئا على خديه وفى عينيه أشاع الرجفة فى قلبى..

سلم فى بشاشة وهو يقول :

لى ستة شهور وأنا عازم على زيارتك فى العيادة، وكل يوم أقول غدا.. تصور.. ولكن ما دمنـا قد التقينا الآن سأحـدد الميعاد فى هذه الساعة.. وسأجيء فى الخامسة بعد ظهر غد..

وجاء.. وأخذ يحدثنى عن حياته وعمله.. وكيف أنه يقضى الليل كله فى المطبعة بين الحروف والرصـاص.. ومنـذ شهور طويلة أحس بشىء فى صدره.. ويخشى أن يكون قد تمكن منه الداء، ولولا أنه أحب فتـاة حبـا جارفا ويفكر فى الزواج منها.. ما اهتم بالأمر، ولهذا يود أن يطمئن تماما قبل أن يشرك فتاة بريئة فى نفس المصير..

وابتسمت.. ونفيت له الخاطر الذى دار فى ذهنه، ولكن نظرة فاحصة إلى وجهه جعلت قلبى يدق بشدة..

وقال ووجهه يضطرم:

ـ هل يمكن أن أكشف الآن؟

ـ تفضل..

وأدخلته الحجرة..التى فيـها جهاز الأشعة.. وخلـع ملابسه ووقف بصدره العارى وراء اللوحة.. وسلطت الجهاز.. ورأيت تمزقا ظاهرا فى الرئة اليمنى.. وخيـطا أسـود كضربة موسى يبعـد عن التمزق بمقدار عشرة سنتيمترات.. واسود وجهى وتندت عيناى بالدموع.. فقد كانت الحـالة ميئوسا منها تماما ولا ينفع فيها أى علاج..

ولما خرج صاحبى من وراء الجهاز وارتدى ملابسه.. لم أشعل نور الغرفة وتركتها فى الظلام حتى أخفى تعبيرات وجهى..

ـ ماذا رأيت..؟

ـ صدرك سليم.. بل أقوى من صدر مصارع الثيران..

ـ لاشىء..؟

ـ لاشىء على الاطلاق..

فنـظر إلىّ فى شـك.. ولكـن الفرحة هزته وأجرت الدم فى خديه..

ـ أتزوج إذن..؟

ـ توكل على الله.. هل حددت ميعاد الزواج..؟

ـ بعد خمسة شهور..

وقدرت حياته الباقية بثلاثة شهور على أوسع مدى.. وقدرت للفتاة النجاة.. وسألته :

ـ والعروس قريبتك..؟

ـ لا.. إنها من المنصورة.. وأنا لا أراها إلا مرتين فى الشهر.. ولهذا أتعجل الزواج..

واسترحت لأنها لاتعيش فى القاهرة معه.. وأسفت على شبابه وصحته..

وكنت أحادثه وأنا أكتم انفجار الألم فى نفسى.. وأضغط على مخارج الحروف حتى لا أبدو ضعيفا أمامه..

وعندما بارحنى مسرورا بنتيجة الفحص كنت غـارقا فى دوامـة من الأسى..

وفكرت فى أن أتصل به بعد ذلك بأيام.. وأقول الحقيقة بطريقـــة مخففة.. أو أعرف عنوان الفتاة وأبعث لها برسالة..

ولكننى وجدت أن فى إخباره قسوة بشعة وتعذيبا لإنسان سيموت حتما.. وفى الاتصال بالفتاة قسوة مثلها..

وظللت أتعذب وأنا غير مستريح إلى كذبتى.. وكنت كلما دخلت على فتاة مريضة فى العيادة تصورتها خطيبة صاحبى.. وأنها جاءت تحمل إلىّ اللعنة والعذاب.. ومر عام وأكثر.. ونسيت الحـادث ونسيت صاحبى فى غمرة الحياة..

* * *

ثم التقيت به عرضا منذ اسبوع وأنا داخـل إلى استراحة " شل " على الطريق الصحراوى وكان على حالة من الصحة.. والعافية أدهشتنى.. ولما جلسنا.. نشرب القهوة فى الاستراحة وجدت نفسى أوجه إليه هذا السؤال وأنا لا أشعر :

ـ ألم تسافر إلى سويسرا فى العام الماضى..؟

ـ سويسرا لماذا.. اننى لم أبرح مصر قط..

ـ خيل إلىّ أننى رأيت شخصا يشبهك فى "بادن"

ـ إننى مشغول بعملى ولا أستطيع السفر إلى الخارج..

وكنت أود أن أسأله :

ـ ألم تدخل مصحة..؟

ولكننى "بلعت" هذا السؤال.. وأنا أنظر إلى سيدة رائعة الحسن تقبل علينا فى رشاقة حلوة.. وأدركت بعد أن قدمنى إليها.. ونظرت إلى عينيها ووجهها.. سر نجاته من ذلك الداء..

فقد كانت "سميحة" زوجته تبتسم له ابتسـامة مشرقة فيها الأمـل والحــياة..


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى