الاثنين ٣٠ تموز (يوليو) ٢٠١٢
بقلم هيثم نافل والي

صورة الرئيس

انتصف النهار وبدا المكان خاوياً، وكأنه سوق مغلق الأبواب، قاتماً، حزيناً وكئيباً لفارس الذي له نظرة متآمرة مع غرائزه ووجه منور ومشرق دائماً، كمصباح ساهر؛ في ذلك اليوم الذي انقلبت فيه حياته رأساً على عقب، وكأن مكان تواجده في تلك اللحظة في كليته، أظلم ككهف لا تشرق عليه شمس!

تمتع فارس منذ صباه بميول فنية وأدبية رائعة، شدَّ انتباه كل من تعرف عليه، وخاصةً أستاذه في مادة اللغة العربية( في مرحلة الإعدادية) حيث كانت البداية... عندما أهداه الأخير كتابين اعتزازا وتشجيعاً لقدرته في الكتابة بمادة الإنشاء، وبعدها شعر فارس بتلك القوى الكامنة في داخله، فركز جل اهتمامه على تطويرها... ولكن من هذا الذي يستطيع أن يلين القدر ويسخره؟! فكان قبوله في كلية الزراعة وانتسابه لذلك الكادر الزراعي الذي لا ينتمي إليه ولا يقدره... فظل هذا الهاجس الجاثم على نفسه ثقيلاً، كالحجر أرهقه وجعله صريع أفكار غريبة شبه عدائية لمحيطه الذي حمله الذنب كله، وصب عذابه في وعاء لا ينضح منه سوى الكره لهذا الاختصاص ولمواده العلمية الجافة العقيمة حسب رأيه. لذلك عمل بكل جد ومثابرة لقلب نظام الحياة الجامعية وحيثما أستطاع، ليبرز مواهبه الأدبية من جهة وليعيق الدراسة من جهة أخرى؛ ففي أغلب الأحيان يفحم الأساتذة أثناء المحاضرات، بأسئلة لا تتعلق بالمادة بغية إحراجهم ولتأخير وعرقلة سير الدرس، وقد نجح في ذلك كثيراً، وباتت سمعته في القسم الذي يدرس فيه، على كل لسان... بل انحدر الموقف نحو الاستهتار عند بقية الطلبة أيضاً عندما أصبحوا يطلبون منه أن يجادل الأساتذة في آراء ونظريات وأفكار فلاسفة ومشاهير في عالم الأدب المتمكن من علمه... وبذلك تم له ما أراد بثقافة لا تقهر ولا تقارع، وهم في النهاية الخاسرون!!

أنهى امتحانه الأخير في الجامعة بمادة الثقافة القومية عند منتصف ذلك النهار الذي لا ينشق له غبار... خرج من قاعة الامتحان وهو يشعر بأنه سيعيش حياة العطلة الصيفية كما يحلو له ويشاء، دون زراعة أو حصاد! وهو مازال يسير في نهاية الممر الذي يؤدي إلى ردهة توصله إلى خارج مكان تواجد القاعات الدراسية... حيث سمع صوت نسائي مرتجف ومتعثر بخوفه يناديه، كالهمس: لقد رؤوك!! اهرب يا فارس من هنا حالاً وتوارى عن الأنظار!! هيا لا تتردد أو تتأخر... ثم سمع صوتا رجاليا خشنا يحثه هو الآخر على الهرب أو الاختفاء وهو يهتف به، بشجاعة كاذبة: أطلق ساقيك للريح ولا تنظر وراءك!! لقد رآك رئيس اتحاد الطلبة بنفسه... توقف للحظة ثم تابع برنة صادقة: أنا واثق مما أقول، وأنت كما لا يخفى عليك: من يكون ذلك؟! وما هي ميوله الحزبية؟! وما هي قابليته العدائية؟! وأنا لا أريد أن أصرح أكثر!!

لم يفهم فارس الموقف الذي يدور حوله، ولم يسعفه ذكاؤه الأدبي في تلك اللحظة من استيعاب التهديد والخطورة التي تنتظره؛ فبقي ساهياً، متفكراً وخائفاً، وكأنه يمثل دور الأسير المرتبك المغلوب على أمره! ثم وعى على نفسه وحاول أن يسأل الطالبة فضاء التي حذرته بصوتها الناعم والهامس، فستوقفها وقال: ما الذي يدور؟! ولماذا أهرب؟! ثمَ تابع أسئلته دون أن يتلقى الجواب: ما الذي فعلته؟! لقد خرجت حالاً من قاعة الامتحان وأنا لا أنوي سوى مغادرة الجامعة متوجهاً لمنزلنا!!

نظرت له فضاء بعين الرأفة والشفقة وقالت بصوت مخنوق، ضعيف ولا يكاد يسمع: صورة الرئيس كانت في أول صفحة من الكتاب... وأنت يجب أن تعرف الباقي... وفرت هاربة بذعر حقيقي لا يوصف، وكأنها تبتعد مسرعة من نار مستعرة لحريق هائل لا تحب أن يلتهمها!

نظر إلى زميله الآخر الذي نبهه... فوجده كان قد أصبح بعيداً عن مستوى نظره ليبدو، كالشبح في حلم ضبابي؛ استغفر ربه وصرخ بغضب مبتهلاً، وكأنه ضحية شيطان: يا رب أجعل القادم خيراً... فأنا لم أقترف جرماً ولم آت بذنب! ثم تلفت حوله، كأعمى يتلمس الطريق بعصاه... وفر هارباً نحو داره.

وصل دارهم والهم راكبه، مرتجف الأطراف، هاذي اللسان، قلق النفس، شارد الفكر، غائب العقل، متوتر الأعصاب، عصبي المزاج، ومن الخوف والذعر في نهايته؛ دخل غرفته المربعة الأضلاع وتوسطها واقفاً، ساكناً، كالتمثال... حتى دخلت عليه أخته فارتعبت متراجعة إلى الوراء وهي تصفع خدها دون وعي من منظره الشارد الغريب الذي يدعوا إلى الرهبة ويغالب الذعر في سطوته!

 نادته بصوت قلق مبحوح وبشجاعة زائفة وبحكمة لا تعود لها: فارس... أخي... ماذا وراءك؟! ولماذا تقف هكذا، كالصنم؟!

 لم يسمع حرفاً مما نطقت، وظل في سكونه غارقاً، كجذع شجرة منتصب.

 كررت قولها والدموع كانت قد غزت وجنتيها بإسهاب وحرارة وهي تردد: أرجوك... رد علي، ماذا بك، وما الذي يشغلك لهذا الحد؟! ثم أردفت بتأثر صادق حميم وهي من التأثر والحزن في نهايته: قل لي ما في نفسك... أنا أختك التي ربتك، كأمك رحمها الله، أجبني ولا تجعلني أفقد صوابي...

انتبه إلى نفسه، وإذا به يخجل من منظره( حيث كان قد بدء بفتح أزرار قميصه ولم يكملها) فدار ظهره لأخته... وهو يغلق أزرار القميص بارتباك وسرعة وبأيد مرتجفة، وقال: هل كنت منذ زمن هنا؟!

أجابته برنة ملؤها الحنان والرقة: منذ لحظات يا عزيزي، ثم استطردت بذكاء: قلت لنفسي، لأذهبّنَّ إليه وأبارك له نهاية امتحاناته ولأدعوه لتناول الغداء معي؛ ثم صمتت، وكأنها تذكرت حزنها وقلقها عليه...

بادرها بالقول مطمئناً: أختاه، يا فلذة كبدي... لا تقلقي علي، أنا بخير وكما ترين، لقد أنهيت امتحاناتي وسأتمتع بعطلتي الصيفية كما أشاء... ثم تذكر الأصوات التي نادته في الكلية بعد خروجه من قاعة الامتحان، فقطب حاجبيه وتغيرت سحنته وامتعض وقال بتردد: هناك... أقصد... مشكلة؛ ثم تابع بحلق جاف، أعني... لقد حصل شيء قد لا تكون عواقبه سليمة، هذا ما فهمته منهم... وواصل كلامه وبدا كالمجنون وهو يوصف حالته: قالوا( تردد خائفاً) ثم تابع، هم يقولون بأن صورة الرئيس كانت في أول صفحة من الكتاب!! أشاروا لي بالهروب والفرار... لأن أحدهم قد شاهدني وأنا... ثم صمت، وكأنه قد فارق الحياة.

 لم أفهم شيئاً مما قلته والله( أجابته بصدق وهي تنظر له نظرة خوف، كخوف الطفل الذي يهاب المشي كي لا يعثر)

أختي الغالية، يا نبض قلبي، صدقيني وثقي بي وبما سأقوله لكي: أنا لم أفعل شيئا، ولم أقترف إثماً أو جريمة يحاسب عليها القانون، بل لم أعِ حينها ولم أفقه في تلك اللحظة الغبية الطائشة... بأن الأمور يمكن أن تصل إلى هذا الحد الذي يجعلني مهدداً، خائفاً، هارباً ولا أنوي سوى الاختباء... ثم ضرب رأسه بقبضة يده وهو منهار القوى والأعصاب، ويردد بانفعال وبصوت متهدج: تباً لي... غبي وأحمق، ثم ركع على الأرض ونحب، كالطفل!!

 جلست أخته قبالته، وهي تلعب بشعره بلطف ورقة وتقول: فارس... انتبه إلى نفسك، ولكل مشكلة، حل، ثم أردفت بعطف حقيقي: قص لي ما حدث بالضبط، وبهدوء وروية وسنجد بالتأكيد حلاً يخرجنا من هذا الموقف الذي يبدو لك جريمة، ولعله لا يكون ولا يستحق منك كل هذا الخوف أو الغضب... ثم جففت دموعه بكم قميصها وأجلسته على حافة سريره، وجلست بجانبه، وكأنها تدفئه.

رفع رأسه الصغير إليها، وأشرق وجهه مجدداً، بعد أن تشجع بكلمات أخته الإيجابية فقال دون تردد: خرجت من قاعة الامتحان والفرحة والسرور يغمرانني بسحرهما... فانتشيت كالمخمور مترنماً، حالماً بالأيام التي سأقضيها بعيداً عن دروس الزراعة، وسأتفرغ لقراءة الأدب الذي أعشقه، وأنت تعلمين ذلك جيداً... ثم انتبهت على نفسي فجأة، وإذا بكتاب الثقافة القومية مازال في يدي أحمله ككتاب مقدس! ففزعت، وكأنني أحمل قنبلة موقوتة أو دليل إدانة لجريمة اقترفتها! فلم أفكر لحظة ولم أتردد بإبعاده عني ورميه بعيداً... وهذا ما فعلته بالضبط... لقد قذفت بالكتاب، بعد أن ضربته بقدمي، كالكرة!! صمت قليلاً، وكأنه يريد أن يعرف وقع كلامه عليها، ثم أردف بنفس الحماس والصدق والجدية: ولم انتبه إلا وصوت زميلة تناديني، وصوت زميل آخر يحثانني على الفرار والهروب لأن أحدهم قد رآني ممن يعملون في الحزب... وصورة الرئيس كانت في أول صفحة من الكتاب!!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى