الثلاثاء ١٨ أيلول (سبتمبر) ٢٠١٢
بقلم حاتم جوعية

موسيقارٌ عربيٌ قديم

صفيّ الدين الأرموي

هو صفيُّ الدين عبد المؤمن بن يوسف بن فاخرالأرموي البغدادي – والأرموي نسبة ً الى " أرميه " مسقط رأس أجدادهِ، وهي بلدة ٌ في أذربيجان على بعد 921 كم غربي طهران، 293 جنوب غربي تبريز ويطلقُ عليها اليوم اسم "رضائيَّة ". واشتهرَ أيضًا باسم ِ البغدادي لأنهُ وُلدَ في مدينة بغداد حوالي عام ( 613 هج ) ( 1216 م )... ويقالُ إنهُ وفدَ إليها صغيرًا. وكانت بغدادُ بالنسبة ِ لهُ كلَّ شيىءٍ فنشأ وترعرعَ وأكملَ علومهُ ودراستهُ فيها فهي مهدُ طفولتهِ ومعهدُ دراستهِ.

كان صفيُّ الدين ِ نجمًا لامعًا ويُعتبرُ بمثابة ِ موسوعة ٍ علميَّةٍ متنقّلةٍ لا يفوتها بابٌ من المعرفة أو لون ٌ من الثقافةِ وقد اعتبروهُ في الطليعةِ من الأعلام والجهابذةِ آنذاك، وقيلَ إنهُ ألمَّ بجميع ِعلوم ِ وفنون ِ عصرهِ. وكما اشتهرَ أيضًا بجودةِ الخط فكانَ من أبرز ِ مُعاصريهِ وقد اعتمدَ عليهِ الكثيرونَ من أمراءِ الدولةِ وكبار المسؤولين في نسخ ِ المصاحف ِوكتابة الوثائق القيِّمة والكتب والمصادرالهامَّة، ولكنَّهُ بالإضافةِ إلى جميع المواضيع ِ التي كانَ مُلمًّا بها إلمامًا شاملا ً ومُتبَحَِّرًا فيها، إختصاصُهُ واهتمامُهُ الكلي كانَ في موضوع الموسيقى أو " صناعة الموسيقى " حسب ما كانوا يُعرِّفونَ هذا الموضوع في ذلك الوقت.

كان َ صفيُّ الدين يجيدُ الغناءَ والضربَ (العزف) على آلةِ العود بشكل ٍ رائع ٍ وبلغَ في ذلكَ القمَّة َ القصوى التي لم يستطعْ أحدٌ من مُعاصريهِ أن يرقى ويصلَ إلى ذروتها وإليهِ يرجعُ الفضل الكبير في ضبط الأنغام وأدوارها وفي احكام القواعد النظريَّة كما أنهُ أوَّلُ من ضبَّط َ تدوين نغم الألحان وإيقاعاتها فجعل للنغم حروفا ً، ولأزمنة الإيقاع أعدادا، بازاء أجزاء اللحن (وهذا ما يسمَّى اليوم بالنوتة الموسيقية، ولكن النوتة الموسيقيَّة أو الأحرف الموسيقية المتعارف والمتفق عليها اليوم تختلف عن الأحرف الموسيقية التي وضعها صفي الدين الأرموي)، وبهذا يعتبر صفي الدين الأرموي الرائدَ في هذا المجال " التدوين الموسيقي أو كتابة النوته الموسيقية". وقد كانَ حجَّة ً في المعرفة ِ بأحوال ِالأنغام وطبقاتها وأدوارها وإيقاعاتها.

وممَّا يروى عنهُ وقد وردَ في مراجع ِ القرن الثامن الهجري انهُ كانَ مع مجموعةٍ من أصدقائهِ في إحد ِ بساتين بغداد في جلسةٍ غنائيَّةٍ طربيَّةٍ، وأنَّ هزارًا بينما كانَ يعزفُ على العودِ أتى لحسن ِ النغم ِ حتى سقط َ على غصن ٍ قبالة َ وجههِ ثمَّ طارَ ونزلَ إلى الأرض وهو يرفلُ ويُصفقُ بجناحيهِ ويُغرِّدُ طربًا بصوتٍ مرتفع ٍ ولم يزل يفعلُ ذلك ويقتربُ منهُ قليلا ً قليلا ً حتى صارَ بينَ الجماعة ِ.

لقد أدركَ صفيُّ الدين المستعصمَ (640 – 656 هج) (1243 - 1258م) آخر خلفاء الدولة العباسيَّة والتحق َ بخدمتهِ فقرَّبهُ واتخذهُ نديمًا وسلّمَ إليهِ مفاتيحَ خزانة كتبهِ وأذنَ لهُ أن ينسخَ ما يحلو لهُ منها. وقد جاءت معرفة ُ الخليفةِ بهِ عن طريق ِ جاريةٍ مغنيَّةٍ عذبةِ الصَّوتِ رائعة الجمال تُسمَّى " لحاظ " يقترنُ دائما اسمُها باسم ِ استاذها صفيّ الدين الأرموي وكانت، لحاظ ُ تلازمُ الخليفة َ المُستعصم، غنَّت يومًا أمامَهُ فأعجبهُ غناؤُها وسألَ عنهُ فقالت: إنَّهُ لأستاذِها صفيّ الدين، فأمرَ باستدعائهِ، فلما قدمَ عليهِ وجدَ فيهِ الخليفة ُالعلامة َالمتبحِّرَ والفنان العبقري والموسيقارَ الفذ ّ، فأدناهُ منهُ واصطفاهُ لمنادمتهِ حتى أصبحَ عندهُ أقربَ الندماء، وقد جعلَ لهُ راتيا ً يُقدَّرُ بخمسةِ آلاف دينار، عدا ما كانَ ينعمُ عليبهِ الخايفة ُ من مكافآت ٍ وعطايا وهدايا إلخ...

وحين غزا المغولُ بغداد عام (656 ه) (1258 م) قتلوا الخليفة َ المُستعصمَ وأحرقوا بغدادَ ولم ينجُ من الحريق ِ والدمار ِ سوى الحيِّ الذي كانَ يقيمُ فيهِ صفيُّ الدين، فقد استطاعَ بذكائهِ وحذقتهِ وحسن لباقتهِ وسعة ِ حيلتهِ أن ينجيهِ من الخراب والدَّمار ِ ويقرِّبهُ من هولاكو زعيم التتار، ثمَّ بفضل ِغزارة ِعلمهِ، وفنهِ. فكثيرًا ما كانَ يفدُ إليهِ في مجلسهِ وينادمهُ ويسمعهُ عزفهُ وغناءهُ. ويحكى أنَّهُ أسمعَ هولاكو لحنا ً كانَ تأثيرُهٌ كبيرًا عليهِ لدرجةٍ استطاعَ أن يدخلَ النعاسَ والنومَ إلى جفنيهِ.... وتقديرًا لعلمهِ وطاقاتهِ الفنيَّة الفذَّة فقد أسندَ إليهِ هولاكو نظارة َ الأوقاف ِ بجميع العراق ورتبَ لهُ راتبا ً ضعفَ ما كانَ يتقاضاهُ من الخليفة في السابق.

عاصرَ صفيُّ الدين الأرموي عهودًا ثلاثة كانَ موضعَ تكريمها جميعًا... عاشَ حياة ً رغدة ً كلها لهوٌ وسرورٌ وبذخ ٌ تحاكي حياة َ الملوك ِ والأمراءِ وكلنَ آخرها أسرة " الجونيين " فقد اتصلَ بعلاء الدين عطا الملك الجوني وأخيه شمس الدين محمد، وولى في زمانهما كتابة الإنشاء ببغداد (ديوان الإنشاء والكتابة).

لم يفكر صفيُّ الدين أيامَ شبابهِ وفنهِ وثرائهِ في كلِّ العهودِ الثلاثة التي مرَّ بها أن يَدَّخِرَ شيئا من مالهِ لمواجهةِ تقلبات ِ الدهر ومحنهِ حتى سقطت دولة الجونيين وسقط َ معها حظهُ وأفلَ نجمُهُ وقد دارَ بهِ الزمانُ حتى كان في نهايةِ المطاف ِ أن سُجنَ وفاء لدين ٍ كانَ عليهِ يقدَّرُ بثلاثمئة دينار.

آثارُهُ: - لصفيِّ الدين الأرموي عدَّة ُ مؤلفات أهمُّها كتابان في الموسيقى وهما:
1) كتاب الأدوار في الموسيقى: - ألفهُ لنصر الدين الطوسي محمد بن الحسن العالم الرياضي المشهور،المتوفي سنة 672 ه وهو أوَّلُ تصانيفه وأشهرها ألفهُ صغيرًا يبلغ ُ من العمر عشرين عاما ونيِّف، وأقدم نسخة من هذا الكتاب محفوظة بمكتبة نور عثمانية بالأستانة رقم 3653 مخطوطة في سنة 623 ه. وقد قسَّمَ الكتابَ إلى خمسة ِ عشرة فصلا ً كما يلي: -

- الفصلَُ الأول - في تعريف النغم وبيان الحدة والثقل.
- الفصل الثاني - في تقسين الدساتين.
- الفصل الثالث - في نسب الأبعاد.
- الفصل الرابع - في الأبعاد الموجية للتنافر.
- الفصل الخامس - في التأليف الملائم.
- الفصل السادس - في الأدوار ونسبها.
- الفصل السابع - في حكم الوترين.
- الفصل الثامن - في تسوية أوتار العود واستخراج الأدوار منهُ.
- الفصل التاسع - في أسماء الأدوار المشهورة.
- الفصل العاشر- في تشارك نغم الادوار.
- الفصل الحادي عشر - في طبقات الأدوار.
- الفصل الثاني عشر - في الإصطعاب غير المعهود.
- الفصل الثالث عشر - في أدوار الإيقاع.
- الفصل الرابع عشر - في تأثير النغم.
- الفصل الخامس عشر - في مباشرة العمل.

وعلى غرارِ من سبقهُ من كتابِ العربِ، نرى صفيَّ الدين ِ في كتاب ِ " الأدوار" يستعملُ الحروفَ الأيجديَّة َ في تمييز ِ النغم وفق ترتيبها في الأوتار، وكانَ أول عهدنا بذلك في إحدى مخطوطات أبي يوسف يعقوب الكندي، وهي رسالة خبر تأليف الألحان وقد وصف َ الكندي عن النغم في آلة العود بين مطلق البم وبين سبابة المثنى إثنى عشرة نغمة من ( أ ) إلى ( ل ) تخرج بقسمة البعد الطنيني باللحدين ( 8 / 9 ) إلى بعدين أصغرين، إحداهما بنسبة 3/6/4/5/2/2-9

والآخر بنسبة 8/7 4/ 18 / 2/ 2، كما في الترتيب الفيثاغوري، وكل منها قريب من نصف بعد طنيني، وكل وتر يحيط بخمسة منها على هذا المثال. أما صفي الدين فقد قسم البعدَ الطنيني بالحدين ( 8 / 9 ) إلى ثلاثة أبعاد صغار فصارت الأبعاد الحادثه في كل وتر على دساتين محدودة بمسمّياتها، وعدة النغم من مطلق البم إلى سبابة المثنى سبع عشرة نغمة.. وقد لجأ إلى ترتيب الحروف بإزائها بأن جعلَ لذي الخمسة في ذي الكل الأثقل، من مطلق البم إلى سبابة المثلث النغمات من ( أ ) إلى ( يا ) ولذي الأربعة من سبابة المثلث إلى سبابة المثنى النغمات من (يا ) إلى ( يح )، فصارت نغمة ( يح ) من سبابة المثنى صياحا بالقوة لنغمة مطلق البم، ثمَّ جعلَ النغم في الدور الثاني، في ذي الكل الأحد، على الترتيب الذي تقدم. غير أن المؤلف لم يحدد نسبًا محدودة للأبعاد الصوتية يمكن أن نفرضها أساسا لتعريف السلم الموسيقي في القرن السابع للهجرة. وذلك أنه ابتدأ في الفصل الثاني بقسمة الوتر إلى سبعة عشرة قسما على أساس حدود السلم الفيثاغوري القديم.

2 ) الرسالة الأشرفيّة في النسب التأليفيَّة:

ألفها لشرف الدين هارون بن الوزير شمس الدين بن محمد الجويني المتوفي سنة 685 ه وأقدم نسخة من هذه الرسالة محفوظة بمكتبة برلين رقم 5506 مؤرَّخة سنة 674 ه ف 83 ورقة ومنها صورة بمعهد الموسيقى العربيَّة بالقاهرة.
الرسالة تقيمُ إلىِ خمس مقالات وهي:

 المقالة الأولى: - في الكلام على الصوت ولواحقهِ وفي شكوك واردة على ما قيل فيهِ.
 المقالة الثانية: - في حصر نسب الأعداد بعضها عن بعض، واستخراج الأبعاد ونسبها المستخرجة من نسب مقاديرها ومراتبها في التلاؤم والتنافر وأسمائها الموضوعة لها.
 المقالة الثالثة: - في إضافات الأبعاد بعضها إلى بعض وفصل بعضها عن بعض واستخراج الأجناس من الأبعاد الوسطى.
 المقالة الرايعة: - في ترتيب الأجناس في طبقات الأبعاد العظمى وذكر نسبها وأعدادها.
 المقالة الخامسة: - في الإيقاع ونسب أدواره والإشارة في كيفيَّة استخراج الألحان بالصناعة العلميَّة.

صفيّ الدين الأرموي

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى