الثلاثاء ٢٥ أيلول (سبتمبر) ٢٠١٢
بقلم مصطفى أدمين

سباق

لم يُرضِني الحصولُ على الرتبة الثانية في سباق الدراجات الأخير لأن البطل الذي جاء في الرتبة الأولى لم يكن تدرّبَ أكثر منّي في النادي، ولأنّه لم يكن أصغر منّي سوى بسنتين؛ هو في الثامنة عشر من العُمر وأنا في العشرين، وأنا أقدم منه في النادي. لذا قررتُ أن أتدرّبَ أكثر لأهزمه في الدَّوري الذي سيُقام ما بين مدينتي مراكش وأكادير بعد ثلاثة أشهر.
خطّتي التدريبية كانتْ أن أقطع مسافة مائة كيلومتر في أقلّ من ساعة مرّتين في الأسبوع، في قطعة وعرة من المسار المرتقب. وهي القطعة التي اخترتُها ما بين مدينة إيمنـْتانوتْ؛ مدخل جبال الأطلس الكبير جنوباً وإحدى المحطات الطرقية.
وفي ما أنا على دراجتي الهوائية الاحترافية باللباس الخاص بالأبطال المحترفين، عند مطلع قرية الدَّمْسيرة؛ شاهدتُ رجُلا كبير السِّن يلبسُ جلباباً على دراجة هوائية عادية خضراء يخرج من طريق صغير غير معبّد، من «دَوّار» غابر في أحد فِجاج المنطقة.
عند بلوغي منتصف العقبة التي من بعدها سأطِلُّ على الدّمسيرة، رأيتُ ذلك الشيخ يمرُّ بجانبي بسرعة. الرجل لم يلتفت إليّ، وكأنّه يقول لي:«أمرُك لا يعنيني». ولستُ أدري لماذا تذكرتُ غريمي في هذه اللحظة بالذات، فضغطتُ على الدوّاستين بقوّة لا تخلو من روح التنافس والقتالية الرياضية؛ وهكذا وجدتُني أتجاوزُ الشيخَ عند حرْف العقبة.
للذي لم يزُرْ الأطلس الكبير الجنوبي أقول:«غابة شجرة الأركان المستوطنة في المغرب من دون دُول العالم، وفي هذه المنطقة، لا بُدَّ أن تفرض عليه التوقّف عن قيادة سيارته أو التخفيض من سرعتها لأجل تأمُّلها واقتطاف بعض من ثمارها الذهبية». في سحر الطبيعة، خفضتُ سرعتي، فإذا بي أرى الشيخَ يتجاوزني وينظر إليَّ نظرة غريبة.
لم أهتم كثيرا لأمره. ما أهتمُّ له هو أن أحقّق ما خطّطتُ له: المسافة والزمن.
في المنحدر، تقاربت سرعتانا، ومع ذلك كان يضغط على الدوّاستين بقوّة ويلتفتُ إليّ، وينظر إليّ نظرة ً لم أفهم مدلولها.
ثم جاء منبسطٌ وفيه وجدتُني أتجاوزه بسهولة، ثمّ غاب عن نظري مسافة ً قدّرتها بعشرين كيلومترا من العقبات والمنحدرات؛ إلى حدّ أنّي نسيتُ أمرَه. غير أنّ المفاجأة كانت هنا: نفس الشيخ والدراجة أمامي على بُعْدِ بضعة كيلومترات. إنه هو. لا يمكن أن أخطِئ؛ فلقد تعرّفتُ وجهَهُ الحادّ ولحيتـَه البيضاء المُشذبة وجلبابَه الصوفي الأبيض المتّسِخ ودرّاجتَه العادية الخضراء ودوّاستيها الحديديتين... هو. لحظتها فهمتُ أن الشيخَ قرّر الدخول معي في تحدّي سباق، ولأجل أن يفوز عليَّ، بذل ما في جهدِه، ولمّا وجد نفسَه غير قادر على هزمي، لجأ إلى الغشّ. فكان السّباق المُعلن... في عقلي.
تجاوزتُه وألقيتُ نظرة خاطفةً، فرأيته يرغي ويزبد ويدوس ويتلوّى. فكّرتُ أن أتوقّف لأقول له:«لماذا المعاندة يا أبي؟» ولكن المقامَ مقامَ سباق ومُنافسة. وهو من أراد. فانطلقتُ كالسهم ونسيت أمره نهائياً حيث أنّه لم يظهر من جديد.
قطعتُ المائة كيلومتر في الزمن الذي حدّدتُه لنفسي، وفي العَوْدة، استقللتُ (ودراجتي) حافلة نقل عمومي وأنا مرتاح وفخور بنفسي. غير أن الحافلة توقّفت مضطرّة: سيارات، وأناسٌ، ورجال درك، وسيارة إسعاف، ودراجة هوائية خضراء ملقاة بإهمال، ورجلٌ سبعيني بجلباب أبيض وسِخ، ورغوة بيضاء متكلّسة على فمِه.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى