الثلاثاء ٩ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠١٢
بقلم فيصل سليم التلاوي

أضعف الإيمان

كعادته يُبكر عبد الحميد إلى موعده الدوري في عيادة السكري مرةً كل ثلاثة أشهر، ليظفر بموقف لسيارته أولا، و بمقعد يريح عليه بدنه قبل أن تغص صالة الانتظار بالمراجعين، فلا تجد فيها موطئا لقدم.

و مع كل حرصه على التبكير الذي يسبق الدوام بساعة على الأقل، إلا أنه يجد عشرات من المراجعين قد سبقوه. يضغط على آلة الترقيم و يأخذ له رقما متسلسلا، و بصعوبة بالغة يجد لنفسه مقعدا بين المقاعد القليلة التي لم تزل خالية.

يسأل عبد الحميد نفسه:

 منذ متى حضر كل هؤلاء؟ و علامَ يتسابقون مبكرين ما دامت المراجعة تبعا للدور بكل مراحلها؟ مِن أخذ الرقم، فانتظار الكشف الأولي، فمراجعة المختبر، ثم مقابلة الطبيب، فالمحاسبة، و مراجعة الصيدلية لاستلام الدواء، ثم أخذ موعد جديد. كل ذلك يستغرق وقتا بين الساعتين و الثلاث ساعات مهما تقدمت في حضورك أو تأخرت.

كان النهار صيفيا حارا ينفث سَمومه من أول النهار، والريح الهائجة تثير في الخارج غبارا يزكم الأنوف و يلهب العيون.

جلس عبد الحميد و هو يخمن أن ساعة قد تمضي بعد بدء الدوام حتى يصله الدور، و يبدأ خطوته الأولى. اكتظت الصالة بالمراجعين الواصلين تباعا، حتى صار الواقفون أكثر عددا من الجالسين. زادت أنفاسهم و زفرات انتظارهم الجو حرارة و سخونة، لولا مكيف هواء ينفح الصالة ببعض نسمات باردة رطبة، تخفف قليلا مما يكابده هؤلاء المنتظرون من ضيق و نفاد صبر و حرارة.

طال على هؤلاء الأمد و هم يحدقون في ساعاتهم و لم تبلغ الثامنة بعد، ليبدأ النداء على الأرقام بالتتابع، عندما نهضت امرأة بدينة من مقعدها وأدارت ظهرها لجميع الحاضرين، و توجهت صوب النافذة المجاورة لها ففتحتها على مصراعيها، ثم استدارت منتشية مواجهة لجمهور الجالسين، تهف بيسراها على و جهها و صدرها كمن يستمتع باستجلاب الهواء ليبرد به نفسه، و عادت متمايلة إلى جلستها الأولى.

تململ كثير من الجالسين في مقاعدهم، و نظر بعضهم ذات اليمين و ذات الشمال، كأن كل واحد يستنكر ما حصل، و يحث جاره ليكون البادئ بالاعتراض، و يقينا أن كل واحد منهم كان يتمتم بينه و بين نفسه:

ما جدوى مكيف الهواء مع شباك مفتوح على مصراعيه للحر و الغبار؟

كرروا تبادل النظرات لكن أحدا لم ينبس ببنت شفة. تجهمت وجوه بعضهم تعبيرا عن استنكارها لما حدث، ولبثت على تجهمها حينا كأنما رأت منكرا و أرادت تغييره، لكنها همست في أعماقها :

( ... فإن لم يستطع فبقلبه ، و ذلك أضعف الإيمان)

ضاعت نسمات مكيف الهواء أمام فحيح الهواء اللافح الممتزج بالغبار، الذي يأتي من النافذة، و واصل الجالسون تسمرهم على مقاعدهم كأنهم خُشُبٌ مُسنَّدة، و عيونهم مشدودة إلى شاشة تلفاز عملاقة، تقدم تمارين رياضية تعليمية لمرضى السكري، لتساعدهم على حرق مخزون السكر الزائد في أجسامهم.

يؤدي تلك التمارين رجل و امرأة بطريقة فنية جذابة، هي أقرب إلى الحركات الإيقاعية الراقصة منها إلى الرياضة، و يمكن أن يؤديها كل بمفرده في منزله.

كان الجالسون في غاية الانسجام و المتابعة، إذ لا تسلية أخرى يُزجون بها وقت انتظارهم، عندما نهض من وسط الصالة ذلك الرجل بلحيته الكثة، واتجه صوب الشاشة ضاغطا على زر التشغيل ليقفله، ثم ليعود إلى مكانه نافخا صدره منتشيا كأنما هو عائد من غزوة مظفرة.
تململ الجالسون في مقاعدهم، و حرك الواقفون أقدامهم خطوات تبادلوا بها أماكن وقوفهم، و نظر كل واحد يمينا و شمالا، و تشجع بعضهم أكثر من غيره فمد نظره أماما و خلفا، و لم ينبس أحد بنت شفة، و همهم كل منهم بينه و بين نفسه:

(من رأى منكم منكرا فليغيره .... فإن لم يستطع فبقلبه، و ذلك أضعف الإيمان)

ظلت العيون مبحلقة في الشاشة المطفأة، و نسيت النافذة التي أشرعت قبل حين.
لفت نظري مراجع جديد دخل الصالة لتوه، رجل في منتصف العمر، بدت عليه سيماء الرزانة و الوجاهة، توجه من فوره صوب الموظفة ليقدم لها ملفه. شدتني نحوه هيئته و مهابته، فأردت أن أصنع معه خيرا بأن أدله على مكان آلة الترقيم، لأدخر بعض وقته الذي قد ينقضي قبل أن يأخذ رقما، و قد يسبقه آخرون جاؤوا بعده، فأشرت له صوب الآلة فتجاهل إشارتي، و واصل طريقه صوب الموظفة ليناولها ملفه . عندما خاطبته الموظفة المختصة:

خذ رقما و انتظر دورك. أدار لها ظهره.

وعندما أصررتُ على مواصلة تطوعي في تقديم الخدمة المجانية له، و تقدمت نحوه لأدله على موقع آلة الترقيم، التفت إليَّ بطرف عينه، و أراني الرقم الذي كان يطبق يده اليسرى عليه، و أدار لي ظهره و مضى.

مثله تماما فعلت امرأة دخلت بعده بلحظات، و توجهت من فورها للموظفة المختصة، و تطوعت امرأة لتقدم لها خدمة فتدلها على آلة الترقيم والدور، مثلما تطوعت قبلها بتقديم خدماتي للرجل ذي الهيئة و الهيبة، فأخرجت لها الرقم من حقيبتها لتريها إياه ثم لتشيح بوجهها عنها .

تعلمت بعدها أن أكف عن متابعة الداخلين و الخارجين، و واصلت صمتي.
عندما ردد النداء الآلي رقم 42 و لملمت نفسي للحاق بدوري، كان جاري الذي على يميني، والذي تبادلت معه النظرات مرتين سابقا قد نهض أيضا، و بينما توجهت إلى غرفة الطبيب، رأيته يتوجه صوب الشباك المجاور له، فيفتحه على مصراعيه، ليملأ رئتيه بالهواء الطبيعي الآتي من الخارج، و خمنت أن جميع من في الصالة قد عاودوا تبادل النظرات، و ربما زاد الجالسون تململا في مقاعدهم ، و زاد الواقفون من حركة أقدامهم، و يقينا أن كلا منهم قد حدث نفسه بحكاية أضعف الإيمان. بينما ضاعت نسمات المكيف اليتيم بين سموم الهواء الحار و المغبر، الذي تنفثه النافذتان المشرعتان عن يمينه و شماله، و ظلت الشاشة المطفأة تبحلق في عيون المشاهدين الصامتين، واستمر كل داخل جديد يأخذ رقما و يدسه في جيبه احتياطا، بينما يحاول أن يحشر نفسه متخطيا دور غيره ما أمكنه ذلك.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى