الأحد ١١ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠١٢

أكبرُ سِرْقَةٍ فِي تاريخِ كَوْكَبِ الأَرْضِ

نيكولا الصايغ

كلَّما تناولت وسائل الإعلام مواضيع السرقات الدوليَّة الكبرى، تتبادر إلى الأذهان قصص الأموال والأرصدة المسروقة من البنوك والمصارف، وحكايات الكنوز المنهوبة، والنفائس من المقتنيات الذهبيَّة والفضيَّة، واللوحات والقطع الفنيَّة التي رسمها كبار الفنَّانين، وربَّما يشطح الخيال نحو المجوهرات والأحجار الكريمة، أو القطع الأثريَّة النادرة.

سنتحدث هنا لأوَّل مرَّة عن سرقة كونيَّة كبرى لم تخطر على بال أحد، ولم تتناولها وسائل الإعلام قبل هذا التاريخ، ولم يكتب عنها باحث أو متخصِّص، ولم تحتفظ ذاكرة التاريخ بأيَّة أوراق تحقيقيَّة عن حيثيَّات الحادث وملابساته، على الرغم من حجم هذه السرقة وأهميَّتها العظمى، وعلى الرغم من النتائج السلبيَّة التي آلت إليها بعد بضعة أعوام من وقوعها حتَّى أنَّها تركت آثارها على الجهة التي تعرَّضت للسرقة، في الوقت الذي انتفع منها السارق، واستثمرها لحسابه حتَّى يومنا هذا.
كاظم فنجان الحمامي

نبدأ بسرد حكايتنا من اليوم الذي وصلت فيه سفن المغامر الإيطالي (كرستوفر كولومبس) إلى السواحل الأمريكيَّة، ورست على جزر الكاريبي في الثاني عشر من شهر أكتوبر/تشرين أوَّل من عام 1492. في تلك السنة، سقطت غرناطة، آخر قلاع ملوك الطوائف. وفي تلك السنة، انتهى حُكْمُ العرب في بلاد الأندلس.

بمعنى أنَّ كولومبس، انطلق من مرفأ (دلبة) أو (بالوس) في الوقت الذي كانت فيه السلطة العربيَّة لم تزل تبسط نفوذها على المواقع الحساسَّة من الأندلس، وأنَّها كانت قبل عشرة أعوام من تلك الرحلة بكامل قوَّتها، وكانت تدير بعض الموانئ والمرافئ الغربيَّة المُطلَّة على المحيط الأطلسي، وتفرض سيطرتها على حركة السفن القادمة والمغادرة. ومن المؤكَّد أنَّ الدولة العربيَّة في الأندلس، كانت تمثِّل بوَّابة النهضة الملاحيَّة. ففي الوقت الذي كانت فيه الموانئ الأوربيَّة تمرُّ بأتعس ظروفها، كانت مرافئ قرطبة أجمل بكثير من مرافئ لندن. وكان الملاَّحون العرب والبربر والأتراك أصحاب الريادة في الفنون الملاحيَّة والعلوم الفلكيَّة. ولو عدنا إلى الوراء، وعلى وجه التحديد إلى القرن العاشر الميلادي (الرابع الهجري) لاكتشفنا كيف اعتمد الخليفة عبد الرحمن الناصر لدين الله (عبد الرحمن الثالث) على مواهب (حسداي ابن شفروط) الذي كلَّفه بوضع الحجر الأساس للنهضة العلميَّة والملاحيَّة، وكيف استطاع هذا الرجل الذي يجيد اللغات (العربيَّة والعبريَّة والآراميَّة واليونانيَّة واللاتينيَّة) أن يجمع أساتذة الملاحة والجغرافية والفلك في كيان مينائيٍّ موحَّد. فسخَّر مواهبهم كلَّها في توسيع نطاق الرحلات البحريَّة، ورسمَ المسالك البعيدة وثبَّتها في خرائط ملَّونة، اشتملت على أدقِّ التفاصيل. وأشرف (حسداي) بنفسه على ميناء قرطبة حتَّى صارت قرطبة مركزًا كبيرًا قادرًا على استقطاب علماء الملاحة والفلك من كلِّ حدب وصوب. فاستفادت من مواهبهم الجغرافيَّة، ومن تجاربهم العمليَّة في عرض البحر، وكانت قرطبة الينبوعَ الذي استقت منه الموانئ الأندلسيَّة الأخرى فنونها، واستمدَّت منه مقوِّمات نموِّها.

وجد ملوك الأندلس أنفسهم في أمسِّ الحاجة إلى رعاية المواهب الملاحيَّة وتشجيعها. وكانوا في أمسِّ الحاجة إلى تطوير صناعة السفن بالاتِّجاه الذي يُعزِّز حركة النهوض بالأسطول البحري العربي في حوض البحر الأبيض المتوسِّط، وفي حوض المحيط الأطلسي، فصارت الملاحة شعارًا ورمزًا وأيقونة، حتَّى أنَّ إحدى قرى غرناطة كان اسمها (الملاَّحة)، وإليها ينتسب العالم البارع أبو القاسم محمَّد الغافقي الأندلسي الملاَّحي.

ولادة فكرة السرقة الكبرى

أدركت التجمُّعات الأوربيَّة (العلميَّة والدينيَّة) في القرن الرابع عشر الميلادي أنَّ الخرائط والجداول والمعدَّات الملاحيَّة التي كانت بحوزة العرب والمسلمين هي المفاتيح السحريَّة التي ستفتح لهم أبواب التوسُّع والانتشار في بحار الله الواسعة. وهي التي ستفكُّ شفرة الألغاز الفلكيَّة والحسابيَّة، فولَّدت فكرة الاستيلاء على الإرث الملاحي العربي الإسلامي. وكانت هذه الفكرة الحافزَ الذي شجَّع رجال الكنيسة إلى إقناع الملوك والأمراء في (قشتالة) و (أراغون)، فزحف الملك (فرديناند الثالث) نحو المدن الأندلسيَّة المينائيَّة، وزحف الملك (جايم الأوَّل) على المدن الداخليَّة، فأسقطوا مدن بلنسية وقرطبة ومرسية وأشبيلية، واستولوا على الخرائط والمعدَّات والجداول الملاحيَّة، ووضعوا أيديهم على السفن الكبيرة، وعدوُّها من الغنائم، وغيَّروا أسماءها على الفور.

أصبح الحُكم الإسلامي محصورًا في غرناطة التي استطاعت لمناعتها وحصانة موقعها أن تقاوم الزحف. فوحَّدت مملكة (أراغون) صفوفها مع إيزابيلا ملكة قشتالة في الهجوم الكاسح ضدَّ غرناطة في معركة (لوشة) الكبرى. وكان الفارس العربي موسى بن أبي الغسَّان آخر المدافعين عنها، فشنَّ الملك (فرديناند) معركة (الإيمان المقدَّس) التي سقط فيها موسى شهيدًا خارج أسوار غرناطة، واستسلم المسلمون أمام هذا الغزو الجبَّار، وأصبح التراث البحري والعلمي كلَّه بيد (فرديناند) و(إيزابيلا).

الريادة في العلوم البحريَّة والملاحيَّة

كان البحر بستان الملاَّحين العرب وملعبهم ومؤنسهم ومدرستهم وملاذهم، وكان مقبرتهم الأبديَّة. وما تزال بصماتهم مطبوعةً في ذاكرة الجزر النائية، منقوشة على المسطَّحات البحريَّة مترامية الأطراف، تنتظر مَن يرفع الغطاء عنها، ويفكُّ رموزها، فحقَّقوا مكانة عالميَّة متميَّزة في المهارات الملاحيَّة المُكتسبة بالفطرة، إضافة إلى ما يكتنزون من مواهب طبيعيَّة، وما يحتفظون به من معارف موروثة. وتفوَّقوا في هندسة بناء السفن الشراعيَّة. وكانوا أوَّل مَن تعلَّم ركوب الماء. وكانت لهم الريادة في تهذيب الإسطرلاب وتطويره. وابتكروا آلة الكمال (آلة السدس Sextant)، واخترعوا البوصلة المغناطيسيَّة. وهم أوَّل من جزَّأها إلى اثنين وثلاثين جزءًا، وأوَّل مَن استخدم الساعة المائيَّة في الملاحة. ويعود لهم الفضل في رسم الخرائط الملاحيَّة، وتثبيت الملامح الساحليَّة، وتوزيع خطوط العرض والطول.

كان الأندلسيُّون أسياد الملاحة في المحيط الأطلسي بلا مُنازع، وكانت سفنهم من أكثر السفن إثارة للإعجاب، وتُظهر مستوًى عالٍ من المهارة ودِقَّة الصنعة، واستطاعوا أن يبسطوا نفوذهم الملاحي على الجزر التي سنأتي على ذكرها هنا.
برع الأندلسيُّون أيضًا في رسم الخرائط الجغرافيَّة، واهتمًّوا بتوضيح المسالك البحريَّة. كانت أشهرها الخارطة التي رسمها الإدريسي. وصنع بجوارها كرة أرضيَّة من الفضَّة. وهو أول من رسم خارطة كاملة للأرض.

أوَّل مَن أكتشف أمريكا

ممَّا لا ريب فيه أنَّ المسلمين والعرب وصلوا إلى السواحل الأمريكيَّة قبل كريستوفر كولومبس بمئات السنين، وأنَّ تسجيل ذلك الاكتشاف باسم كولومبس لا يلغي حقَّ روَّاد الملاحة العربيَّة الذين غامروا بعبور الأطلسي، واستقروا في الأرض الجديدة.

فقد تحدَّث أحمد بن فضل الله العمري في كتابه "مسالك الأبصار في ممالك الأمصار" عن وجود أرض عامرة وديار مسكونة، لكنَّها غير مُعلنة، تقع خلف بحر الظلمات (المحيط الأطلسي). وقد عاش إبن فضل الله قبل كولومبس بقرنين على أقلِّ تقدير.

وتحدَّث المؤرِّخ أبو بكر بن عمر عن ملاَّح عربي آخر، ابن فاروق من غرناطة، أبحر من ميناء قادس (Kadesh) في بداية شهر فبراير/شباط من عام 999، وتوغَّل في بحر الظلمات حتَّى وصل إلى جزر الكناري، ثمَّ واصل مساره في الاتِّجاه الغربي حتَّى وصل إلى جزيرتين نائيتين, هما جزيرة (Capraria)، وجزيرة (Pluitana)، وعاد من رحلته في نهاية مايو/أيَّار من العام نفسه.

وذكر المسعودي في "مروج الذهب" إنَّ الملاَّح العربي خشخاش بن سعيد بن أسود القرطبي، أبحر من الأندلس متوجِّها نحو الغرب في العام الهجري 889 الموافق عام 1484، وقطع بحر الظلمات (الأطلسي)، ووصل بعد عناء ومشقَّة إلى أرض مجهولة. عاد منها محمَّلا بالذهب والغنائم. وقد أشار المسعودي إلى موقع تلك الأرض، وثبَّتها في الخارطة التي رسمها المسعودي نفسه. وكتب عليها عبارة (الأرض المجهولة). وهي في موضع قارة أمريكا.

وتحدَّث الإدريسي أيضًا عن رحلة بحريَّة استكشافيَّة، قام بها مجموعة من الملاَّحين العرب. انطلقوا غربًا من ميناء (دلبة) في الأندلس، واقتحموا المحيط الأطلسي، ثمَّ عادوا بعد أشهر، وراحوا يقصُّون للناس مشاهداتهم المثيرة عن عالم غريب.

وتعترف المراكز الملاحيَّة الإسبانيَّة اليوم بأنَّ العرب المنحدرين من أصول مغربيَّة، أبحروا من ميناء (دلبة) الأسباني (بالوس Palos) في منتصف القرن العاشر الميلادي، وعبروا بحر الظلمات (الأطلسي) متَّجهين بسفنهم نحو الغرب، ثمَّ عادوا بعد غياب طويل ليحكوا للناس عن مشاهداتهم في الأرض العجيبة الواقعة غرب المحيط.

وكان الأندلسيُّون يحلمون بالسفر بحرًا إلى تلك الجزر النائية. وهذا ما شجَّع العرب على الفرار بسفنهم بعد سقوط غرناطة عام 1492، والمجازفة بعبور الأطلسي. بحثًا عن الملاذ الآمن وخوفًا من الموت المحتوم الذي كان يطاردهم في الأندلس. واستمرَّت هجرة عرب الأندلس إلى الأرض الجديدة، الأمر الذي دفع ملك إسبانيا إلى إصدار قرار جائر، منع بموجبه تلك الهجرة وحرَّمها على المسلمين.

كولومبس يقتل الونزو ويسرق خرائطه

تذكر المراجع البرتغاليَّة أنَّ كولومبس كان يقيم في جزيرة (ماديرا Madeira). وفي عام 1486، أصابت الأعاصير سفينة إسبانيَّة، وأغرقتها في عرض البحر. ولم ينج منها إلاَّ خمسة من بحَّارتها، من ضمنهم ربانها (Alonso Sanchez). وشاءت الظروف أن يلجأ ربَّان السفينة المنكوبة إلى منزل كولومبس وبحوزته سجِّل السفينة وخرائطها الملاحيَّة المُقتبسة من الخرائط العربيَّة التي رسمها الملاَّح خشخاش بن سعيد. كانت تلك الخرائط تغطِّي أهمَّ مسالك المحيط الأطلسي. وتعدُّ من الوثائق السرِّيَّة النادرة. فغدر كولومبس بالربان المفجوع، وقتله وأستحوذ على خرائطه.

غامر كولومبس بعبور الأطلسي مستعينًا بالخرائط الملاحيَّة العربيَّة المسروقة، ومتسلِّحًا بالمفاهيم والمعارف الجغرافيَّة العربيَّة. ويبدو أنَّه كان مؤمنًا بنظريَّة (كرويَّة الأرض) للعالِم الجغرافي الأندلسي "أبو عبد الله البكري". وهي النظريَّة التي قادته لمحاول الوصول نحو الشرق بالسير غربًا. خلافًا لرأي الكنيسة المتشدِّد آنذاك، والقائل بأنَّ الأرض مسطَّحةٌ، وأنَّ الأيمان بكرويَّتها كفرٌ أودى ذات يوم بحياة كوبرنيكس، وعرَّض غاليلو للتعذيب.

وكان كولمبس مدركًا لحسابات العالِم العربي "أبو الفداء" الذي توسَّع في شرح نظريَّة كرويَّة الأرض، وبيَّن اختلاف التوقيتات الزمنيَّة في شروق الكواكب وغروبها من مكان إلى آخر. واستعان أيضًا بتطبيقات خطوط الطول والعرض التي توصَّل إليها أحمد بن محمَّد المقدسي، وتطبيقات البيروني على دوائر العرض بالاعتماد على رصد زوايا النجوم.

بمعنى أنَّ كولومبس اعتمد اعتمادًا كلِّيًا على الخرائط العربيَّة المسروقة، فرسم مسار رحلته الملاحيَّة في حدود الإطار المعرفي الذي وفََّّرته له تلك الخرائط الأندلسيَّة، فتمكَّن من الانطلاق نحو الغرب معتمدًا على أسس واقعيَّة ومنطقيَّة صاغتها العبقريَّة العربيَّة. وكان ثُلث بحَّارته من الملاَّحين العرب.

وفي شباط/فبراير من عام 1988 أقيم في غرناطة في إسبانيا مهرجان كبير بمناسبة مرور خمسة قرون على تسجيل اكتشاف قارَّة أمريكا، تحدَّث فيه علماء التاريخ والجغرافيا عن اعتماد كولومبس على الخرائط الملاحيَّة العربيَّة والإسلاميَّة في عبور الأطلسي، وأكَّدوا على استعانته بالمراجع العربيَّة، وقالوا: إنَّه رجع إلى الكثير من المؤلَّفات العربيَّة التي تُرجمت إلى اللغة الإسبانيَّة آنذاك. منها كتاب (مروج الذهب) للمسعودي، وكتاب (نزهة المشتاق في اختراق الآفاق) للإدريسي الذي رسم مشاهداته على كرة من الفضَّة للملك روجيه الثاني حينما دعاه لزيارة صقلِّية، وكتاب (تقويم البلدان) لعماد الدين إسماعيل أبي الفداء. وأجمع المشاركون في الحفل على أنَّ كولومبس زوَّد سفنه بعدد من الآلات البحريَّة والفلكيَّة عربيَّة الأصل مثل البوصلات العربيَّة والإسطرلابات وآلات الكمال (آلة السُّدس).

وقال الملاح التركي الكبير (الرئيس برِّي) في (كتاب البحرية): إنَّ قارة أنتيليا (ويقصد أمريكا) اكتشفت عام 1465، أي قبل وصول كولومبس بأكثر من ربع قرن. ونقل في كتابه عن رودريكو، رجل برتغالي، عمل في خدمة عمِّ برِّي (الرئيس كمال)، أنَّه رافق كولومبو (يقصد كولومبس) في رحلته إلى أنتيليا، وكانت بحوزته خرائط أندلسيَّة وعثمانيَّة. وقال بأنَّه وقف يتوسَّط بين كولومبو وبحَّارته الذين أعلنوا العصيان، وأرادوا الاعتداء عليه بعد اليأس الذي أصابهم في البحث عن القارَّة الجديدة. وقال بأنَّ كولومبو قال لهم: "أثق إنَّنا لا بدَّ من أن نصل هنا إلى الأرض التي نبحث عنها، لأنَّ البحَّارة الأندلسيِّين والعثمانيِّين لا يكذبون." وبالفعل، عثرنا على الأرض الجديدة بعد ثلاثة أيَّام من ذلك التصريح.

إخوان هاني في بحر الظلمات

صرَّح كولومبس بنفسه بأنَّ اللغة العربيَّة هي أمُّ اللغات. وهذا يفسِّر حرصه على اصطحاب البحَّار (Luis de Torres) الذي كان يجيد العربيَّة والأسبانيَّة. فقد ظلَّت اللغة العربيَّة تتربَّع على منصَّة العلوم والفنون والآداب في عموم بلدان العالم المتحضِّر في الفترة من القرن الثامن إلى القرن السادس عشر الميلادي. وكانت معظم الخرائط والجداول الملاحيَّة مكتوبة باللغة العربيَّة. ومن الواضح أنَّه اقتفى أثر (خشخاش بن سعيد) و (ابن فاروق)، وسار على نهجهما إذ اختار ميناء (دلبة) للانطلاق في رحلته نحو الغرب. وتوجَّه إلى جزر الكناري. وكانت تسمَّى (Gomera). وهو اسم عربي يعني (جميرة، تصغير جمرة). وفي هذه الجزر، وقع كولومبس في حبِّ (Beatriz Bobadilla). ونلاحظ هنا أنَّ اسم (Bobadilla) مشتقٌّ من الاسم العربي (أبو عبد الله Abouabdilla ).

وفي الثاني عشر من أكتوبر/تشرين أوَّل عام 1492، رست سفن كولومبس على ساحل جزيرة صغيرة تابعة للبهاما، اسمها (Guanahani). وهو اسم آخر مشتقٌّ من العبارة العربيَّة، ويعني (إخوان هاني). فبادر إلى تغيير اسمها إلى (سان سلفادور San Salvador).

وقال فرديناند، نجل كولومبس بأنَّ أباه أخبره بوجود قبائل من أصول أفريقيَّة تقطن في الهندوراس. وذلك إلى الشرق من ((Cavinas. وأخبره أيضا: أنَّه وجد في الموقع نفسه قبائل مُسلمة تدعى (Almamy). أو (Al-Imam)، وهذه الرواية لا تحتاج إلى تعليق. ومن المرجَّح أنَّ تلك القبائل تعرضت إلى الإبادة الجماعيَّة.

ويكشف لنا أستاذ اللسانيَّات في جامعة هارفارد. البروفسور (Leo Weiner ) في كتابه (أفريقيا واكتشاف أمريكا)، المنشور عام 1920 عن حقائق مثيرة تثبت الوجود العربي الإسلامي في أمريكا قبل كولومبس. وأشار إلى شيوع مفردات عربيَّة كثيرة في لهجات الهنود الحمر. تؤكِّد على وجود صلات عرقيَّة بين القبائل الموريتانيَّة والمغربيَّة من جهة، وقبائل الهنود الحمر من جهة أخرى.

خرائط الريس بيري كشفت زيف كولومبس

أذهل الملاَّح التركي (الرئيس برِّي) العالم كلَّه بخارطتين متهالكتين مرسومتين بتسعة ألوان على جلد الغزال للشواطئ الغربيَّة لإفريقيا، والشواطئ الشرقيَّة للأمريكيَّتين، والحدود الشماليَّة لليابسة في القارَّة القطبيَّة الجنوبيَّة (انتارتيكا). قال عنها مدير مركز الأرصاد في (ويستون): "إنَّ خرائط الرئيس برِّي المرسومة عام 1513 صحيحة بدرجة تذهل العقول، لأنَّها تُظهر بوضوح أماكن لم يكتشفها الإنسان في ذلك الزمان. وممَّا يبعث على الحَيرة أنَّه رسم جبال القارة القطبيَّة الجنوبيَّة ووديانها، في حين لم تتوصَّل المراكز الجغرافيَّة المُعاصرة إلى رسمها إلاَّ بعد عام 1952، وذلك بعد أن تسلَّحت بأحدث تقنيات المسح الزلزالي. وممَّا زاد الأمر حَيرة أنَّ الصور التي التقطتها المركبات الفضائيَّة للقارَّة القطبيَّة الجنوبيَّة، جاءت مُطابقة لخرائط الرئيس برِّي."

والشيء نفسه يُقال عن الحدود الشرقيَّة في القارَّتين الأمريكيَّتين التي جاءت مطابقة تمامًا للحدود التي بيَّنتها صور الأقمار الصناعيَّة لتلك السواحل، ممَّا تسبَّب بإحراج علماء الجغرافيا لأنَّ كولومبس لم يصل إلى تلك السواحل، ولم يعرفها أبدًا، ولم تكن لدية القدرة على رسم الخرائط بهذا المستوى المذهل. والحقيقة التي لا بدَّ من الاعتراف بها، هي أنَّ العرب والمسلمين كانوا يصولون ويجولون في تلك السواحل، ويتردَّدون عليها في أوقات غير منتظمة، وأنَّ كولومبس سرق خرائطهم الملاحيَّة، وسلك المسالك التي سلكوها قبله، وأنَّ التراث البحري الأندلسي والعثماني كان الكنزَ الذي تعرِّض للسطو، وهو المفتاح الذي استعملته أوروبَّا في حلِّ شفرة المسالك الملاحيَّة المخيفة.

سرقة مفاتيح المسالك الخليجيَّة

بعد ستَّة سنوات على سقوط الدولة العربيَّة في الأندلس، وعلى وجه التحديد، في عام 1498، كانت طلائع سفن البرتغالي فاسكو دي غاما تقف خارج بوَّابة مضيق هرمز، لتضع يدها على الكنوز الملاحيَّة الخليجيَّة، وتسرق مفاتيح المحيط الهندي من خزانة العرب. ولم تمض بضعة أشهر على تجوالها في بحر العرب وخليج عُمَان حتَّى أصبحت خرائط شهاب الدين أحمد بن ماجد في حوزة البرتغاليِّين.

كان ابن ماجد من أشهر الملاَّحين العرب. فهو أسد البحر، وشيخ الملاَّحين والمُرشدين، وواضع أسس النظريَّات الملاحيَّة الحديثة التي جسَّدت رؤية الجغرافيِّين القُدامى. وهو مُبتكر المصطلحات العربيَّة في شتَّى العلوم والفنون البحريَّة، وصاحب الاختراعات والكتب والأراجيز التي أعتبرها الغرب ثروة لا تُقدَّر بثمن. وأشهر مؤلَّفاته، كتاب (الفوائد في أصول علم البحر والقواعد).

ابتدع ابن ماجد قياسات ملاحيَّة جديدة لم يسبقه إليها أحد. واستطاع أن يحدِّد مواقع الجزر والبلدان والسواحل ومطالع النجوم. وشرَحَ المسالك البحريَّة في المحيط الهندي. وتعمَّد تدوين علومه البحريَّة على شكل أراجيز شعريَّة مُبسَّطة حتى يسهل حفظها وتناقلها بين رجال البحر. وبلغت أراجيزه نحو أربعين أرجوزة في مختلف المواضيع.

وجد (دي غاما) ضالَّته في علوم ابن ماجد، فسرقها كلَّها، وغدر بصاحبها، ورماه في البحر، ونقل كنوزه المعرفيَّة إلى البرتغال. فاكتملت فصول أكبر سرقة علميَّة في تاريخ كوكب الأرض. ووقعت كنوز البحار والمحيطات والجزر والقارَّات بيد الأساطيل الإسبانيَّة والبرتغاليَّة، ثمَّ تبعتها الأساطيل البريطانيَّة والفرنسيَّة والهولنديَّة، وبدأت أولى مراحل الاستعمار الغربي التي غيَّرت وجه العالم في كلِّ الاتجاهات.

* ملفٌّ خاصٌّ، نشرته جريدة المستقبل العراقي في 24/5/2012

معلومات إضافيَّة عن الإسطرلاب لم تَرِدْ في المقال أعلاه*

(إسطرلاب عربي من سنة 1208 م) (إسطرلاب فارسي من القرن العشرين)
أصل هذه الآلة غير معروف، وقد كتب "Theon of Alexandria" عن الأسطرلاب في القرن الرابع قبل الميلادي، وأوَّل رسالة إغريقيَّة محفوظة، تعود للقرن السادس الميلادي. وقد طوَّر علماء الفلك المسلمون الإسطرلاب تطويرًا كاملا في العهد الإسلامي بسبب حاجتهم لتحديد أوقات الصلاة واتِّجاه مكَّة. وقد بقي الإسطرلاب مُستخدما على نحو شائع حتَّى سنة 1800م.

كان الإسطرلاب يُستخدم في الملاحة العربيَّة لتعيين زوايا ارتفاع الأجرام السماويَّة بالنسبة إلى الأفق في أيِّ مكان لحساب الوقت والبُعد عن خطِّ الاستواء.

يتكوَّن الإاسطرلاب من العديد من القطع: العنكبوت، قطعة كانت تمثِّل مدار الشمس في دائرة البروج، وتجد أيضًا بها النجوم. والصفيحة، قطعة توضع عليها دوائر الارتفاع والسموت، ومواقيت الصلاة والمنازل الإثنى عشر وغيرها الكثير. وقطعة تسمَّى "الأم" تحتوي جميع القطع، والعضادة والفرس. وتقسَّم الدائرة لدرجات لتعيين زوايا ارتفاع النجوم أو الشمس لتحديد موقعهها.

هناك كتاب فُقِدَ أصلُه اليوناني، ولكن نسخته العربيَّة موجودة لحسن الحظ. ويُرجع بعض المؤرِّخين أنَّ مخترع الإسطرلاب بشكله المعروف هو ابن الشاطر العالم الدمشقي. وممَّن كتبَ عنه من اليونانيِّين أيضًا يوحنَّا النحوي في القرن السادس الميلادي. وقد كتب كتابًا عن الأسطرلاب المسطَّح بطلميوس، صاحب المجسطي. وهناك كتابات باللغة السريانيَّة عن الإسطرلاب، ترجع إلى القرن السابع الميلادي، وتُنسب إلى سفيروس سيبوخت. مع كلِّ هذا، فإنَّ هناك مَن يُنسب هذا الاختراع إلى "أبو إسحق إبراهيم الفزَّاري" في القرن الثامن الميلادي.

لكن المؤكَّد أنَّ العرب عرفوا الإسطرلاب، وأضافوا إلى المعرفة الإنسانيَّة الكثير عنه. ومن الكتابات المشهورة عند العرب في هذا الشأن، كتابات عبد الرحمن بن عمر الصوفي في "كتاب العمل بالإسطرلاب" و "الكتاب الكبير في عمل الإسطرلاب"، وهو موجود وتمَّ تحقيقه. وكتبت فلورا كفافيا، باحثة يونانية رسالة دكتوراة في جامعة باريس بالفرنسيَّة والإنجليزيَّة عن الأسطرلاب، وجهد عبد الرحمن الصوفي في ذلك. وحقَّقت بعض أعماله كذلك.

* صورتا الإسطرلاب أعلاه والمعلومات المُقتبسة مأخوذة عن موقع في الإنترنت.

نبشُ جُثثِ الماضي والتمثيلُ بها حِرْفةٌ أتقنها كثيرٌ من أحفادِ هؤلاء الأجدادِ، لإثارةِ الفتنِ والنعراتِ الطائفيَّةِ والمذهبيَّةِ والدينيَّةِ لنتقاتلَ وتذهبَ ريحُنا سُدًى، بعدَ أن تَذري بنا. فهنيئًا لخصومنا وأعدائنا بنا.

رحم الله ماضيًا لم نعرف منه إلاَّ الرَّفات.

نيكولا الصايغ

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى