السبت ٤ آب (أغسطس) ٢٠١٢
رُؤى ثقافيّة «16»
بقلم عبد الله بن أحمد الفيفي

عقلٌ على الهواء مباشرة!

يُحبِط عقلُنا العربي، والعقلُ الإسلامي كذلك، كُلَّ متفائل بمستقبله، ويثبِّط آماله جِدًّا في غدٍ أفضل من أمسه؛ لا بسببه، من حيث هو، بل بسبب الثقافة، وتراكماتها الخرافيَّة. أحدُ هؤلاء المتمشيخة- المستنيرين ظاهريًّا، والمتبحِّر في العِلم الطبيعي، والرياضي، والفلسفي، أو هكذا يزعم، وهو طبيبٌ، يعيش في أوربا، ويكاد يدَّعي امتلاك (حجر الفلاسفة)، والمعرفة بكلّ فنٍّ من علوم الدنيا والدِّين، إذ يخبط فيها جميعًا خبط عشواء- يصدمكَ في إحدى محاضراتٍ له، برأسه الخرافيّ، قائلًا، مسلِّمًا بقوله: إن (عبدالقادر الجيلاني)- قدَّس الله سِرَّه «الباتع» في أتباع الفلسفات الغيبيَّة!- كان يجلس «على الهواء مباشرة»، بالمعنى الحقيقيّ للعبارة، أي في السماء، وتلاميذه يتابعونه على الأرض؛ لكي يتَّسع الفضاء لحلقة طلبته ومريديه، ولتلقِّيهم عن الأستاذ الكوكب! في تلك الأيام لم يكن هنالك بثٌّ فضائيٌّ، ولا شاشات عَرْضٍ فِضِّيَّة، عِراض أو غير عِراض! ويبدو كذلك أنه لم يكن ثمَّة مِنْبَر مناسب، أو ما شابه هذا، ليؤدِّي الغَرض الجيلاني الجليل! والغرض في حقيقة الأمر هو الضحك على العقول بكرامةٍ مكذوبةٍ؛ يرتفع الرجل من أجلها، وبقدرة قادر، في الجوّ. وبذا سيتابعه التلاميذ، وهو عِلِّيِّين، وبكلّ ارتياح، كي يُلِمُّوا بكلّ التفاصيل! هكذا يقول لنا الرجل: إن عبد القادر ارتفع في الهواء، وتلاميذه على الأرض! ولا تسأل عَمَليًّا: كيف سيتلقَّى متعلِّمٌ عن معلِّمٍ يحلِّق في السماء؟! فهكذا يُؤمن الرجل، ويستشهد على ذلك، بكُلِّ ثقة، وحجَّةُ إيمانه أن هذا خبر متواتر عن كرامات الجيلاني، وقد أقرّ بتواتر كراماته حتى (ابن تيميَّة)- ولست أدري إنْ كان له سِرٌّ ليتقدَّس هو الآخر؟! وعلى ذلك، فهي لديه حقيقةٌ، لا يتطرَّق إليها الشكّ، يستشهد بها في محاضراته العلميَّة الفلسفيَّة!
قلتُ: على العقل السلام، بل على الدِّين السلام أيضًا، وسقط مدَّعي العقل والفلسفة!
وإذا كان مثل هذا يروج على عقل مثل ذلك الرجل، الذي يقدِّم نفسه على أنه مجدِّد إسلاميّ، ومفكِّر، وذو عقلٍ نقديٍّ، فبربِّكم أيّ تخريفات تُعشعش في عقول مَن دونه، ناهيك عن رؤوس عامَّة الناس؟!
وليس الرجل صوفيًّا، بل هو ما ينفكّ ينادي باتِّباع العقل والعقلانيَّة، والعلم والعلمانيَّة. ذلك أنه إذا كُنَّا قد اعتدنا من المتصوِّفة رفعَ أوليائهم الصالحين، فيما يزعمون لهم من كرامات، فوق مستوى البشر، بل فوق مستوى الأنبياء والرسل- الذين كانوا بشرًا، يمشون في الأسواق ويأكلون الطعام، ولم يدَّعوا قط من كرامات المتصوِّفة بعضها أو نصيفه- إذا كنَّا قد اعتدنا مثل ذلك التهوُّك من المتصوِّفة، فكيف يسوغ في عقلٍ يحترم العقل وقوانين الطبيعة قبولُ ذلك وترديده من سِواهم؟! ثم كيف يسوغ تقديمه في حَضرةٍ علميَّةٍ على أنه علامة على العقل الكوني المؤمن المتفلسف، المجسِّر للهوَّة بين العلم والإيمان؟! على أنك بالتتبع ستعرف أن الرجل كان يسلِّم فعلًا بمزاعم المتصوِّفة الشاطحة الخيال. كما أنه لا يملّ الإعجاب بالغنوصي الأكبر، أبي حامد العزالي، مصنِّف "تهافت العقول"، أو هكذا كان ينبغي لابن رُشد أن يعنون كتابه في الردِّ على "تهافت الفلاسفة"! ولا شكّ أن مِن تَرَفِ التفلسف ما قد يُمكن أن يُفلسف لنا الخرافة والشعوذة أيضًا! فلا اغترار هنا بكل فلسفة ولا بكلّ متفلسفٍ مأفون! ولكن ما علاقة فلسفاتٍ كتلك بالعلم والعقل والواقع؟ وما لا علاقة له بالعلم والعقل والواقع يظلّ محض خزعبلات، وإنْ زُيِّن للناس وزُيِّف للعوام.

ليس ذلك فحسب ما يزعمه فيلسوفنا الهمام، بل هو يزعم أيضًا أنه- شخصيًّا- قد رآى، في بعض أحواله، شياطين وجنًّا، (شُقر الشَّعر، زُرق العيون، من جنِّ أوربا، بطبيعة الحال)! وجاءه ذات مرَّة وفدٌ دبلوماسي من جمهورية الجنّ الإسلامية، كما قال، ينادونه- وباللغة العربية الفصحى (اللاتينيّة!)، ويطلبونه الدعاء لهم! إذ يبدو أن أبواب السماء قد أوصدت في وجوههم، ولم تبق إلَّا بركة صاحبنا تفتح مغاليقها للجنِّ، فضلًا عن الإنس! ولا حول ولا قوَّة إلّا بالله، «عليه العوض ومنه العوض»!

هذا بعض غذاء العقل، الذي سُوِّق عبر التراث تحت شِعار: "العرفان"، و"العارفين"، (بالعين لا بالخاء)! وذلك بعض الغذاء الشعبيّ الخاصّ الممتدِّ منذ الجاهليَّة إلى اليوم. وغذاؤنا التراثي الشعبي الأخير، المتعلّق بعالم الجنّ والشياطين، هو غذاء منتقًى جدًّا، لا يشمل تراثًا عقلانيًّا، تمثّل في مثل قول الشافعي، على سبيل المثال: «مَن زعم من أهل العدالة، أنه يرى الجِنَّ أبطلتُ شهادته»، قال: «إلَّا أن يكون نبيًّا». ومن يدري، فلعلَّ صاحبنا لم تَبق له مسافة طويلة، من العُجب والادّعاء، حتى يدَّعي النبوَّة! بل لا يشمل تراثنا الشيطانيّ ذاك الالتفات إلى نصّ القرآن الكريم: «إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ، إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُون»! لا، لا يشمل ذلك كلَّه؛ فثقافة الجاهليَّة الأُولى، وموروثاتها، وسوالف الجدَّات، مرجعيَّات غلَّابة على كلّ عقل، ودِين، وعلم، وتراث!

حقًّا، إن المرء ليُصدم في خطاب أمثال تلك العقول. ولقد يكون أصحابها على درجاتٍ من الذكاء، ومن تحصيل العِلم (المعلوماتي)، غير أنهم ضحايا ثقافة غيبيَّة خرافيَّة، لا يستطيعون الفكاك منها، مهما بلغوا علمًا واطِّلاعًا، وبخاصَّة مع فقدانٍ صميمٍ لمَلَكات التفكير النقدي السليم. ذلك أن هناك مِن الناس، كما قيل قديمًا: مَن علمه أكبر من عقله، ومن عقله أكبر من علمه. لأن تحصيل العلم والمعارف أمرٌ آليّ، مقدور عليه، ما توافر الإنسان على صفاء الذهن وقوَّة الذاكرة، أمَّا مَلَكات العقل النقدي، وقُدرات الإنسان على التحليل، والتفطُّن القرائي، وغربلة الظواهر، والحُكم عليها، فمَلَكات أخرى، عُليا، فطريَّة ومكتسبة. ومن أسفٍ أن مؤسّساتنا التربويّة التعليميّة لا تُعنَى بتلك المَلَكات حقَّ العناية، إنْ لم تكن بضدِّها تمامًا. فإذا المرء ينشأ فينا ولديه قابلية لتصديق أشياء كثيرة، ولاسيما إنْ رافقها مرشِّحٌ دِينيّ أو محفِّزٌ تراثي. وأُمَّةٌ ما زالت فيها عقولُ مَن يُدعون نُخَبُها بهذا المستوى من التفكير، لا يزال مستقبلها مُفزِعًا مُريعًا. وهو مفزِعٌ مريعٌ لا بمعايير المستقبل، فحسب، بل بمعايير الماضي السحيق نفسه، أيضًا. ذلك لأن هذا العقل الخرافيّ، الذي تربَّى في ظلمات التاريخ الإسلامي، قد جاء انحدارًا فظيعًا عن العقل الذي ظهر عليه الإسلام، بل عن العقل العربي قبل ظهور الإسلام.
هذا نموذج صارخ من نماذج، بلا حصر. وهكذا تُستغل البلاهة الاجتماعيَّة الراسخة، وتستنفر عقليَّتها الساذجة، أو الخرافيَّة، من قِبَل شياطين الإنس، ولمآرب شتَّى. ومع ذلك، فإن هناك من لا ينفكّ يدافع عن مملكة الجهل والخرافة تلك، ويكفِّر من يشكِّك فيها، من أجل مصالح، أو لجذور إيمان تعود إلى العصر الجاهلي! بل قد تتحول، جرّاء هذا، ثقافةٌ اجتماعيَّةٌ جاهلة إلى ثقافة دينيَّة محترمة، تنبثّ عبر قنوات إعلاميَّة فضائيَّة، ليجد فيها عالَم الجهل والتجهيل، والجنّ والشياطين، سلطانهما ومجدهما، ودعاياتهما المجَّانيّة المعاصرة.

أ وليست حماية العقل من مقاصد الشريعة الإسلاميّة الأُولى؟ وحماية العقل ليست بالحماية من المسكرات، فحسب، كما اختُزل هذا المبدأ، بل بالأحرى من مسكراتٍ أطمّ وأدوم، هي مسكرات الجهالات، والخرافات، والأساطير، والأضاليل، والأوهام. غير أنه قد حُصر مفهوم الإسلام وانشغالاته في جزئيَّات، وفي تفريعات حياتيَّة، وشؤون يوميَّة، لا جديد فيها. يتصدّر لها المفتون عبر تلك القنوات، مع أنها مبثوثة في كتب الفقه منذ مئات السنين، لمن شاء أن يقرأ. وقد كان يمكن في عصرنا هذا أن تُضبط تلك المسائل، وأن تُفهرس، ثم تُجعل في موسوعات، تُنشر عبر الإنترنت، ليرجع إليها من أراد، وينتهي الأمر، ويكفَّ المفتون عن ذلك الاجترار. لكي تفرغ تلك القنوات- فضائيّة وغير فضائيّة- لقضايا مُلِحَّة أدعى للفراغ لها، من سياسيَّة واقتصاديَّة واجتماعيَّة وفكريَّة، ومن نوازل ومستجدّات كثيرة في حياة الناس. على أن الأدهى من هذا التقصير أن يوظَّف الدِّين الإسلامي نفسه- الذي نعتقد أنه في الأصل دِين عقلٍ ونورٍ وهُدى- لترسيخ الجهل، ونشر الظلام، وتسويغ الخرافة، ومصادرة العقل، وتأكيد الإيمان، لا بالله وما نزل من الحق، ولكن بالشياطين وما توارثناه من الأباطيل!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى