الأحد ١٥ تموز (يوليو) ٢٠١٢
بقلم مهند النابلسي

عالم عارضات الأزياء

اناس قلقون يدعسون باستمرارعلى روث الكلاب الموجودة في كل مكان... أجواء مخملية راقية...واناس تافهون...مدعون ومزيفون، لا يودون بعضهم البعض! عالم جشع تحكمه معادلات الربح والخسارة..والشهرة هي الأساس، والعارضات الحسنوات ما هن الا أدوات لا قيمة لهن ككائنات بشرية، حيث يظهرن في استعراضات عرض الأزياء كقطيع من المخلوقات الآدمية الجميلة، كما تظهر طريقة العرض آلية، خالية من الدفء والتفاعل البشري، تصحبها موسيقى صاخبة يقصد منها أن تشد الحضور للاستعراض الآلي...وانت كمشاهد ربما لا تتذكر وجه اية عارضة بعد كل شييء، لأنها خالية من التعبير و تسير كالروبوت بتمايل جنسي مقصود! هذا ما يقدمه المخرج الأمريكي الطليعي الراحل روبرت ألتمان في فيلمه الرائع "عارضات الأزياء" (حسب الترجمة المجازية لعنوان الفيلم بالفرنسية: جاهز للبس!).

الفيلم لا يخلو من النجوم المشهورين مثل ماستروياني وصوفيا لورين وجوليا روبرتس وكيم باسنجر...ولكن ايقاعات الأحداث هي التي تهيمن، والأبطال يؤدون ادوارا تخدم السيناريو المحكم ولا يوجد مكان للاستعراض والنجومية.

يقدم هنا ألتمان ( الذي تثير أفلامه عادة جدل النقاد ) عالم الأزياء الباريسي على حقيقته بلا تزيين وتلميع، وبالرغم من روعة وبهاء أمكنة التصوير الحقيقية وبذخ مظهرها، الا أن سلوكيات الممثلين خالية (ربما بقصد) من التشويق والجاذبية، فهو عالم مصالح وشهرة ومال وجنس واثارة، مليء بالسخافة والسطحية والابتزاز، حيث لا يوجد الا مكان صغير للصدق والعاطقة وعمق المشاعر.

تدور أحداث هذا الفيلم حول " التركيبة البولبسية " لحادث مقتل مصمم الزياء الشهير ( زوج صوفيا لورين )، عندما يغص فجأة بقطعة لحم أثناء وجوده مع صديقه الروسي، حيث يفزع الخياط الروسي (ماستروياني ) ويهرب مذعورا قافزا لنهر السين، مما يؤدي لالصاق تهمة القتل به وهو البريء منها، وحيث تشمت الزوجة "الغير مخلصة" بموت مصمم الأزياء هذا بل وتفرح، تاركة الحزن للعشيقة، ويبدو حادث الموت كمحور أساسي لأحداث الفيلم.

لن اغفل عن ذكر فصص الجنس والشذوذ والعجز التي يحفل بها الفيلم، والتي تصنع هذا العالم المليء بالحكايات والاشاعات... ولقد برع ألتمان حقا بالتقاط جوهر هذا العالم، وركب فيلما مسليا سريع الايقاع، خاليا من الملل، محكم السيناريو، مشوق لحد ما ومليئا باللقطات الجميلة الأنيقة والمفارقات الكوميدية المضحكة ، وتكمن المفارقة اللافتة في أنه بالرغم من أن جميع الأبطال يتحدثون مع بعضهم البعض، الا انهم لا يتحاورون أبدا (تماما كالطرشان!)، فالكل يتحدث عما يرغب ويريد ولا يترك مجالا للتفاهم والتجاوب والتفاعل الانساني! ثم هناك اللمسة السحرية للمخرج ألتمان: فهو يركز كعادته على الاحساس الجغرافي بالمكان، فهو ينقلنا لباريس وصخبها الرائع، ويدخلنا ببراعة لقلب المدينة وأروقتها الراقية - الباذخة، حيث تدور الأحداث وتكاد تمثل جزءا مترابطا من معالم المدينة المشهورة.

سينما ألتمان في اعتقادي تشبه لحد كبير أدب الأمريكي بول اوستر (الذي كتب عدة روايات أثناء اقامته بطنجة في المغرب)، ما يسمى بالواقعية الصريحة الفاضحة التي تكاد لا تخفي شيئا، حيث تتحول الجعرافيا المكانية لتصبح جزءا عضويا هاما من الحدث ذاته، وكما قال الباحث الشهير "بشلار" في كتابه جماليات المكان: ان المكان في مقصوراته المغلقة التي لا حصر لها، يحتوي على الزمان مكثفا أو مضغوطا، وهذه هي وظيفة المكان! وحتى نشعر بصحة هذه المقولة الفلسفية لنحاول ببساطة تذكر احداث مرت بحياتنا معزولة عن بعدها المكاني، فالحنين للمكان هو جزء لا ينفصل عن التسلسل الزمني للأحداث الحياتية، من هنا تنبع قيمة الديار والأوطان!

لن احمل هذا الشريط الممتع اكثر مما يحتمل، ولكني لا ابالغ ان قلت أنه يقصد ان يصدم المتفرج العادي و ربما الناقد ايضا بمظاهر الثراء الباذخ والفاحش، مركزا على تفاهة وسخافة الشخصيات التي تلهث وراء المال والجنس والشهرة، وكأنه يشير مجازا لعالم خفي اخر غيرمتوازن، تنهشه المجاعات والحروب والانتفاضات المسلحة والكوارث، كما التفاوت الرهيب في توزيع الثروات والفرص بانواعها، لقد قدم هذا المضمون العميق المجازي ضمن اطار جمالي بالغ الشفافية فيه امتاع للحس والذوق...ولكنه للأسف لم ينجح تماما في ايصال رسالته الفنية الابداعية، فالفيلم لم يحظى برضى النقاد وعامة الجمهور، بالرغم من تضمينه اللاقت لدقيقتين كاملتين من العري النسائي الخالص، وذلك باستعراضه لمشية عارضات عاريات تماما يتمخترن بمشية " القطة " في خاتمة الشريط!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى