الاثنين ٢٢ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠١٢
الرؤية المؤطرة لأضمومة
بقلم المصطفـى فرحات إبزو

«الموكب الملكي» لعبد الرحمن الوادي

1. يتضمن كل إبداع فني مكونين أساسيين، قد يهيمن الواحد منهما على الآخر، لكنهما يحضران توأمين متلازمين، إنهما الشكل والمضمون، وإلى جانبهما مكون خفي يتقاسمهما فضاء الإبداع ويشكل فيه البعد الثالث، إنه البعد الرؤيوي للمبدع، قد يكون هذا المبدع معلنا أو غير معلن من قبل المبدع لكنه أبدا حاضر في ثنايا الإبداع ظلا كان أو ضوءا أو عتمة، إنه الخلفية المعرفية الثقافية والفلسفية والاجتماعية والأيديولوجية والاقتصادية والنفسية والدينية التي أطرت وتؤطر المسار الحياتي للمبدع وتفرض عليه اختياراته الوجودية عامة والإبداعية خاصة.. هذه الخلفيات هي التي ينطلق منها المبدع وهو يخلق عالمه الإبداعي المتفرد بكل ما يزخر به هذا العالم من حركية وحيوية وتفاعل بين مكوناته، عالم روحه اللغة ـ في حالة الإبداع الأدبي ـ فبها يتأسس، ومن خلالها يعلن عن نفسه. وفي هذه المقاربة لأضمومة "الموكب الملكي" سأسعى إلى استجلاء جانب من الرؤى التي أطرت هذه الأضمومة من خلال التركيز على رؤية واحدة وهي رؤيته للإبداع والفن في إطار علاقته بالمبدع والمتلقي والمؤسسات الثقافية والسلطة وغيرها..

2. تنعكس رؤية الكاتب للإبداع والفن من خلال اثني عشر نصا: (1. مجرد... 2. رئيس التحرحير. 3. مشروع مطربة. 4. نوتة متعفنة. 5. اعتداء. 6. سنفونية خاصة جدا. 7. شطط. 8. قفل بلا تاء. 9. حفل توقيع. 10. جسر الخليل. 11. غارة. 12. الموكب الملكي.)

لقد حملت هذه النصوص على عاتقها بالدرجة الأولى تبليغ رسالة الكاتب وتقديم رؤيته لواقع الإبداع والفن، وهي إذ تصب جميعها في هذه التيمة الجامعة فإن كل نص أو مجموعة من النصوص ترتبط بتيمات صغرى سأحاول مقاربتها بمنهج تجزيئي يتوخى إعطاء صورة شبه كاملة للبعد الرؤيوي في الأضمومة.

3.رؤيته لعلاقة الإبداع بالمبدع والمتلقي:

ليس من باب المصادفة أن يفتتح الكاتب مجموعته القصصية بالقصة المعنونة "مجرد.." التي تطرح إشكالية قديمة متجددة تتعلق بالمقاييس التي يجب أن نتعامل بها مع الإبداع، فالمؤسسات الثقافية وأغلبية القراء أو المتلقين لهذا الإبداع ينطلقون في الحكم على الإبداع من مقاييس شهرة المبدع، وهذا يعني أن المبدع المغمور لا حظ له من الاعتراف مهما تميزت إبداعاته وتفردت، فعندما يتحول المبدع إلى علامة تجارية يصبح كل ما ينتجه قابلا للاستهلاك ولو أن هذا المبدع قد انتهت مدة صلاحيته في حين يبقى المبدع المغمور بلا زبائن ولو كان منتوجه غضا طريا ولذيذا ومغذيا.. ويبقى السؤال كيف نتجاوز هذا الوضع الشاذ؟ إن الكاتب يدعونا إلى التفاعل مع النصوص الإبداعية في حد ذاتها ومحاكمتها بمقاييس فنية وجمالية، إنهما الفيصل والحكم..

وتبقى قصة "مجرد.." بيانا أدبيا من الكاتب موجها إلى قراء "الموكب الملكي" يدعوهم فيه إلى التركيز على نصوصه الإبداعية وليس على شخصه.

4. رؤيته للمبدع:

في قصة "نوتة متعفنة" يستعرض الكاتب صورتين متضادتين للمبدع: المبدع الأصيل والمبدع الهجين. فالشاعر الطموح الذي يأمل أن يمنح لقصيدته التي قد يكون استغرق في إبداعها وقتا فرصة رؤية النور ليجد طريقه للناس لا تصلح عند الملحن المغرور إلا لمسح المؤخرات، فيحبط الشاعر الموهوب من استهزاء الملحن المغرور، ويثور في وجهه.
وإذ يقف الكاتب متعاطفا مع الشاعر فإنه في حقيقة الأمر يناصر الإبداع الحقيقي، وهذا يعني ضمنيا استهجان الإبداع المزيف، الإبداع الذي لا يستطيع أن يخفي إفلاسه.
وفي رمزية ملفتة يطرح نص "اعتداء" ما تعانيه الثقافة في مجتمع لا يقرأ، فإذا كان المجتمع هو الخاسر، فإن المبدع يبقى الضحية، فقد رمزيته التي تمتع بها خلال تاريخه الكتابة، فلا أحد يكترث بما يقول أو يفعل، وليت الأمر يقف عند هذا الحد، بل فقد احترامه ويُتطاول على إبداعه وفكره، يحتقر ويمرغ في التراب، وحده بطل القصة من يرد له الاعتبار، وينفض عنه الغبار. وواضح مدى تعاطف الكاتب مع هذا النوع من المثقفين الذين يبدعون داخل مجتمع لا قيمة للثقافة في حياتهم بل تعتبر آخر انشغالاتهم.

5. رؤيته للإبداع:

"حفل توقيع" نص يبرز فيه القاص مدى انحطاط الذائقة العامة لجمهور الفن، الذائقة التي اعتادت الفن الوضيع المبتذل فأعلن من شأنه وجعلت من أنصاره نجوما، في حين لا تلقي بالا للفن الرفيع فيجد أنصاره أنفسهم معزولين ومغمورين ولا من يهتم بهم. هذه
الوضعية عانت منها كاتبة حضرت للقاعة لتوقيع كتابها الأخير لتفاجأ بجمهور غفير لم يكن في الحسبان، تغمرها الفرحة والسعادة التي سرعان ما ستزول عندما تكتشف بأن الجمهور الذي حضر سيغادر، لقد أشكل عليه الأمر بين اسم الكاتبة واسم مغنية مشهورة..
لا يرسم الكاتب في هذا النص صورة قاتمة لما آلت إليه ذائقة الجمهور فحسب بل إنها إدانة واضحة للجمهور الذي تم تدجينه وإفقاده كل مقومات الذوق الرفيع ليساهم في نشر الفن الوضيع والمتعفن، لذا انقلبت الأوضاع، فالجميل أصبح قبيحا، والمفيد أمسى مفسدا.

6. رؤيته للعملية الإبداعية:

في هذا المنحى نجد ثلاثة نصوص: "سنفونية خاصة جدا" و "جسر الخليل" و "غارة" ما يجمع بين هذه النصوص هي المعاناة التي تلازم المبدع المنخرط جماليا وفكريا وروحيا في إبداعه، وردود الفعل أو الأفعال اتجاه الإبداع والمبدع نفسه.

في النص الأول "سنفونية خاصة جدا" يحضر المبدع القلق بوعيه الشقي في علاقته بوطنه، وهو وطن متجذر في ذاته، يسكنه بحدة لكن للأسف لا يتلقى من هذا الوطن غير النكران والجحود، فيقرر بعد تفكير مليّ أن يتخلص منه بتمزيقه وتفتيته وتذريته في الهواء حتى لا يبقى منه أثر، لكنه ما كاد يفعلها حتى استيقظ فيه عشق الوطن القاسي من جديد، فلم يجد بدّا من احتضانه وبحب أكبر، وكأني بالكاتب وهو يبدع النص يتردد في أعماقه بيت ابن الرومي الشهير:

بلادي وإن جارت علي عزيزة
وقومي وإن ضنوا علي كرام

في النص الثاني "جسر الخليل" وهو نص لم يكمله كاتبه، هو مشروع قصة للبطل ما كاد يشرع في كتابتها حتى توقف فجأة عن الكتابة، يخرس القلم ويعجز عن المواصلة، هي إذا معاناة للإبداع الحقيقي، فعندما يجف النبع ويتوقف الإلهام وتتحول الكتابة إلى ما يشبه جَلْدا للذات يصبح الاستمرار عبثا والإبداع رديئا، ولا نملك مع الكاتب إلا أن نثمن سلوك المبدع الذي يحترم إبداعه، ولعل في هذا النص شئ من قول ا لفرزدق: "وقلع ضرس أهون علي من قول بيت واحد من الشعر".

أما النص الأخير "غارة" فيحيلنا على مقولة في علم النفس قديمة تقول: "الفنون جنون" فنحن أمام المبدع الشاعر الذي لا يجد فضاءات تحتضن موهبته وإبداعه، لا يجد من ينصت إليه فقرر أن يأخذ المبادرة فيقتحم المقهى ليسمع رواد المقهى شعره، لكن لا أحد اهتم، إنهم منشغلون بأمور أخرى لا علاقة لها بانشغالات المبدع الذي لم يتلق غير الرفض والاستهجان، ولم يجن سوى الخيبة. لقد حكم عليه المجتمع الذي لا جدوى فيه للشعر بالصمت الأبدي.

عموما يرى الكاتب من خلال هذه النصوص أن الإبداع ليس متاحا للجميع، إنها معاناة حقيقية للذين يعتبرون الإبداع رسالة سامية ورفيعة، وتتضاعف المعاناة عندما ينظر المجتمع إلى المبدع ككائن مثالي لا يفهم حقيقة الأمور كما تجري على أرضية الواقع.

7. علاقة الإبداع بالجنس:

في هذا الاتجاه يمكن إدراج نصين: "رئيس التحرحير" و "مشروع مطربة". رغم معالجة هذين النصين لقضيتين منفصلتين إلا أني أعتبرهما متكاملين، ذلك أن النص الثاني يفسر النص الأول. فالنص الأول يتناول قضية الإبداع بشكل مجمل، والثاني موهبة الغناء والطرب لكن الرؤيا تبقى واحدة في كليهما، ففي أقصوصة "رئيس التحرحير" يحاكم الكاتب المسؤول عن قسم التحرير في المجلات والجرائد الأدبية حيث يعني المسؤول من عقد جنسية حكمت اختياراته للنصوص الإبداعية التي تستحق النشر. فالنص لا يُقيم بمقوماته الفنية والجمالية والدلالية، بل يقيم يُقَوّم بمصدره، فكل ما تكتبه الأنثى قابل للنشر، ولكن بشروط رئيس التحرير، هذا ما حصل عندما تلقى نصا باسم أنثى فغمرته الفرحة لأنه سيصرف مكبوتاته، احتضن النص كما لو يحتضن صاحبته، لكن سرعان ما سيشعر بالإحباط عندما يكتشف أن نفس النص وصله عن طريق ثان ولكن باسم ذكر.

ارتباطا بما سبق فإن نفس الرؤى نجدها في قصة "مشروع مطربة" حيث يتم اختيار الأصوات على أسس بعيدة كل البعد عن المقاييس الإبداعية، فالأمر في آخر المطاف لا يتعلق بإبداع يعلم ويربي ويهذب، بل إبداع يرتبط بمن يملك الأرداف والنهود والأسنان المتراصة..

8. السلطة والإبداع:

يتضمن هذا المحور ثلاثة نصوص: "شطط القطط" و "قفل بلا تاء" و "الموكب الملكي". فعندما يملك الشخص سلطة الحل والعقد ولا يملك شخص آخر غير إبداعه فالمعادلة تكون غير متكافئة، ويبقى الخاسر هو المبدع، هذا ما تحاوله النصوص الثلاثة إبلاغه. ففي " شطط القطط" يطرح الكاتب علاقة المبدع بالمواقع الإلكترونية، من يملكون سلطة الفتح والإغلاق، وبالتالي سلطة الاحتضان أو الإقصاء في حق المبدعين الذين يودون أن يكونوا مختلفين أو مستقلين، فكل من يرفض التدجين يعرض نفسه للإلغاء والإبعاد من حضرة المنتدى، قد تكون نوايا المبدع سليمة إلا أن صاحب الموقع قد يجعل منه كبش فداء، هذا ما حدث لبطل الأقصوصة.

أما في نص "قفل بلا تاء" فيطرح الكاتب علاقة المبدع بالنقد، فالمبدع غالبا ما يرى في المصطلحات التي يقرأ بها الناقد الإبداع بلا معنى، لأنه ضمنيا يعتقد بأن تسمية الحالات الإبداعية ومحاولة ضبطها وتفسيرها ووضعها في إطارها لإدراكها والوعي بها تحد من تدفق الإبداع الذي لا يعترف بالحدود، إنه تجني على الإبداع الذي هو منتوج لا يمكن عقلنته، وهكذا نجد بطل "قفل بلا تاء" وبسخرية لا فتة يعبر عن رفضه للنقد.

في نفس الاتجاه يسير "الموكب الملكي" جوهرة عقد المجموعة فقد وجد مؤنس الملك/الحكواتي، وهو يحكي للملك حكاية الملك الذي اختلط بالناس ليشاهد موكبه فيورط نفسه.. الحكاية لم ترق للملك فأمر بإحراق الحكواتي وذر رماده. لم يستطع الحكواتي أن ينجو في تخليص نفسه وهو ما نجحت فيه شهرزاد..

وأعتقد أن كل سارد يحمل في دواخله حكواتي السلطان وشهرزاد، وعليه أن يختار في أي صف يكون.

وآمل من خلال هذه المقاربة أن أكون قد كشفت عن جانب من رؤى الكاتب، وقربت من لم يقرأ المجموعة من حافتها، وفتحت شهية البعض لقراءتها.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى