السبت ٢٢ أيلول (سبتمبر) ٢٠١٢
بقلم محمود سعيد

المدن وحبّات الرّمان

لا، لم تكن التّفاحة هي التي أخرجت آدم وحواء من الجنّة بل كانت الرّمّانة، حوّاء غنجة كأيّ كاعب حسناء، عبثت بفاكهة الجنّة كلّها، كانت تقضم من كلّ نوع، فإن لم تعجبها الفاكهة رمتها، لكنّها أحبّت الرّمان، ابقت الرّمانة في يدها حتى أنهتها، وقبل أن تقضم رمّانة ثانية، جاء أمر طردها من الجنّة، وكان على جبريل تنفيذ الطّرد. حضنها بيمناه وبيدها الرّمانة، وهي عارية ربي كما خلقتني، وحضن آدم بيسراه، ونزل من السّماء السّابعة باتّجاه الأرض، وحينما اجتازوا الغلاف الجوّيّ القارس، تجمّد نهدا حواء، أصبحا أشبه بمنقار النّسر، كادا يجرحا صدر جبريل فأرخى ساعده لتسقط حواء في الفضاء السّحيق، عندئذ عطست من شدّة البرد عطسة هائلة وأرتجفت، فسقطت الرّمانة من يدها، وارتطمت بسطح الأرض لتنتثر الحبّات في القارات كلّها، وقبل أن تتهشّم حواء نفسها على صخور الأرض أسرع جبريل والتقطها، فرآها تبكي الرّمانة الشّهيّة التي سرقتها من الجنّة، فقال لها لا تحزني، فستنبت في مكان كلّ حبّة رمّان مدينة كبيرة يعمّرها نسلك ويحيلها إلى جنّة كالتي طردت منها أو أفضل.

دبيّ

في تمّوز سنة 1999 غادرت دبيّ، وفي تموز 2012 رجعت إلى دبيّ ثانية، وبين مغادرتي وعودتي تغيّرت دبي مئة بالمئة، كانت مدينة عاديّة، فإذا بها بعد هذا الوقت القصير تصبح معجزة بكلّ معاني الكلمة. تغيّرت معالمها، أصبحت مدينة حديثة حتى أني لم أجد فرقاً بينها وبين أيّ مدينة أمريكيّة، فعندما أنتقل من شيكاغو إلى واشنطن، أو نيويورك لا يأخذني الاستغراب، ولا المفاجأة عندما تحطّ قدماي في المدينة الجديدة، فالمدينة في الولايات المتحدة امتداد لأيّ مدينة أخرى في تطوّرها وتقدّمها ورفعتها وخدماتها الخ. هكذا كان شعوري عندما وطأت قدماي دبيّ مرّة أخرى، لكنّي في اليوم التّالي عندما تجوّلت فيها رأيتها سبقت المدن الأمريكيّة ببضعة أشياء، فالطّريق بين دبيّ وأبو ظبي لا مثيل له في أمريكا، ففي كلّ من اتجاهيه ثمانية مسارب، وهو رقم قياسيّ في العالم كلّه، إذ أنّ الحدّ الأعلى أربعة مسارب فقط، ولهذا تعاني جميع المدن الأمريكية نحو ست ساعات يوميّاً من اختناقات طرق تضاعف التّلوّث وتحطّم أعصاب السّائقين والرّكاب وتلتهم وقتهم وتدّمرهم معنويّاً. وطيلة شهر كامل في دبيّ لم أصادف أيّ اختناق مروريّ يذكّرني بمعاناة الطّرق في شيكاغو.
عندما غادرت دبيّ لم تكن خضراء كما هي عليه الآن، ولعل مما يثلج الصّدر أن تجد الخضرة فيها ذات جبروت قويّ يطرد الرّمال بإصرار ودأب كلّ يوم، فإذا علمنا أن مياه الإمارات العذبة مستخلصة من مياه الخليج رأينا أيّ عيون ساهرة في المدينة ترعاها.

لكن كلّ ذلك يهون أمام مترو دبي، إنّه أفضل من أي مترو شاهدته في حياتي، رأيت مترو لندن، باريس، برلين، اسطنبول، واشنطن، نيويورك، شيكاغو، عشرات المدن الأخرى، لكن لا يرتفع ما فيها إلى مستوى مترو دبي، فهذا أجمل وأنظف وأدقّ من الجميع، وفيه مرافق لا يمكن أن تجدها في أيّ مترو مشابه، فمحطات مترو دبي متميّزة بكل معاني الكلمة، لن تجد في أيّ محطة مترو في العالم مرافق صحيّة قطّ، ولعل وجود أربعة حمامات ثنتان للرّجال، وثنتان للنساء في كل محطة نوع من التّرف لا يطاله بذخ أغنى الدّول في العالم، لكنّه بذخ إنسانيّ رحيم وعطوف، مرافق دبيّ أفضل من مرافق أفضل مطارات العالم من دون استثناء، فمرافق مطار هيثرو في شيكاغو (ثالثّ أكبر وأفضل وأحدث مطار في العالم) تشعر بالخجل والحسرة والغيرة أمام نظيرتها في محطات مترو دبيّ، وفي دبيّ بذخ لا تطاله خدمات المدن المتطورة في العالم، لن تجد مواقف حافلات في أي دولة في العالم مكيّفة حرارة وبرودة إلا في دبي، في الشمال الأمريكي تسيطر درجات برودة متدنيّة تصل إلى 20 تحت الصفر، وفي الجنوب ترتفع الدرجة إلى 45 مئوية.

ليس مترو دبيّ ومواقف الحافلات العامّة هما الأفضل في العالم، بل مراكزها التجارية "مولاتها" أيضاً، ففيها كلّ شيء من القهوة حتى الرّحلات السّياحيّة، وإن دخلنا إلى عمق الحياة في دبيّ نراها رغم سعتها وتطوّرها مدينة حانية، فهي رحيمة بالغريب والفقير وابن السّبيل والمعوزّ، وأسعار المواد الغذائية فيها ربع ما تكلّفه في أمريكا، وعُشْر ما تكلّفه في أوربا، حتى فنادقها لينة مطواعة مع جيب الزّائر بسيط الحال.

إن ما حصل في دبيّ خلال عقد واحد من الزّمن لا يشرّف مواطني الإمارات حسب، بل كلّ عربيّ، إنّها تشعره بأننا نحن العرب ندخل التّاريخ بثقة وتمكّن واقتدار، فكما كانت بغداد وقرطبة والقاهرة مشاعل تطوّر ومعرفة في الألفية الأولى أصبحت دبيّ الآن رائدة للتّطوّر ومشعلاً مضيئاً يتقدّم مدننا نحو العمران والاستقرار والأمان.

البصرة، بغداد، موصل.

في عدد حزيران من المجلة الوطنية الجغرافية ""National Geographic 2009 مقالة عن سفينة عراقيّة غرقت في طريق رجعتها من الصّين إلى البصرة، كُتبتِ المقالة بعد العثور على حطام السّفينة، ويبدو من الحطام أنها هوت في قعر البحر من دون أن تتحطّم كليّة، فقد كان جزء منها قد تأثّر، مما أتاح للرّسامين أن يضعوا مخطّطاً واضحاً لها. غرقت السّفينة في سنة 826 م، أي في زمن المأمون، وكانت تحمل 60 ألف قطعة فخار صينيّ، ومنقوشات ذهبيّة. تضع المقالة خط سير الرّحلة من البصرة حتى كونكاسهو "شنغهاي" ومكان غرقها في طريق الرّجوع، والملفت للنّظر أن المقالة تصف البصرة بأهم مرفأ تجاري في العالم آنذاك، وتقول إن العالم في ذلك الوقت تتقاسمه أعظم إمبراطوريتين الأولى وهي الأقوى في الغرب (العباسيّة)، والثّانية في الشّرق وهي الصّينية، والبصرة آنذاك مركز إشعاع حضاريّ وثقافيّ وصناعيّ فريد ومتميّز. لكن ماذا بقي من البصرة الآن؟ لا بل ماذا بقي من أهم مدن العراق: البصرة، الموصل، بغداد؟

ما بقي منها ينطبق عليه المثل عزيز قوم ذلّ. حسب تجار إماراتيين مسنين التقيتهم في دبيّ، كانوا يتّجرون مع البصرة قبل الخمسينات، قالوا كانت البصرة حلماً يرنون إليه، كما يحلم أبناؤنا الآن لزيارة لندن ونيويورك، لكنّها الآن مع مدن العراق الأخرى بائسة متخلفة فقيرة كسيرة الجناح.

مدن العراق تاريخ ومجد وحضارة وعبق ماضٍ غنيّ مشبّع بثقافة عريقة ما إن تفتح أيّ صفحة حتى تلفّك دوّامة ثقافة وعلم وإشعاع لا تستفيق منه حتى تغادره إلى صفحة أخرى. أول مكان سكنتُ فيه في البصرة 1968 كان "البراضعية"، في بداية أحد أجمل الطّرق في العالم "طريق أبو الخصيب" الطّريق متعرّج، تظلّله أشجار النّخيل، وتمتد على جانبيه أشجار البرتقال، والعنب، والموز، وال"المانكو" والبمبر والأجاص والتّفاح الخ، ويقال أن سبب تعرجه أنه حينما أراد الاحتلال البريطاني شقّه عين فيه مسّاحين هنوداً مرتشين، ولعل هؤلاء المرتشين أفضل المرتشين في التّاريخ، فقد خلقوا بفسادهم شارعاً يتلوّى في مساره كالأفعى. كان البعض يرشو المساحّ المسؤول فيعطف هذا الشارع ويجعل بيته أو بستانه يطلّ على الشّارع. ذلك التّعرج جعل الشّارع يغرق في الظّل معظم ساعات يوم الصّيف الطّويل، فيحسّ المرء حالاً بدرجة حرارة أقلّ من التي كانت قبل بدئه. كنت كلّ أسبوع أستقلّ الباص الخشبيّ إلى نهاية الخطّ، ثم أرجع، لم أكن أشبع من النّظر إلى جانبيه حيث مزارع الخضار وانتشار الماشية بين أشجار النّخيل والفاكهة إلى ما لا يمكن حدّه.

طريق أبو الخصيب فريد لا بتعرجه وخضرته والتفاتاته حسب بل بجسوره الصّغيرة المتعدّدة، وبطريقة ريّه الطّبيعية أيضاً، فمزارعه لا تحتاج إلى وسيلة اصطناعية لكي تُروى، شطّ العرب يقوم بالمهمة، يرتفع المدّ كلّ يوم مرّتين، لا يحتاج الفلاح لنقل الماء للسقي، يأتيه الماء من دون جهد وهو مشغول بشؤون أخرى.

ماذا بقي من الشّارع الآن؟ لا بل ماذا بقي من الخضرة، من أشجار النّخيل والأعناب وبقية الفاكهة؟ لا بل ماذا بقي من أبو الخصيب؟ إن قلنا لا شيء فلا نعدو الحقيقة!
بساتين النّخيل والفاكهة انتهت أو كادت، اُستئصل الجمال والبقاع الخضر وغابات النّخيل وأشجار الفاكهة، اُستبدلت البساتين بالبيوت، قسّمت الأراضي الزّراعيّة إلى وحدات صغيرة من 100 متر مربع، معروضة للبيع بأسعار زهيدة. سرى الخراب ومازال منذ الغزو كالوباء، إنّه يلتهم كلّ شيء، يلتهم النّخيل، الأشجار، الشّوارع، وحسب قول الصديق حسين عبد الجبار، يلتهم النّفوس والأخلاق والضمائر أيضاً، يقضي على ما تبقى من قيم.

من يتجول في البصرة بغداد الموصل يرى بيوتاً عشوائية في كلّ مكان، حفراً مليئة بمياه آسنة، وأنقاض أبنية منبثة لا على التعيين. لا أغالي إن قلت أن نصف البيوت التي رأيتها في المدن عشوائية، نبتت كأعشاب مسمومة لتفقأ الأعين بمناظر ناشزة مؤلمة. ذلك الخراب يغيّر من واجهة مدن كانت يوما ما تنعم بالسّلام والإلفة والجمال.

رأيت في قلب البصرة في أوّل يوم وطأتها امرأتان متشردتان تنامان على الرّصيف في أمّ المبروم، تلك أولّ مرّة في حياتي أرى فيها هذا المنظر في هذه المدينة حيث تغفو الطيبة في نفوس أهلها المسالمين الرّائعين. وفي سوق "المغايز" وكان شريان البصرة فيما قبل، شاهدت ازدحاماً لا مثيل له إلا بالشّورجة وباب الطّوب، الجديد في هذه الأسواق أصوات الدّعاية، الآن اكتشف التجار قوّة المسجلات للدّعاية على بضائعهم، فمكبر صوت جنب أخيه جنب ابن عمه جنب آخر، المئات من مكبرات الصّوت تدعو إلى تنزيلات. كاد رأسي ينفجر. ألا يفكر هؤلاء بإزعاج المارّة، لا بل الرّاغبين بالشّراء، ألا تضع البلديّة حدّاً لهذا الإزعاج!
هناك شيء جديد لاحظته في البصرة، والموصل، لاحظت كثرة المرافق الصّحيّة في السّوق، مرافق متخلّفة قياساً بما هو موجود في دبيّن لكنّها بالرّغم من تخلّفها تحلّ مشكلة لدى الغريب والزّائر والمستطرق. يكلّف دخول المرافق "500" دينار، أي ضعف ما يكلّفه استكان الشّاي "250" ديناراًً.

تغرق بغداد كشقيقتيها البصرة والموصل في الإهمال والقذارة والغبار وانقطاع التيار الكهربي تحت صيف تموز وآب الذّي لا يرحم أحداً، ولست أدري لماذا لا يهتمّ المسؤولون بأبسط مقومات الحضارة كالنّظافة! لماذا لا يحاولون تنظيف المدن من الرّكام والأزبال والتّجاوزات والعشوائيات. لماذا لا يحاولون أن ينتشلوا البلد من الخراب والرّشوة والوساطة والطّائفية والتخلّف؟ من يرى مدن العراق يحسّ إحساساً عميقاً بأن لا أحد يحبّها قطّ، مدن يكرهها الجميع، حتى الطّبيعة، فما إن تتجاوز الشّوارع العامة حتى يعميك الغبار المنبعث من حركة السّيارات، وينقبض قلبك لرداءة طرق غير معبدة، مليئة بالحفر والـ"الطسّات" إضافة إلى رداءة الجو.

الشّيء الجديد في ساحات وشوراع مدن العراق الغارقة بالقذارة والجيفة والغبار أنّهم استبدلوا صور صدام بصور معمّمين، وغيروا شعارات البعث "المسخّمة" الكاذبة بشعارات مخزية متخلّفة رجعيّة شرّيرة، شعارات أكل الدّهر عليها وشرب وتغوّط، شعارات تدعو لثارات واستئصالات وتبشّر بالقتل والموت والثّبور وعظائم الأمور، فتشعرك بخوف حقيقيّ وتوحي لك بدوّامة عنف قادمة لا ريب فيها، فيداخلك خوف أسطوريّ من عدوّ وهميّ يتحفّز للإنقضاض عليك بلا رحمة، شعارات تكشف بوضوح أن سخيف الدّين أقسى وأتفه وأشنع من أخيه تعيس الدّين، وأن العراقيّ مادة سهلة للقتل والسّحل والسّحق والتّدمير وأنّه لا قيمة له إطلاقاً، ولذا يجب أن يبقى خائفاً لكي تتمّ السّيطرة عليه، شعارات تكشف قذارة الفكر كلازمة دائمة لقذارة الواقع. كلّ هذا والبلد غارق في طنين فضائيات وإذاعات تتملّق الوضع الجديد وتلّمعه وتشيد به، من دون الالتفات إلى مشاكل الشّعب البائس المغلوب على أمره وتحسين أوضاعه المترديّة كالقدرة الكهربيّة والاهتمام بالنّظافة والتعليم والصحة الخ.

في العراق كله يبدو عبور الشّارع مغامرة غير محسوبة، أنت وحظّك، عليك أن تختار الوقت المناسب للعبور، وتركض في أقصى سرعة، أما السّوق في العراق فمغامرة خطرة أخرى فالسائق هو الذي يمتلك الشّارح وحده، ويتصرف فيه برغبته، ولا يوجد أي حقّ للسابلة.
الشّيء الوحيد الذّي يبشر بالخير في البصرة أنّ المسؤولين استوردوا من الإمارات نوعاً من الأشجار "الكاربس" تقاوم الحرارة وترتوي بمياه قليلة حتى لو كانت مالحة، زينت هذه الأشجار مداخل ومخارج المدينة، وأظنّهم سيتمكنون بها في المستقبل من إخفاء القبح والأبنية العشوائية، وحتى لو كان قصدهم هذا فهو أفضل الشّرين، يبشر بالخير، وهو أمر تفتقده في الموصل وبغداد.

في دوائر الدّولة لا ترى سيداً سوى الرّشوة. الرّشوة سيدة عراق اليوم من دون منازع، ستذهل عندما تواجه جشع بعض الموظفين ودناءتهم ورغبتهم في الاستحواذ على ما تملك وما لا تملك تحت مظلّة وسيطرة إئتلاف القانون. لو قال لي شخص ما قبل الاحتلال إن استخراج هوية الأحوال المدنية ستكلّفني 6800 دولار لسخرت منه، واتهمته بالجنون، لكنّ هذه هي الحقيقة، دفعت في دائرة الجنسية في البصرة 800 دولار، مع تكاليف أخرى غير منظورة، تعادل 6000 دولار، هي ثمن بطاقات الطّائرة إلى السّفارة العراقية في واشنطن مرّة، وأربع سفرات إلى القنصلية العراقية في ديترويت، وسفرتين إلى بغداد، فهل يعقل أن تدفع لقاء وثيقة بسيطة هذا المبلغ الضخم؟ وكانت مجانية في الماضي ولا يستغرق استخراجها سوى ساعتين!

حين تتوجه نحو الموصل يبدأ العذاب الحقيقيّ، مفرزة تجبرك على التّوقف كلّ خمس دقائق، أحياناً يكتفي الجندي بالنّظر إلى وجهك كأنّه علام الغيوب، وأحياناً يوجه إليك جهاز الاستشعار، وأحياناً يدور بالجهاز حول السّيارة، وأحياناً يطالبك بالهويّة، وربما يعنّ له أن يفتش السّيّارة. لماذا يفعلون ذلك؟ لا إجابة سوى الاستفزاز، إن تذمّر السّائق أو أحد الرّكاب فذلك هو المطلوب، "بهذلة" وإهانة وربما تحقيق وسجن ووو. لماذا كلّ ذلك؟ يحتجون بوجود التّفجيرات. أتفجيرات مع كلّ هذا التّفتيش؟ لا أحد يدري.

لكن كلّ ذلك يهون مقارنة بما تراه لو اتجهت إلى شمال العراق. في نهاية العيد عنّ لنا زيارة مصيف في دهوك، وبعد اجتياز بضع مفارز ووقوف وتدقيق هويات الخ، جئنا إلى نقطة التّفتيش الكبرى، علينا استحصال تأشيرة للدخول إلى دهوك.

في مطار الكويت وقبل أن أدخل المدينة انتظرت خمس دقائق، سُلّمت بعدها التأشيرة. وفي طريق دهوك رأينا أكثر من 300 شخص ينتظرون تحت أشعة شمس آب المحرقة، سالنّا أقرب واحد إلينا: كم ساعة وأنت تنتظر؟ قال: ساعتان ونصف. رجعنا. كل هذا الوقت وفي حرّ جهنم والغبار والعرق وزحمة المكان! وأنتظار ساعتين ونصف؟ إنّه إذلال لا مثيل له. من حقّ أي مواطن عراقي الدّخول إلى أيّ بقعة في العراق من دون تأشيرة! لماذا يفعلون ذلك؟ لماذا لا تعاملهم المحافظات الأخرى بالمثل؟ لست أدري.

شوارع بغداد والبصرة أفضل من شوارع الموصل المليئة بالحفر وال"طسات" والعثرات والارتفاعات والمفارز، بالرّغم من تحسن قليل فيها بعد سنة. في العام الماضي لم يكن هناك سوى محطتي تعبئة بانزين في الموصل، وكان رتل المنتظرين يمتدّ كيلومترات، أما الآن فهناك أكثر من محطة، والحصول على الوقود أسهل من الماضي، أما مأساة الشّوراع الكبرى في المدن الثّلاث فهي أطفال التّقاطعات، إنّهم يهرعون إليك، يتحدّون طيش المركبات وسواق الدّراجات النّارية والحرّ الجهنميّ ليبيعوا قناني الماء، ينتقلون من جهة إلى جهة، ومن رصيف إلى أخر، يراوغون السّيارات المسرعة والطّائشة، لكي يحصلوا على لقمة العيش في بلد يدرّ عليه نفطه سنوياً أكثر من 80 مليار دولار!

هذا المنظر لا تجده في أيّ بلد متطور، لا تجده في الإمارات، ولا في الكويت، ولا في أيّ دولة نفطيّة، لماذا نحتقر أطفالنّا؟ لماذا نرميهم للتهلكة؟ لماذا تسرق الحكومة أموال نفطهم؟ لماذا تتخم كروشها بالمال الحرام؟ لماذا تتركهم يصارعون القدر في معركة موت أو حياة من أجل سدّ الرّمق؟ مئات مليارات الدّولارات انتزعت من أفواه الجياع، والمرضى، والفقراء، والأيتام، والأرامل، واستثمرت في الإمارات ودول الخليج الأخرى وأوربا وأمريكا، والعراق يباب خراب لا يرتفع في سمائه سوى شعارات زائفة، ومزايدات تعسة!

في العراق يسود ثالوث الشّر: المحاصصة والطائفية والعرف العشائري مع الأسف. سيادة هذا الثالوث رجعة كبرى إلى الحياة في ظلّ الغابة، والتخلّف، والوحشية، أليس من المهين أن يسود عرف عشائريّ متخلّف في بلد سنّ أوّل قانون متحضّر في التّاريخ؟ أيّ رجعة همجيّة اكتسحتنا؟

أتمنى أن يشرّع مجلس النّواب قانوناً يلزم كل عضو فيه وكل مسؤول في الدّولة بمرتبة مدير عام فما فوق، حتى رئيس الوزراء، رئيس الجمهورية، يلزمهم بالسّير ساعة واحدة على أقدامهم في شوارع المدن العراقية وتسجيل ما يرونه ناقصاً فيها، وتقديمه إلى لجنة إصلاحات تشكّل لهذا الغرض، وكما قال لي صديق في دبيّ إن ضاحي خلفان رئيس الشرطة يلزم نفسه بذلك، لهذا تنتقل دبيّ كلّ يوم من حسن إلى أحسن، بينما تتراجع مدننا إلى الوراء، ولهذا أيضاً يهرب مسؤولونا بما يسرقونه من العراق إلى دبيّ، وقال لي صديق آخر فيها، إن في ضاحية تدعى سهول دبيّ يوجد ستة وزراء عراقيين يبنون قصوراً هناك، وأن هناك أكثر من مئتي مليونير ومليادير عراقي "حديثي نعمة" سكنوا واستثمروا في عقارات دبيّ.
وأخيراً متى سترجع مدننا كما كانت جميلة خضراء متطوّرة؟ متى ستصبح مثل دبيّ؟ عشر سنوات؟ عشرون؟ خمسون؟ حينذاك كيف ستصبح دبي؟


مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى