الأحد ٨ تموز (يوليو) ٢٠١٢
أبوكاليبسو:
بقلم خير الدين بن الطاهر جمعة

قراءة التاريخ واستشراف مستقبل البشرية

لعل تطور الجماعات البشرية لا يكون إلا في إطار قانون الغلبة على ما ذهب إليه العلامة عبدالرحمن بن خلدون و ربما في السنوات الأخيرة و خلال القرن العشرين تأثر الفن عموما بالدراسات الاستشرافية التي تخص العلاقات بين البشرية بالنظر في الآلية المتحكمة في تواشج الحضارات المستقبلي و على العكس من ذلك هيمنت البحوث الإناسية التاريخية التي تخوض في أنثروربولوجيا الجماعات الإنسانية خلال القرنين التاسع عشر و العشرين وكل ذلك إنما يلح على حساسية موضوع العلاقة بين الحضارات في أبعادها المختلفة الحضارية والمعرفية و الثقافية و لعل من الأعمال الفنية التي تأثرت بهذه البحوث شريط أبوكاليبسو الذي أخرجه الفنان الأمريكي مثير الجدل (أو المشاكس) ميل جيبسون و قد أنتج سنة 2006 و لعل أول ما يلفت الانتباه أن هذا الفلم بلغة سكان أمريكا الأصليين وهو يروي حكاية صراع عنيف و دموي بين قبائل الهنود الحمر، يبدأ الشريط بهجوم قبيلة على أخرى و تقتيل أغلبهم و أسر بعضهم ولكن اللحظة المهمة في الفلم هي مشهد ذبح شيخ القبيلة أمام ابنه البطل الشاب الذي سارع قبل ذلك إلى إخفاء زوجته الحامل وابنه في جبّ عميق في الغابة التي ترمز غلى الوطن والملجأ و يقع اقتياد من بقي حيا إلى مقرالقبيلة المعتدية (بكسر الدال) فيتضح للمتفرج أن هذه القبيلة إنما ترمز إلى بقايا حضارة الإنكا في المكسيك و لعل ميل غيبسون قد استفاد بشكل واضح لغويا و معرفيا أيضا بالكاتب المكسيكي فرهاد سانتينا في كتابة السيناريو و إلى هذه اللحظة من عمر الفلم تتبدى الحبكة الدرامية واضحة ويمكن استشرافها و تتمثل حتما في أن البطل الشاب سيهرب وينتقم من قاتل أبيه و لكن المنحى الدرامي ينحو منحى مغايرا غير متوقّع فيُكسب ذلك سيمياء الصورة دلالات أعمق من ذلك بكثير حين تتجول بنا الكاميرا في حضارة الإنكا و ذلك في المشهد الذي طال زمنيا والذي يصوّر الأسرى وهم يدخلون عاصمة الإنكا فتغيّر الألوان من خضرة الغابة إلى حمرة الدماء و تكثر المساحيق لننتقل من الشفافية والوضوح إلى الغموض والتداخل و تتعدد الأقنعة من قناع العسكر إلى تاج رجل الدين فنشعر بالفعل أننا انتقلنا من عالم الحياة إلى عالم الموت بل إن المكياج كله كان قائما على الرعب والترهيب ، في تلك اللحظة يصبح المتفرج أسيرا بدوره لا يفهم هذه الفوضى الإنسانية داخل المدينة ولا يعلم هو بدوره المصير الذي ينتظره و يحصل ما هو غير متوقع إذ يتضح أن الأسرى سيُقدَّمون (بفتح الدال) قرابين لآلهة الشمس إنه احتفال جماهيري يذبح فيه البشر فتقطع قلوبهم و تقدم قربانا للآلهة طلبا للرحمة ورفعا للأوبئة و القحط و من هنا تتفجر في الشريط جدليات تُشظي الوجود البشري وتاريخه فيكشف الفلم عن مأساة بشرية تتمثل في ثنائيات متانقضة لا تنتهي فالقبيلة المنهزمة التي كادت تباد ترمز إلى : الطبيعة(أنثروبولوجيا) – الغابة (إطار العيش) – الصيد (وسيلة العيش) -الحرية (القيمة) – الانسجام مع البيئة (طبيعة الحياة) – البدائية (سلم التقدم الحضاري التقني)

و على النقيض من ذلك تكون قبيلة الإنكا رمزا لِ: - الثقافة (أنثروبولوجيا)
– السهول (إطار العيش) - الزراعة والإغارة (وسيلة العيش) – الاستعباد (القيمة) – التناقض مع البيئة (طبيعة الحياة) – التقدم (سلم التقدم الحضاري التقني).

رغم أن الفلم يزيد في منحاه الدرامي حين يقتل البطل الشاب ابن قائد كتيبة الإنكا المعادية إلا أن ظاهر الأحداث يُبدي المبنى الحقيقي لدلالة الفلم و قد ظهر ذلك بشكل واضح حين حوّلت قبيلة الانكا ابن شيخ القبيلة المغدور بها إلى اسير و حين شوهت الصياد و جعلته طريدة بل فريسة لذلك لن ينتصر البطل المطارد إلا حين يصل إلى الغابة وطنه أو بالأحرى الجنة التي أُخرج (بضم الهمزة) منها و حين يقفز من أعلى الجبل إلى الشلال تلبسه هويته من جديد فيعود إليه صوته فيصرخ بكل حرقة وقوة (أنا الصياد ...أنا الصياد وهذه الغابة لي.... هنا عاش آبائي وفيها سيعيش أبنائي وأحفادي) و تبدأ المطاردة من جديد و لعل الجدليات تتوالد و تأخذ معاني أخرى فلئن كانت أهداف البطل نبيلة راقية تتمثل في السعي إلى العودة إلى وطنه و حمايته من المعتدين والسعي إلى تواصل نسل قبيلته و ذلك بالوصول إلى زوجته وابنه اللذين أخفاهما في الجب ، في المقابل تكون أغراض قبيلة الإنكا خسيسة و دنيئة يمكن تلخيصها في الغلبة و الاعتداء والرغبة الحيوانية في التدمير و سلب الآخرين حرياتهم و حضاراتهم وتاريخهم!

ينتهي الفلم على مشهد زوجة البطل و هي تلد في النهر في الوقت الذي تحمل فيه ابنها الطفل على عنقها كانت لحظة مبدعة في الفلم جسمت الانسجام الطبيعي بين البشر والبيئة إلى درجة الحلول والتماهي ولكن لحظة الولادة هذه ستصادر بمشهد البواخر التي ترسو على الشاطئ حاملة على متنها المكتشفين والمغامرين الأوروبيين بداية القرن السادس عشر ، في تلك اللحظة يلتحق المقاتلان المتبقيان من كتيبة الإنكا بالغزاة الأوروبيين في حين يختفي البطل زوجته و طفلاه في الغابة الوطن ...في النهاية ينغلق الفلم على صراع جديد سيتولد ...إنه صراع القادم من وراء البحار مع السكان الأصليين للبلاد ..

لقد أراد الفلم أن يقرأ التاريخ بلغة جديدة هي لغة الهنود الحمر و ليست لغة الرجل الأبيض ورعاة البقر وقد أفلح في ذلك إلى حد بعيد ولعل دلالات الشريط البعبدة تتبدى في السعي إلى إظهار ارتباط الحضارة بالعنف و انعدام القيم الذي سينتقل من حضارة الإنكا المترهلة إلى حضارة الرجل الأبيض القادمة من وراء البحار ولئن كان الإنكا قد اعتمدوا الغزو للقبائل الأخرى وتدميرها إرضاء للآلهة و إشبابعا للمنزع الديني لحلّ مشاكلهم الاقتصادية (الأوبئة والقحط) فإن الرجل الأوروبي سيبتدع هو بدوره إيديولوجيا الاستعمار التي ستبدأ في القرن السادس عشر بحجة إسبانية هي إخراج تلك القبائل من بدائيتها و تنصيرها وتنتهي تلك الايديولوجيا في القرن التاسع عشر بتعلة الحماية الفرنسية و الانتداب البريطاني و لكن الظاهر الديني الأخلاقي يبطن رغبة دفينة في حل مشاكل اقتصادية مستعصية للحضارات الغازية التي وصلت حد الإشباع الداخلي بل إن هذا الرجل الأبيض مع نهاية القرن العشرين وبداية القرن الواحد والعشرين سيخوض رحلة اكتشافية عكسية نحو العالم القديم هي بالأحرى غزوات عسكرية ظاهرها أخلاقي ساذج وباطنها اقتصادي ملح ....

لقد عمّق الشريط جراحنا الغائرة بأن طرح إشاكالية العلاقة بين الحضارات البشرية فحاول قراءة التاريخ لتضجّ الأسئلة بنا في المستقبل ...فهل مازلنا نؤمن بما قاله كلود لفي شتراوس من أنه لا مجال للتفاضل بين الحضارات البشرية على مر التاريخ و أن قوة الحضارة تتجلى في مدى إشباعها لحاجات أهلها؟؟؟؟

إنه الإنسان هذا الكائن الملغز الأحجية التي تتشظاه الجدليات منذ الأزل و ستمزقه الأسئلة إلى الأبد!!!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى