الأحد ١٦ أيلول (سبتمبر) ٢٠١٢
رُؤى ثقافيّة «22»
بقلم عبد الله بن أحمد الفيفي

ما تَدلَّى من غُصون الرُّوح!

1- كثيرًا ما يتردَّد في خطابنا الأدبي المعاصر مصطلحُ (القطيعة الإبستمولوجيّة أو المعرفيّة)، وكثيرًا ما تُسقَط عليه خيبات الكتَّاب المعرفيَّة والبنيويَّة، وتُعلَّق به حالات الجهل والعجز والمرض؛ فيتردَّد القول بـ«القطيعة المعرفيَّة» كلَّما حوصر الكاتب لغويًّا أو جماليًّا.

تُرى هل القطيعة المعرفيّة تعني الجهل بالتراث؟

وهل هناك قطيعة معرفيّة في مجال الفنون والآداب، أصلًا؟

السؤال الأول واضح الإجابة، كما بيَّنَّا ذلك في مقاربة سابقة؛ إذ لا قطيعة عمَّا يجهله الإنسان. ذلك لأن القطيعة المعرفيَّة لا تنشأ إلَّا عن هضمٍ بالغٍ للمعطَى المعرفيّ القائم، والمعطى المعرفيّ الموروث، يَدفع إلى تجاوزهما، واقتراح بدائل عنهما، أفضل منهما، لا أسوأ منهما. وبذا فإن ما يتردَّد في الواقع الثقافيّ العربيّ اليوم حول القطيعة المعرفية لا يعدو- كما يبدو- تخلُّصًا من جهلٍ إلى جهلٍ: من جهلٍ بالتراث إلى جهلٍ بالقطيعة المعرفيَّة نفسها، مفهومًا ومصطلحًا. أمَّا القول بالقطيعة المعرفيَّة في مجال الفنون والآداب، فأُغلوطة، أو لنقل- وبحُسن ظنٍّ-: محض تعبيرٍ مجازيٍّ، ونِسْبيّ الدلالة، يُفهم في السياق العربيّ كثيرًا بحَرْفيَّة. من حيث إن المعرفة في هذا المجال تظلّ تراكميَّة واستمراريَّة وتواصليَّة، لا قطيعة فيها. والأصحّ أن يُطلَق على ما يحدث في سيرورة الفنون والآداب من طفرات جماليَّة، تتمخّض عن رؤى ناضجة: تجاوز، أو تجديد، أو تحديث، أو نحو تلك من الألفاظ: لا «قطيعة»؛ لأن القطيعة هاهنا غير واردة بمعناها الحقيقيّ؛ لطبيعة هذا الحقل المعرفيّ، القائم على اللغة الخاصَّة، بقواعدها ومائزاتها، وعلى الذوق الفنِّيّ القوميّ، وعلى الشخصيّة الحضاريَّة المستقلَّة. والقطيعة عن هذه الأصول لا تعني إلَّا شيئًا واحدًا: الانقطاع من الهويَّة اللغويَّة والفنِّيَّة والحضاريَّة. وهذا محض استلابٍ واغترابٍ، قد يقع عن جهلٍ، أو عن قصدٍ، أو عن فقدان انتماء، أساسًا.

إن القطيعة المعرفيَّة لدى مَن تحدَّث عنها مِن الفلاسفة- ولاسيما الفرنسيّ (جاستون باشلار Gaston Bachelard، 1884- 1962)، وهو فيلسوف هذا المفهوم الرفضيّ الإبستمولوجيّ- إنما تكون في مجال العلوم البحتة، لا في مجال الآداب والفنون. وقد قسِّم باشلار المراحل التاريخيَّة للعقل العِلْميّ إلى ثلاث: الحالة ما قبل العِلْميَّة، حتى القرن18، والحالة العِلْميَّة، حتى مطلع القرن20، ثم عصر العقل العِلْميّ الجديد، بدءًا من 1905، عقب نظريَّة النِّسبيَّة لأينشتاين Einstein، التي زعزعت الثوابت العِلْميّة السابقة. وساق أمثلةً على القفزات الهائلة التي حدثت بعد ذلك التاريخ في مجال العِلْم. هذا ما يذهب إليه باشلار في كتابه «تكوبن العقل العلميّ». وعلاة على ذلك فإن المصطلح نفسه إبستمولوجياÉpistémologie - المكوّن من المقطعين (Épistémê) و(logie)- إنما يعني تحديدًا: «لُغة العِلْم»، أو «منطق العِلْم»، أو قل: «عِلْم العِلْم». فهو معنيٌّ أساسًا بالعقل العِلْمي. وكلّ كُتب باشلار في هذا السياق لا تدور إلّا على العِلْم: كـ«تكوين العقل العِلْميّ»، «العقلانيّة التطبيقيّة»، «الفكر العِلْميّ الجديد»، «الماديّة العِلْمية»، وهلمّ جرّا. والفلاسفة الفرنسيّون بعامَّة لا يُطلِقون هذا المصطلح إلاّ على فلسفة العلوم وتاريخها الفلسفيّ، فيما يُستعمل في النطاق الأنجلوسكسوني بمعنى: «نظريّة المعرفة». (انظر مثلًا: شربل، موريس، (1986)، التطور المعرفيّ عند جان بياجيه، (بيروت: المؤسسة الجامعيّة للدراسات والنشر والتوزيع)، ص81).

-2-

ومهما يكن من أمر، فما تزال الأصوات الشعريَّة العربيَّة الشابَّة تستدرك اليوم على ضلالات أجيالٍ سلفت، كانت تشبثت بدعوى القطيعة مع التراث؛ لأنها منقطعة أصلًا، لا لأنها مجدِّدة، بالضرورة. وهنا سأقدِّم إلى القارئ أنموذجًا واحدًا، من السودان. إنه صوت تلك الشاعرة الشابَّة (منى حسن محمد)، ومن خلال قصيدتها «مَا تَدلى من غُصون الرُّوح!»، التي عنونتُ بها المقال. ودونما ثرثرة النقد والنقّاد، دعونا نصغي إلى هذا الصوت المفاجئ، في زمن المدَّعين من الشعراء والشواعر:

«وهمستَ لِي:

لا سِحرَ يُشبهني أوَى من قبلُ للكلماتِ، للمعنى، ولــ الليل الطويلْ..

كلا.. ولا التعويذ ينفعُ، إنْ دنتْ عيناي ترتشفانِ وَجْهَك، تعبثانِ بما تدلى مِنْ غُصُونِ الروحِ،
تجتازانِ خارطةَ التوقُعِ نَحْوَ قَطْفِ المُستحيلْ..

وهمستَ لِي:

لَمْ أَدَّخِرْ عِشْقـــًا وجِئْتُكِ حَافِيَ الآمالِ، درويشًا تزمَّل بالدُعاءِ مبعثرًا ..
ما بين ما أبقى.. وما نهب الرحيلْ..
صافحتُ قلبكِ..
لستُ أذكرُ حينها كيف ابتدأتُ؟
وكيف متُّ؟
متى بُعثتُ مُبشَّرًا بالخلدِ؟
بالغفرانِ والصفحِ الجميلْ؟..
وهمستَ لِي:
لُمِّي شُموسَكِ عن دمي، لا ظلَّ لِي، قاسٍ نهارُكِ، مترَفٌ هذا الصهيلْ..
قاسٍ نهارُكِ، والمدى وَلَهٌ، وتذكارٌ، ونِيْلْ..
قاسٍ عليَّ كما هواكِ، فكفكفي هذا العويلْ..
تَعِبًا أتيتكِ، حَبْوَ شوكِ الشوقِ،
فانسكبي صُداحًا في مدايَ،
وغرِّدي كالريحِ حين تَهُبُّ من بوابة الذكرى، فيرتعشُ النخيلْ..
وهمستَ لي:
ما زلتُ آمُلُ أن أقيلْ..
ما زلتِ ريحَ سفينتي، كوني المنارةَ والدليلْ...
وهمستَ لي:
سيظلُّ للذكرى على أشجارنا أبدُ الهديلْ...
وهمستَ لي:
ما عدتُ أذكرُ ما همستَ؟!
تيبستْ في حلقِ قافيتي الحروفُ..
تعثَّرت عند ارتماءِ البوح في لُغةِ الرحيلْ!
ما زلتُ أذكرُ كيف جئتَ؟
وكيف بِنتَ؟
متى ارتحلت، محملا بالوجدِ، بالخُذلانِ، والألمِ الثقيلْ؟
حينَ افترقنا، والهوىَ– وجعًا- قتيلْ..
حين افترقنا كان أفقُ الوعدِ موفورَ الرجاء وغائمًا حدَّ الهطولِ،
وكنتُ أبكي.. كان كل الكون يبكي،
وارتعاشُ اللحظة الثكلى يُطوِّقنا، وأشواقُ المدائن والفصولْ
حين افترقنا غادَرَ المعنى دلالتهُ،
ترجَّلَ عن سماء الحرف،
غادرنا وخيَّم في مواويل الذُّهُولْ..
عبثًا نلملم ما تشظَّى في دواخلنا لنغرس بسمةً تندى بها أرواحنا،
عبثًا ... ويغمرنا الذبولْ..
وكذا افترقنا...
نظرة حامت تُفتش عن ملاذٍ في خبايا البوحِ يؤويها، ويهمسُ:
لا فراق اليوم، فانسجمي مع الإيناسِ..
هزِّي غيمة الآمال تمطرُ مشهدًا غير الذي أضناكِ،
وابتسمي،
سينساكِ الأفولْ!»

...

مع الاعتذار للشاعرة لتغيير التنسيق في توزيع النص، من أجل ضيق المجال.
شِعر رفيع اللغة، طفوليٌّ الجمال، يُنبئ عن شاعرة قادمة، بملء السودان، خصبًا ورُواءً. لا يحتمل أكثر من الصمت، لاحتساء همسه الصادق، في عذوبة تتأبَّى على الحُزونة، مكتنزة الشِّعريَّة ريَّاها. تلك هي الشعريَّة العفويَّة، حين تقيم المعادلة النادرة التحقُّق، بين: التباس الشِّعر وجلاء المعنى، بين عمق الدلالة وسلاسة العبارة، بين الأصالة والحداثة.
إنه الشِّعر، لا انبتات لنبعه العربيّ الصافي، مهما شعوذ المشعوذون!-[الكاتب: أ.د/عبدالله بن أحمد الفيفي، عنوان الموضوع: " ما تَدلَّى من غُصون الرُّوح!"، المصدر: صحيفة "الراي" الكويتية، العدد 12126، الأربعاء 12 سبتمبر 2012م، ص21]،


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى