الثلاثاء ٣٠ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠١٢
بقلم فيصل سليم التلاوي

البيت الشعري في قصيدة الشعر الحر

لم تكن مصادفة أن يسمي العرب كل سطر من قصائدهم بيتا، ولم يسموها لبنة أو صفاً أو عمودا أو جدارا، بل عدّوا كل سطر بيتا كاملا.

والبيت في لغة العرب بناء مكتمل بعماد وأوتاد و ساكنين، مثلما عبر عن ذلك شاعرهم الجاهلي الأفوه الأودي بقوله:

والبيت لا يُبتنى إلا له عمـــــــــــدٌ
و لا عمــــــــــــاد إذا لم تُرسَ أوتادُ
فإن تجمع أوتادٌ و أعمــــــــــــــــدةٌ
و ساكنٌ بلغوا الأمر الذي كادوا

و البيت عندهم لا يستند في وقوفه على غيره، بل هو كيان مستقل بذاته، وقد يقوم هنا اليوم, وينتصب غدا في مكان آخر. سيّان في ذلك أن يكون هذا البيت من الشَعَرِ أو من الشِعْرِ.

وهكذا كانت وحدة البيت هي الأساس الذي قامت عليه القصيدة العربية، منذ نشأتها وإلى عصرنا الحاضر، حتى لو تحدثت عن موضوع واحد. فكل بيت يقوم بدوره منفردا مستقلا ضمن هذا الخطاب الجماعي، ويمكنك أن تقدم البيت أو تؤخره، أو يسقط منك سهواً، ولا يختل بناء القصيدة أو يتضعضع إلا فيما ندر.

من أين جاءت وحدة البيت:

يزعم معظم الدارسين أن وحدة البيت وتفكك بنيان القصيدة، وعدم ترابطها عضويا، إنما هو ناجم عن أن الشعر قد ابتدعته الشعوب في مرحلة طفولتها الفكرية، وقبل مرحلة الكتابة والتدوين، وقبل أن تصل إلى مرحلة ترتيب الأفكار وتسلسلها، من مقدمات إلى عروض فنتائج، وحتى يسهل حفظ القصيدة وروايتها،

و لو سقطت بعض أبياتها.

لكن هذه الحجة تبدو واهية، عندما ترى العرب وقد تطوروا علميا وثقافيا، واستوعبوا علوم الفلسفة والمنطق، وبلغوا أرفع مراتب البيان، وعمق الفكر وتسلسله المنطقي في تآليفهم في العصر العباسي، وما تلاه من عصور إلى يومنا الحاضر، لكن شعرهم ظل معتمدا على وحدة البيت، وقدرته على أن يحل حيثما يراد له أولا أو وسطا آخرا

وأغلب ظني أن قيد القافية الواحدة هو المسؤول عن هذا التناثر والبعثرة في أبيات القصيدة الواحدة، فبينما يلتفت الشاعر بعينه اليمنى باحثا عن الكلمة المناسبة، لتكون اللبنة الأولى في بيته الشعري، فإن عينه اليسرى لا تغفل البحث عن قافية مناسبة، تكون اللبنة الأخيرة للبيت، وقبل أن يكتمل البيت الشعري بشطريه، وقد يكون بعض اكتماله تحصيل حاصل، وخدمة للقافية التي خطرت بالبال قبل اكتماله. بل وأزعم أنها في كثير من الأحيان قد أعدت قبله، وأن الشاعر بعد أن يكمل بيته الأول، ويستقر على قافية محددة، يغوص منقبا في ثنايا ذاكرته، و ربما أبعد من ذلك باحثا في دواوين الشعر والمعاجم اللغوية، بحثا وراء الكلمات التي تصلح قوافي لإتمام قصيدته، فيعمد إلى تدوينها على هيئة عمود من الكلمات، يختار منها قوافي لأبياته، فتأتي معانيه خادمة للقوافي.

إن هذا البحث المضني في تصيد القوافي، يترك الشاعر واقفا يلتقط أنفاسه كلما فرغ من قافية، ليعاود رحلته من جديد في اختيار لبنة أولى لبيته الثاني، بينما عينه على اللبنة الأخيرة.

إن توالي هذا التوقف وانقطاع النَفَسِ عند نهاية كل بيت، وكأنه إنجاز مستقل، يورث الشاعر قصر النفس، ولعله السبب الرئيس في كون قصائدنا تعتمد على وحدة البيت، وتفكك أوصال القصيدة، حتى عند شاعر ملهم كالجواهري، غزير القوافي مطواعها، لاتجد عنده قافية قلقة أو مرادفة لكلمة سبقتها، أو لُوي عنانها قسراً. إلا أن وحدة البيت هي السمة البارزة في شعره، مع أن كل قصيدة من قصائده تتناول موضوعا واحدا.

وربما كان خليل مطران وعمر أبو ريشة من شعراء مدرسة الإحياء استثناء من هذه القاعدة في بعض قصائدهما، أما السمة الغالبة فهي وحدة البيت.

إن تقطيع أوصال القصيدة إلى أبيات مستقلة في شكلها، ينجم عنه تقطيع أوصالها في مضمونها, فبدل أن تكون الصور الشعرية متلاحقة ومكتملة، تصبح منفصلة ومجتزأة، وبدل أن يكون الخيال الشعري كليا،ً يصبح خيالنا الشعري جزئيا، مقتصرا على الاستعارة والكناية والتشبيه البليغ، وإذا ندر وتطور فإنه لا يتجاوز البيتين من الشعر، كما في التشبيه التمثيلي و التشبيه الضمني.
وبدل أن تكون القصيدة ذات نفَسٍ واحد، وجوٍ واحد وخيال مجنح محلق، أو على الأقل بضعة أنفاس متلاحقة، يتمثل كل منها في بضعة أسطر، تتيح للشاعر أن يأخذ نفَسا عميقا متصلا، تظهر فيه براعته وقدرته على الغوص في أعماق اللغة، أو التحليق في آفاق الخيال، حيث يتفاوت الشعراء في عمق خيالهم، مثلما يتفاوت الغواصون في غوصهم بحثا وراء اللؤلؤ المكنون.

أن الدفقة الشعورية التي يمتزج في التعبير عنها اللفظ المناسب، بالعاطفة الجياشة، بالخيال الشعري، بالنغم الشجي. كل أولئك يجد أمامه كابحا ومعيقا في نهاية كل بيت شعري عند الارتطام بالقافية، والعودة لحرث ثلم جديد. بل إن الحرث أسهل من ذلك، فالحرّاث يعود بثلمه الجديد من حيث انتهى، فلا ينقطع عمله، أما الشاعر فلا يتاح له ذلك، بل إن عليه أن يسوق دابته أو آلته إلى بداية جديدة موازية للبيت السابق في كل مرة و كأنه يؤسس من جديد.

الميزة الرئيسة لقصيدة الشعر الحر:

ليس التحرر والاسترسال بدعة تهدف إلى تحطيم القديم المألوف، والخروج على قيوده، كما يعتقد بعض الدارسين، وليست عجزا من الشاعر عن إقامة ذلك البناء الرصين المحكم القوافي، والدليل على ذلك أن أغلب رواد الشعر الحر بدؤوا شعرهم بقصائد عمودية رصينة، كالسياب والبياتي والفيتوري ونزار قباني و محمود درويش

إن الميزة الرئيسة التي تسجَل لقصيدة الشعر الحر، تكمن في نزع هذا السيف المصلت على عنق الشاعر في نهاية كل سطر، وإعطائه المجال ليأخذ نفسا أعمق، وليغوص إلى أغوار أبعد، فيأتي بصور وأخيلة وتعابير متلاحقة تصف اللمحة الواحدة، قد تمتد سطرين أو خمسة أو عشرة، حتى يتنفس الشاعر الصعداء من تلقاء نفسه، ودون مؤثر خارجي يلزمه بالتوقف عند نهاية كل خطوة يخطوها. عند هذه النقطة تكون نهاية البيت الشعري في قصيدة الشعر الحر. قد تكون سطرا واحدا، وقد تتجاوز عشرة الأسطر.

عندما ينقطع نفَس الشاعر ويتوقف، عندها ينتهي البيت. وعندما يلتقط الشاعر أنفاسه ويبدأ بنفَس جديد، عندها يبدأ البيت التالي. ولنمثل على ذلك بقصيدة

(أنشودة المطر) للشاعر بدر شاكر السياب، فإنني أعتقد أن ستة الأسطر الأولى من هذه القصيدة تشكل في مجموعها بيتا شعريا واحدا، فعندما يقول:

عيناك غابتا نخيل ساعة الســـــــحر
أو شرفتان راح ينآى عنهما القمـر
عيناك حين تبسمان تورق الكروم
وترقص الأضواء كالأقمار في نهَر
يرجُّه المجداف وهناً ساعة السحر
كأنما تنبض في غوريهما النجــوم

بعد هذا الإبحار في ألق العيون، وما تتركه من أثر في نفس الشاعر، عبّر عنه بعدة صور متلاحقة، فإن الشاعر قد توقف من تلقاء نفسه ليلتقط أنفاسه، أو لأن الصور قد نضبت في مخيلته حول هذا المشهد، ثم نجده يستأنف بعد استراحة قصيرة رحلته في أغوار العيون بنَفَس جديد، وعلى مدى بضعة أسطر جديدة فيقول:

وتغرقان في ضباب من أسى شفيف
كالبحر سرّح اليدين فوقه المســــــــاء
دفء الشتاء فيه وارتعاشة الخريف
والموت والميلاد والظلام والضياء
فتستفيق ملء روحي رعشة البكاء
ونشوة وحشية تعانق الســـــــــــــــــــماء
كنشوة الطفل إذا خاف من المطر

هذا بيت جديد مكتمل، لا يمكنني أن أدمج فيه السطر الذي يليه، وهو قوله:

كأن أقواس السحاب تشرب الغيوم

فهو بعيد عنه. بل هو بداية لبيت جديد. فليس البيت في الشعر الحر سطرا، وإنما هو بضعة الأسطر التي تكوّن صورة أو صورا متلاحقة متلاحمة.

البيت الشعري في الموشحات الأندلسية:

وليست هذه التوسعة في تسمية البيت الشعري جديدة، فقد ابتدعها الأندلسيون عندما جددوا في موشحاتهم، وأطلقوا اسم البيت على مجموعة من الأسطر، تشمل الدور بأسماطه المتعددة، والقُفل بأغصانه، وسموا كل ذلك بيتا، كما يتوضح في هذا المقتطف من الموشح التالي لابن زُهر:

شاب مسك الليل كافور الصباح
ووشت بالروض أعراف الرياح (مطلع)
فاسقنيها قبل نور الفلقِ (سمط)
وغناء الوُرقِ بين الوَرَقِ (سمط)
دور بيت
كاحمرار الشمس عند الشفقِ (سمط)
نسج المزج عليها حين لاح
فلك اللهو وشمس الاصطباح (قُفل)
(غصن) (غصن)

فأنت ترى أن البيت في الموشح يتركب من كل مما سبق، وهي مجموعة من التنويعات الشكلية بمسميات متعددة، يجمعها جميعا اسم بيت من أبيات الموشح.

أما البيت في قصيدة الشعر الحر فيمثل وحدة موضوعية متكاملة، تنتهي بانتهاء الدفقة الشعرية المتلاحقة المترابطة، حتى انتهاء النفس الشعري الواحد، كأنها الفقرة في المقالة، وترابط الأبيات في القصيدة كترابط الفقرات في المقالة الواحدة .


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى