الثلاثاء ٣٠ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠١٢
بقلم آمال عواد رضوان

أمسية زجليّة كروانيّة أدبيّة!

بمزيدٍ من تدرُّج الطموحات الفيّاضة المتألقة والمُعزَّزة بالكلمةِ والنغمة، وبمزيدٍ من التعاون مع منتدى الحوار الثقافيّ البادية في عسفيا الكرمل، افتتحتْ جوقة الكروان الجليليّة مهرجانَها السادس «يلاّ نغنّي سوا 2012» في مقرّها «المعهد الموسيقيّ» في عبلين، بأمسيةٍ زجليّةٍ كروانيّة أدبيّة، وبسُبحةٍ زجليّة متميّزة تحت عنوان «أضواء على الزجل»، أحياها الزجّال الصاعد المتألق د. سامر خوري من عيلبون بثلاث وصلات زجليّة، بمرافقة جوقة الكروان وفرقة المعهد الموسيقيّ، وبمداخلة د. بطرس دلّة حول منشأ الزجل وتاريخه ونماذجَ منه، وبمداخلةٍ أخرى لد. منير توما حول أنواع الزجل، وقد وتولّى عرافة الأمسية الشاعر والأديب زهير، وذلك بتاريخ 24-10-2012، وقد تألّقت الأمسية الزجليّة بحضور نخبةٍ ذوّاقة للزجل وللكلمة مِن مختلف الشرائح والأعمار، وفي نهاية الحفل قدّمت إدارة جوقة الكروان شهاداتِ تقديرٍ لكلٍّ من الزجّال د. سامر خوري، ود. منير توما، ود. بطرس دلة، وأمين القاسم رئيس منتدى البادية عسفيا، والشاعر زهير دعيم، كما تقدّمت جوقة الكروان بشكر خاصّ للحضور، ولمجلس البايس للثقافة والفنون، ولمجلس كوكب أبو الهيجاء الذي يرعى "مهرجان يلاّ نغنّي سوا" هذا العام.

تولّى عرافة الأمسية الشاعر والأديب زهير دعيم فابتدأها: إنّه مساءُ ألقٍ مُضمّخ بشذا المَجد التليد، تتعانق فيه بشِممِ ربّة الشعر والأدب والزجل مع ربّة الموسيقا والفنّ الأصيل، تحت سقفٍ كانَ وما زال للفنّ صَرحًا، يزرعُ في النفوس نمنماتِ الموسيقا وهمساتِها، ويُرتّلُ على شرفة الأزل أنغامَ الحياة، فمِن هنا من عبلين؛ هذه العروس الغافية على خدّ الجليل، أفرَخَ الأدبُ واكتسى ريشًا وحلّقَ قبلَ عشراتِ السنين، ومِن هنا ومِن تحت سقف جمعيّة جوقة الكروان رقصت ربّة الموسيقا، وانتشتْ طربًا وغنجًا ودلالا، كَم هو جميلٌ حقّا أن تجتمعَ في هذه الليلة هذه الوجوه النيّرة، مع أعلامٍ طارَ صيتها في دنيا الشعر والنقد والأدب والزجل، فغرّدت الشرقَ ألحانًا عِذابا، فعبلين بنخبة مُثقفيها تزفّ إليكم يا معشرَ أهل الفنون الجميلةِ إضمامةً ولا أعطر، من رياحين التقدير وزنابق المحبة، سائلين الربّ المُحِبّ أن يجعلَ أمسيتنا دافئة هامسة، تُشبعُ الحواسّ وتُغذي الأرواحَ الهائمة، دعونا إذن نخشع في دنيا الديباجة المخمليّة، وننتشي من خمرة الزجل وعطر النقد وهمسات الشعر الحالم، دعونا ننسَ كلّ شيء ونعِشْ اللحظات الجميلة، بل السويعات العابقة، نشتمّ من ورود الفنّ أعطرَ الأريج. دعونا نُشنّف الآذانَ بِرَدّاتِ الزجل والمْعَنّى، فتُحلّقُ أرواحُنا إلى دنيا الأحلام والعشق السرمديّ.
وأخيرًا، لا يسعنا إلاّ أن نشكرَ باسمِنا جميعًا وزارة الثقافة والرياضة، دائرة الثقافة العربيّة الناصرة، ومركز تراث البادية عسفيا الكرمل، ونقول شكرًا من الصميم، وكلّ عام وأهلنا بألف خير بمناسبة عيد الاضحى المبارك.

نعم؛ جميلٌ أن يجتمعَ طبّ الأسنان والشعر والزجل في بوتقة واحدة، تنثر المعنى والمواويل زهورًا ورياحين، فها هو الطبيب العيلبوني سامر خوري يُشنّف آذاننا بباقات من أشعاره الزجليّة، برفقة كوكبةٍ مِن أعضاءِ جوقةِ الكروان وعازفيها.

وأمضى الحضور جولة أولى مع الزجل المغنى، ثم تابع العريف زهير دعيم قائلا:

النقدُ الأدبي هو تفسير الأعمال الأدبيّة، وهو محاولة منضبطة يشترك فيها ذوق الناقد وفِكَرُه للكشف عن مواطن الجَمال والقبح في الأعمال الأدبيّة، ولعلّ أهمّ النقّاد العرب في العصر الحديث هم العقاد، محمد مندور، مارون عبّود، حسين مروة، رئيف خوري، وللأسف، فقد انقطع سيلُ هذا المطر الخيّر، وإن حدَث ووجدناه، فإنّهُ بمُجملِهِ إطراءٌ ومديحٌ، ورغمَ ذلك، فلدينا في هذه البقعة المقدّسة مِن الكوْن ناقدٌ رائع الأستاذ د. بطر دلّة، الذي يمور شبابًا وحيويّة، والذي أثرى الأدب العربي في هذه البلاد بنقده، ووضعَ الإصبعَ على الجماليّات وعلى نقاط الضعف في كثير من الأعمال الأدبيّة. حقّا لد. دلة بطرس بصماتٌ لا ولن تُمحى، وستظلُّ ماثلةً للعيان ما دام الأدب بكلّ أشكالِهِ يتنفّس.

وفي مداخلة د. بطرس دلة جاء: أيّها الأحبّة، أسعدَ الله مساءَكم بكلّ خير، وأهلاً وسهلاً بكم في هذا اللقاء المميّز، مع واحدٍ من فرسان الزجل المَحلّيّ، له مكانة محترمة بين الزجّالين، حيث كان يصول ويجول في ميادين الزجل، والتحدي حول مختلف المواضيع، بحيث أثبتَ للقاصي والداني أنّه زجّال وشاعر شعبيّ لا يُشقُّ له غبار، هو دكتور أسنان، فكيف يجمع بين الاثنين؟

أول ما ظهر الزجل كان ذلك في الأندلس، حيث ظهر الشاعر الزجّال ابنُ قزمان، الذي نقل عنه شعراء الشرق الشعبيّين، وهناك آراء أخرى تقول إنّ أصلَ الزجل يعودُ إلى العصر الجاهليّ، وأشهر الزجّالين الشاعرة الخنساء، ويدّعي صفيّ الدين الحلي أنّ أهلَ المغرب هم مَن أوجدوا الزجل، ثمّ انتقلَ إلى العراق وباقي الدول العربيّة في الشرق.

للزجل أكثر من عشرين بحرًا، ثمانية منها أوجدَها الخليل بن أحمد الفراهيدي، الذي أوجد ستة عشر بحرًا بصعوبةٍ ومَشقة، ومعروفة قصّته مع ابنِهِ الذي دخلَ عليه وهو في تلك الحالة الغريبة، التي لم يسبق بها مثيل ولم يرها مِن قبل، فتعجّبَ الولد ولم يكلّم أباه، لكنّه خرج إلى الناس وقال لهم: إن أبي قد جُنّ، فدخل الناس على الأب وأخبروه بما قال ابنه فقال له:

لو كنتَ تعلمُ ما أقولُ عذرْتَني/ أو كنتَ تعلمُ ما تقولُ عذلتُكا/ لكن جهلتَ مقالتي فعذلْتَني/ وعلمتُ أنّكَ جاهلٌ فعذرْتُكا.

مِن هنا أخذ الزجّالون يُطوّرون أذواقهم وأدواتِهم ليأتوا بالجديد، ويُقال بأنّ الزجلَ يأتي من عدّة أبواب هي:

البسيط: مستفعلن فاعلن/ 4 مرّات تكرار الأصل. الهزج: مفاعيلن/ 6 مرات تكرار الأصل.
الوافر: مفاعلتن/ 6 مرّات تكرار الأصل. الكامل: متفاعلن/ 6 مرّات تكرار الأصل.
الرمل: فاعلاتن/ 6 مرّات تكرار الأصل. الرجز: مستفعلن/ 6 مرّات تكرار الأصل.
المتقارب: فعولن/ 8 مرات تكرار الأصل. المحدث: فعلن أو فاعلن/ 8 مرّات تكرار الأصل.
وطبعًا في الزجل أكثر من عشرين بحرًا، يستطيع كلّ زجال أن يأتينا ببحرٍ جديدٍ في تحويرٍ بسيطٍ لبحرٍ قائم، وأصعبُ البحور هو القلاّب أو المقلوب، ومن تسميته المخمّس المردود مثل أغنية فيروز البوابة:
باب البوّابة ببابيْن/ قْفولِ ومْفاتيح جْداد/عَالبوّابة في عَبدَيْن/ الليل وعنتر بن شداد/
حلوة وشْباطَيْنْ ودار/ العاشق غطّ العاشق طار/ نغمِة ونار وعوّادَيْن/ عوّادَيْن ونغمِة ونار/ ونارَيْن ونغمِة وعوّاد/ يا حلوِة اللي ريفِكْ رَفّ/ بتمشي وخَلفِكْ ماشي الصفّ/ دفّ وكفّ وردّادين/ ردّادين ودفّ وكفّ/ وكفّيْن ودفّ وردّاد/ صحرا وقافلتيْن وخيل/ العتمِة ميْل النجمِة ميْل/
فحم وليْل وحدّاديْن/ حدّادين وفحم وليل/ وليليْن وفحم وحدّاد/ موطور ما لو صفير/
وْمَسِّيكُنْ يا أهل الخير/ شفتو طيْر وصيّاديْن/ صيّاديْن وشفتو طير/ وطيْرَيْن وشفتو صيّاد.

الزجل يعني الصوت والتطريب، أطلقه الأندلسيّون على شِعرهم العامّيّ في القرن الثاني عشر الميلادي، على يد ابن قزمان وجماعته، وانتشرَ في الأقطار العربية في المشرق في الشامّ ولبنان، وفي القرن العشرين سمّاه اللبنانيّون الزجل، بعدما كان يُعرف بالقوْل أو المْعَنّى، ويُسمّى الشاعر بالقوّال، وفي فلسطين يُدعى الحدّا والحادي.

في لبنان تأثّر الزجل بالألحان السريانيّة وغلبت عليه هذه اللهجة، وقد عرّفَ جبران خليل جبران الزجل بقوله: "إنّه باقةٌ من الرياحين قربَ رابيةٍ من الحطب، أو إنّه سربٌ من الراقصات المُترنّمات قبالة مجموعة من الجثث"!

يُضاف إلى أنواع الزجل في فلسطين "المحورية" أي الدعوة إلى الحرب مثل:

ما نْطيع اللي يِجينا بالعنادِ/ ما تْعَوّدْنا على بوس الأيادي. أو- حِنّا رجال الحرب ورعدها. أو
خَلّوا الرئاسة للرئيس/ والنّاس تلزمْ حدِّها.

لذلك في الشروقي يتحدّث الزجّال عن قصّة أو حادثة بقصد التوعية، ويتضمّن الحِكَم والأمثال:
يا قاصدين الوطن والدار والدوار/ بالله عليكم مَيْلو لديرتي والدار/ وقولوا لإمّي بْإنّا للوطن راجعين/ نِحمي حِمى الأرض، نِشلح ثْيابِ العار/ وقولوا لإمّي بْإنّا للوطن راجعين/ نكتب تاريخ العروبة بالشرف والدِّين/ للأرض للبيت للينبوع لَلعِين/ بالدم نِفدي الوطن كبارنا وصغاري.
وهناك في الزفات والأعراس يُقال زجل فيه حماسة ووطنيّة مثل: نادى المنادي بالميدان/ والفرسان تجمّعوا/ ياحلالي يا مالي.

وهناك العتابا ومعناها العتب من الحبيب، والقصّة تقول إنّ فلاّحًا كان يُقيم في جبل الأكراد، وكانت له امرأة جميلة اسمُها "عَتابا"، رآها إقطاعيّ المنطقة فأحبّها وانتزعَها مِن زوجها، ولمّا لم يكن الفلاّح يستطيع استردادَها منه، أو كتمانَ غيظه أو نسيانها، هجرَ قريته وما زال ينتقل من مكان إلى آخر، حتّى استقرّ به المطافُ في عكّار في شماليّ لبنان، وفي غمرةِ ألمِهِ غنّى:
عتابا بين بَرمي وبين لَفتي/ عتابا ليش لغيري ولَفْتِي/ أنا ما روح للقاضي ولا أفتي/ عتابا بالثلاث مطلّقا.

وفي الغزل قالَ الشاعر جورج هبر في مارلين مونرو:

تبسيمتك رجفة على شْفاف الهوا/ والعين عِلِّةْ حُب والغمزِة دوا/ والبدِر جارِك والغزالة جارتو/ وِتْنينْهم عَ الخدّ بِيْطُلّو سوا.

أمّا عن قصة عميد الأدب العربي طه حسين مع الزجالين في لبنان، فقد سمع كثيرًا عنهم، وأُعجِبَ بفِطنتِهم وقُدرتِهم الارتجاليّة، وفي الردّ على بعضهم البعض شعرًا، فما أن زار لبنان، حتى دخل أحدَ القاعات المشهورة بإحياء هذه الحفلات، وعندما رآه أحدُ الحاضرين رحّب به قائلا: (أهلا وسهلا بطه حْسَيْن)، فسمعَ أحدُ الزجّالين وابتدر الزجل قائلاً: أهلا وسهلا بطه حْسَيْن/ ربّي أعطاني عينيْن/ العين الواحدة بتكفيني/ خُدْ لَك عيْن وخَلّي عيْن.

فتنحنح الشاعر علي الحاج وانطلقّ مُنشِدًا: أهلا وسهلا بطه حْسَيْن/ بْيِلزَمْ لَكْ عينيْن اتنيْن/ تِكرَمْ شحرور الوادي/ مِنُّه عيْن وْمِنّي عيْن.

ثمّ جاء دوْر الشاعر أنيس روحانا، فأطلق عقيرته مُنشِدًا:لا تِقبلْ يا طه حْسَيْن/ مِن كلّ واحد تأخذ عيْن/ بْقَدِّمْ لَك جوز عيوني/ هْدِيّة لا قِرضَة ولا دَيْن.
فقال الشاعر طانيوس عبده، مُستدرِكًا ومُصحِّحًا زملاءَه وناصحًا إيّاهم: ما بْيِلزَملو طه حْسَيْن عيْن/ وْلا أكثر مِن عيْن/ الله اخْتصُّه بعيْنِ العَقل/ بْيِقشَع فيها عَ المَيْليْن.

أيّها الأحبّة، الفرح إيقاعُ الوَجْد ولغة الطبيعة، ومُطلق الحياة الإنسانيّة في اتّجاهِها الأبديّ الصامت نحو الكمال، وأنتَ أيّها الزجّال الصديق د. سامر خوري العيلبوني، تُفرحُنا بأزجالِك الرقيقة وخفّة ظِلّك في كلّ ما تقول، لذلك أقول:

تعالَ نضمّ الحنين ونشرب معًا نخبَ الفنّ الأصيل/ عندها يغفو هذا الفنّ على صدر الياسمين/ فأنتَ تعرف أن صغير النبات تصرعه الريح، ولا يصمد إلاّ السنديان، لذا أرجو أن تُحلّق في عالم الفنّ وعالم القصيد، بالنغمة الرقيقة وحنين أوتار صوتِك الرائع.

اللّهُمَّ ارزقنا فهْمًا نعرف به الحق، وارزقنا عزمًا نتقبّل به الحق، ولصديقنا زهير دعيم أقول زجلاً: جاي من عبلين زهير/ وعندو همّة قويّة/ مِن الصبح بدري بيفيق/ يقول الردّة اللّي هيّي/ يتحدّى كل الشعّار/ لمّا ينزلْ عَ الساحة/ لو كانوا أكبر شُعّار/ يا شو عندو فصاحة/ بْصَوْتُه رنِّة وعندو طنّة لمّا يصيح/ كلّ كلماته فَتَاحة/ شال العِزّ عَ عُنقُه قلادِة/ بِيلِفّ وإيدُه لوّاحة/ بيِعِزّ الضّيف بإيدو سيف/ لِرْقاب العِدا طوّاحة.

وللحضور الأحبّة أقول:

مِن جنّة الورود الغنيّة بالزجل/ جايي ومعي باقة شعر فنّ وغزل/ لمّا دعاني واجبي وفتّحْ أمل/ مِن قلبي زال الهمّ وانزاح الخجلْ/ أهلا وسهلا بْقولْها لْكِلّ مَن حَضَر/ تا تُكْرُجِ الكِلمات مِتِل كرْج الحجلْ/ بَحِبّ الشعر والفلّ يفتّح عَ الهَدى/ ويغطّ النُوّار عَ هاك المدى/ بْحيّي الحْضور والمواهب بالديار/ طوِّلْ يا ليْل تْأخّرْ يا نْهار/ تَنقْطُف بالسهرة شي غمزِةْ أشعار/ وِنْلِمّ سحر عيون مِليانِة أسرار/ نِسْكَرْ عَ خمرَة مْعَتّقَة ونُقطفْ أزرار/ وْيا ليل خِدني عَ جْناحَكْ شي مِشوار/ لَمْطارِحِ بْعيدة بْفِكري راسخة/ أُسْرُدْ حكايا يا حُبّ وانْسِجْ للأخبار/ حكايا كانت للولدنِة ولُعبة صْغار/ وعروس حِلوة مْقَطّنة زي جُلنار/ ألِّفِ الدّني وشي زنبقة تبقى معي/ وَأقدِّمْ هدايا للصغار ولَلِكْبار/ ونقول مرحبتيْن فيكو ويا هلا/ شرّفتوا لمّا حضرتوا عَ هذي الدّْيار

وقدّم د. منير توما مداخلة بعنوان أضواء على فن الزجل جاء فيها:

يُعتبر الزجل أو الشعر الشعبيّ وليدَ الشعريّة واللغة العامية في آن واحد، ويعتقد بعض الباحثين أنّ فنّ الزجل يعود إلى العصر الجاهليّ، ويُقال بأنّ عنترة العبسي قد تعاطى الزجل ونظَمَه، ومِن الأمور الموثوقة أن العربَ في الأندلس نظَموا هذا النوع من الشعر، ولهم الكثير منه، ومِن اشهر زجّاليهم ابنُ قزمان، ومعنى كلمة زجل التصويت من الصوت أو التطريب.

يمتاز الشعب اللبناني في نظم وقوْل هذا اللون من الشعر الشعبيّ، وقد تطوّر هذا النوع من الشعر بفعل تأثير الألحان والصلواتِ السريانيّة، وهذا ما يجعلنا نرى أنّ أكثر شعراء الزجل اليوم هم من الموارنة اللبنانيّين، ويُرجّح أنّ جَمال الطبيعة في لبنان وذكاء اللبناني الفطري وحُبه للفن وللحياة، هي من العوامل التي ساهمت في إبداع اللبنانيين في الزجل، وقد اعتبر مارون عبّود أن المطران جبرائيل القلاعي اللحفدي (1440 – 1516م) هو القوّال الأوّل، ومِن المؤكّد أنّ الزجل اللبنانيّ عميقُ الجذور في تاريخ لبنان، ويعود إلى أكثر من ستمئة سنة، لكنّه لم يكن قبل القرن التاسع عشر ذا مكانة بين اللبنانيّين، لأنّ الناظمين فيه كانوا من رجال الإكليروس الذين تكلّفوا فيه تكَلّفًا بعيدًا عن الذوق العامّ، لِما فيه مِن فنّ البديع والزخرف اللفظيّ والأوزان المضطربة، والقوافي غير المنسجمة والركاكة في الأسلوب والتقليد الأعمى، وفي القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين كثُر شعراء الزجل، وارتقى بمعانيهِ واوزانِه وقوافيه، وأمّا في القرن العشرين وخاصّة في النصف الثاني منه، وبعد انتشار المدارس وتطوّر المجتمع الثقافيّ والإعلاميّ، فقد اتّسم الزجل بالرقيّ من جميع النواحي.
إنّ الوزن ووحدة القافية قائمان في الزجل كما في الشعر الفصحوي تمامًا، وأنواع الزجل قائمة على بحور معيّنة تشبه بحور الخليل، وهي أقربُ إلى النفوس الشعبيّة من االشعر الفصحويّ، لأنّ اللغة العامّيّة أقربُ من اللغة الفصحى إلى هؤلاء، فالعاطفة في الزجل أكثر صِدقًا وعفويّة ودفقًا وحرارة من الشعر الفصحويّ، لأنّ اللغة العامّيّة هي لغة الحياة ولغة العاطفة والعفويّة، أمّا الفصحى فأقرب أن تكون لغة العقل والفلسفة والعلوم التي تنعدم فيها العواطف إلى حدّ كبير، وكما قيل إنّ الشعر ديوان العرب، فإنّ الزجل هو ديوان اللبنانيّين، لأنّه يعكس حياتهم بصدق بكل مافيها من تقاليد وعادات وأمثال وأخبار، كما أنّه صورة عن الطبيعة اللبنانيّة والمجتمع اللبنانيّ، لأنّ الشاعرَ يُظهر إبداعَهُ سواءً أنَظم شعرًا فصيحًا أم شعرًا شعبيّا، ومن الذين نظموا وأبدعوا بالفصحى والعاميّة رشيد نخلة، وسعيد عقل، وعاصي ومنصور الرحباني، فإذا تأمّلنا البيتيْن التالييْن، نجد أنّ وصفَ النهد بالزغلول موجودٌ في الشعر الفصيح، لكنّ الشعرَ الشعبيّ زادَهُ جَمالاً حين جاء بصورة السرقة والنهب والموت والإشفاق وتمزيق القميص، كما هو وارد أدناه:

يا سارقة يا ناهبة وِمْنين/ زغاليل جوز بداخل عْبابِك
رح يفطسوا فكِّيلهُن زِرّين/ مناقيرهن بتْخّزِّقِ ثيابِك

ولنسمع إلى هذيْن البيتيْن اللذيْن قالهما أحد الشعراء، عندما طلّ عليه القمر وهو مع حبيبته:
بدر السما لِمّنْ هَلّ/ قِلنا عقْلاتو جنّوا/ كيف لو عين عليْنا يْطِلّ/ وفي عنّا أحلى منّو/
والزجل مفعم بالكنايات المستجدّة والاستعارات المستملحة، والتعابير الرشيقة المستنبطة كالذي نجده في العتابا، الميجانا، الموشح، المعنّى، القرّادي، الشروقي، البغدادي، الروزانا، أبو الزلف، ويشتهر الزجل بالظرف والنكتة البارعة والطرافة المُحبّبة إلى النفوس كقول الشاعر جورج نجيب خليل في قوله:

جسمِكْ شاعِلْ متل النار/ وخِلقانة تحفة عصرِك/ وكيف بيقدِرْ هالزنّار، يْطوّلْ بالو عَ خصرِك

العتابا: كلمة مأخوذة من العتاب، وهذه مشتقّة من العتب الذي هو الموجِدَة، وتبدأ العتابا عادة بكلمة أوف، وأصلها اسم الفعل أف ومعناه أتضجّر وأتكره، أو بكلمة آخ وهي اسم صوت الوجع، ومن أمثلة العتابا هذان البيتان لأنطون السرعلي:

قلبي ما نِسي مرّة مَعادو/ وغابوا حْبابنا وإِلنا ما عادوا/
كانوا بْحِبنا يدوبوا ما عادوا/ عنّا يسألوا بكلمة عتاب

الميجنا: نوع من أنواع العتابا، وسمّيت كذلك اعتمادًا على عدّة تفسيرات أهمّها، أنّها منحوتة من عبارة "يا ما جنى"؛ أي ما أكثر ما ظلم، وكذلك يمكن أن تكون مأخوذة من عبارة "يا ماجنة"، أي أيتها العابثة المستهترة المُحبّة للمزاح والدعابة، وقد تعود إلى أصل سريانيّ آراميّ، من الفعل مَيْجَن يعني طرُبَ وتغنّى.

وتتألّف الميجنا من مطلع ودَوْر، أمّا المطلع أو اللازمة فبيتٌ من الشعر يُردّد بعد كل بيت من الميجنا، ويكون مؤلفًا من شطريْن، الشطر الأوّل هو التالي "يا ميجنا يا ميجنا يا ميجنا"، والشطر الثاني على وزن الشطر الأوّل، أي على وزن مُسْتَفْعِلُنْ مُسْتَفْعِلُنْ مُسْتَفْعِلُنْ (بحر الرجز)، ويكون منتهيًا بـ "نا"، وها مثال من موسى زغيب: يا ميجنا ويا ميجنا ويا ميجنا/ غمزة عيونِكْ علّمتني الشيطنا/
ومن أمثلة الميجنا ما قاله إدوار حرب: يا ميجنا ويا ميجنا ويا ميجنا/ يحيا الزمان اللّي جمَعنا ولمّنا/ يا بنت عشر سنين شعرك جَدِّلي/ واحكي المزح للغير خلّي الجَدّ لي/ لو تِعلَمي بغْيابكُن شو جَدِّ لي/ مجنون ليلى ما تعذّب قدِّنا.

الموشّح وهو ضرب من الشعر، يُنظم على تقاطيع وحروف وقوافٍ معلومة، بحيث لا يتقيّد الناظم بقافية واحدة بل بقافيتيْن، في المطلع والأدوار، أمّا قافية الدوْر الأخيرة فتعود إلى قافية المطلع، والتسمية أندلسيّة، لأنّه يُشبّه وشاح الحسناء بأشكاله وألوانه، ومن نماذج الموشّح ما قاله موسى زغيب: فْراقِكْ جمرة يا سمرة/ وقلبي معتاد/ يطوِّلْ بالو عالجمرة/ تا تصير رْماد/ كلّ ما عيونِكْ لعيوني/ ضحكو مْنِ بْعيدْ/ بيِرْجَعْ يْزهِّرْ عا غْصوني/ الوردِ مْنِ جْديدْ

المْعَنّى: المْعَنّى ومُشتقّاته هو ما من اختراع السريان سكّان لبنان الأقدمين، فيقول د. أنيس فريحة إنّ لفظة مْعَنّى هي اسم مفعول من السرياني عنّى، فيكون معناها "المْعَنّى" للإنشاد والتنغيم، ويقول المؤرّخ اسكندر المعلوف: "إنّ كلمة مْعَنّى مأخوذة من اللفظة السريانيّة معنية" أي أغنية، وللمْعَنّى أنواع عديدة منها العادي، والقصيد، والموشّح، والمجنّس، ومن نماذج المْعَنّى العادي للأخويْن رحباني: في لِنا يا حُبّ خيمِة عالجبل/ ناطرة تانزورْها بليْلِة غزلْ/ راكعة الغيمات عند حدودها/ وتاركِة النجمات عاسَطْحا قُبَلْ.

القرّادي: من القَرَد أي لجلجة اللسان، وهي تأتي على الوزن الخفيف بحيث يتلجلج عند غنائها لسرعة وزنها، ومن أهمّ أنواعها القرّادي العادي مثل الآتي لخليل روكز: ضيْعِتْنا يا إخواني/ مْنِ بْدايتها خِلْقاني/ إمّ العزّ وإمّ الخير/ وإمّ المجد اللبناني

الشروقي: الشروقي أو القصيد البدوي، نوع من القصيد تكون صدوره من قافية وأعجازه من قافية أخرى، ويتألّف كلّ بيت فيه من ستة وعشرين مقطعًا (أو وحدة صوتيّة)، في كلّ شطر ثلاثة عشر مقطعًا، ولا يُعرف سبب تسميته بهذا الاسم، إلاّ ما قيل إنّ عاشقًا هجره أحبابُه واتّجهوا شرقًا، فراح يُودّعهم بهذا النوع من الشعر، ومنذ ذلك الحين انتشر هذا اللحن وسُمّي الشروقي، وكلمة شروقي لغة تعني صاحب العينينيْن الدامعتيْن، لحنه حزين ويرافق بالترنح وامتداد الصوت. نموذجٌ منه لموسى زغيب: يلّي خيالك حِلِمْ مِنْ خاطري مسلوخ/ بِبحر حُبِّكْ كِنِتْ خايِفْ مِنِ وْقوعي/ في ألفْ نَسْخِةْ غزل بِدْفاتري منسوخ/ وْعِندِكْ نْهيتْ المِضي وخْتَمتْ موضوعي

البغدادي: نوع من الزجل يتألّف موّاله من سبعة أشطر، ويتألف كلّ شطر من أربعة عشر مقطعًا أو وحدة صوتيّة، وفيه ينتهي صدر وعجز البيت الأوّل وعجز الشطر الأخير بالجناس؛ (أي بكلمات متشابهة لفظا ومختلفة في المعنى)، كذلك بالنسبة إلى قوافي الأشطر الثلاثة الباقية، ولكن بجناس جديد. وما يلي نموذج منه لعبد الجليل وهبة:

يا مْفارِقِ الحيّ مالو مِنْحِني عودَكْ/ مِنْ كِتِر نوحَكْ خنقْ صوْتِ الوتر عودَكْ/ يا رَيْت يِسمحْ زماني وبالدّوا عودَك/ يا ما بكيت ولنوحك ما كنتِ بالي/ حتى غرامَكْ حَكَمْ قلبي وشَغَلْ بالي/ ويا ريت تِعلم قبِل ما تشوفني بالي/ إنّي حبيبَكْ متِلْ قِشْرَكْ على عودَكْ

عالروزانا: هناك عدّة روايات حول أصل هذه الأغنية الشعبيّة، نذكر منها أنّ "الروزانا" اسم لإحدى البواخر الإيطاليّة التجاريّة التي غرقت وهي في طريقها إلى بيروت، ممّا ادّى إلى خسارة أحدهم خسارة جسيمة فغنى الناس: عالروزنا عالروزنا/ كلّ البلا فيها/ شو عِملت الروزنا/ الله يجازيها.
وهناك رواية أخرى، أنّه كانت فتاة عراقية في مدينة الموصل تتبادل أحاديث الحُبّ مع أحد أقاربها، عن طريق كوّة في جدار بيتها، وهذه الكوّة يُسمّيها أهل الموصل "روزنة"، ولمّا علمت أمها بالأمر أغلقتها وقالت: عَ الروزنا عَ الروزنا/ كلّ البلى بيها/ فسمعت الفتاة كلام أمّها وردّت على الفور: شو عملت الروزنا/ حتى تسِدّيها
ومن النماذج على هذه الأغنية: عَ الروزنا عَ الروزنا/ كلّ الحلا فيها/ شو عملت الروزنا/ حتى نجافيها.

أبو الزلف: في معجم الصحاح: الذَّلَف هو صغر الانف واستواء الأرنبة، فنقول رجل أذلف وامرأة ذلفاء، ويتّضح أنّ الذّلف في أرنبة الأنف يعطيه ملاحة وجَمالا، وأنّ الذلفاء وأمّ الذلف هي الحسناء الجميلة، وأنّ أبو الذَّلف هو الشابّ الوسيم، وكلمة الزلف بالزاي لأنّ الذال تُنطق زايًا في لغتنا العامّيّة، ومنها أغانينا. يتألّف أبو الزلف من مطلع ودَوْر، أمّا المطلع فيتألّف من بيتيْن الأوّل منهما هو: هيهات يابو الزلف/ عيني يا موليّا، والثاني ذو شطريْن، قافية الشطر الأوّل حُرّة وقافية الشطر الثاني تنتهي بياء مشدّدة بعدها ألف، ويكون على وزن البيت الأوّل نحو: ماحْلى ليالي السهر/ مع بعضنا سْوِيّا.
ولفظة موليّا هي تحريف للفظة الفصيحة مولاي وتعني سيّدي، إنّ المَطلع هيهات يابو الزلف عيني يا موليّا، يعني؛ بَعُدَ صاحب الجَمال والملاحة وأنتَ عيني يا مولاي.

إنّ المَواليا وهو نوع من النظم الغنائيّ يُنسب إلى موالي البرامكة في أيّام بني العبّاس، وكانوا يقولون في كلّ دَوْر منه يا مواليا، إشارة إلى سادتهم البرامكة، وهي أغنية قيلت في مذكّر، ومن نماذج هذه الأغنية: هيهات يابو الزلف/ سمرا يا عينيّ/ أحلى كلام اسمعوا/ فاضت الحنّيّة.

وهناك أيضًا الندب من أنواع الزجل، والزغرودة، سكابا، عَ اليادي، هلا لالاليا، ويا غزيّل، والمخمّس، والمربّع، والمثمّن، وختامًا فهناك عدد كبير جدًّا من شعراء الزجل في لبنان الذين اشتهروا في هذا الفنّ، نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر: أحمد السيّد، إدوار حرب، أديب حدّاد، أديب العطّار، أسعد الخوري الفغالي (شحرور الوادي)، أسعد سابا، إلياس خليل، أنيس روحانا، أوديت خوري، جريس البستاني، بطرس ديب، بولس سلامة، المطران جبرائيل القلاعي، جورج خليل، حنا موسى، خليل روكز، زين شعيب (أبو علي)، جوزيف الهاشم (زغلول الدامور)، موسى زغيب، خليل شحرور، طليع حمدان، حسّون الأخضر، منصور الرحباني، ميشيل طراد، السيد محمّد مصطفى، وغيرهم الكثير.

ومن سوريا: سمير هلال، شفيق ديب، فراس زودة، وفؤاد حيدر.
ومن الأردن: حسن عبد الفتاح ناجي، رزق الله المناع، سليمان عويس، سليم خليل النمري، موسى نزال الأزرعي، يعقوب نصر عازر، نايف أبو عبيد، الدوقرني، روضة أبو الشعر، عادل مصطفى الروسان، عيسى عباسي.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى