السبت ١٠ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠١٢
بقلم مصطفى أدمين

المعلّم والتلميذ

ألمَّتْ بي نزلة برد. وأنا وحدي في البيت أنظر من خلال زجاج النافذة إلى المطر. يمتزجُ في نفسي دفءُ الحمى وطقطقة القطرات الباردة. أكادُ أشعر بالسعادة وأنا في فراش المرض. أفكر: المرضُ نعمة في بعض الأحيان. المرض يقرّب الأرواح إلى بعضِها. أشعر وكأنّني طفل في رعاية أمِّه. أمّي توفيتْ لكن زوجتي هنا تقوم مقامها. إنها في المطبخ تُهيّئُ الفطور. أخمّن أن لا أحد في الشارع لأنّ الأمطار غزيرة.

عجيبٌ أمر الناس! قبل أيّام كانوا يرجون أن تهطل. الصيف كان حاراً هذه السنة، والسماء صارت مثقلة بالعوالق، والبنايات والأشجار اتسخت، والقلوب تكدّرتْ. «الرحمة!» كانوا يقولون. والآن أين هم؟ يختبئون من شيء رجوا حدوثه وصلوا لأجل أن يحدث. أنا لستُ مثلهم؛ بالأمس مشيتُ في المطر بلباس خفيف: سروال صيفي وقميص بكمّين قصيرين. مرضت، ولكنّني سعيد. المرض والمطر يلهبان تفكيري ويشحنان ذاكرتي ويؤجّجان مخيّلتي. أنْ أفكّر وأتذكّر وأتخيل يجعلني أشعر بالسعادة.

فجأة انقطع المطر، وبرزت الشمسُ، وعاد الشارع إلى صخبه؛ وكأنّ مطراً لم يكن. تناولني زوجتي وجبة الفطور: كوب قهوة سوداء بقطعتين من السكر، كسرة خبز من صنع الدار، وقليلا من زيت الزيتون، وعصير ليمون بالعسل.

بعد أنْ تناولتُ الفطور والدواء، جاءتني الرغبة في الوقوف أمام النافذة وتتبُّع ما يجري في الخارج. فرأيتُ السيد إبراهيم المقابل بيتـُه لبيتي واقفا مع رجلين يحمل كلٌّ منهما عُدّة الصباغة. يعتزم جاري أن يعيد طلاء واجهة بيتِه على ما يبدو. أنا الآخر تأخرتُ عن إعادة طلاء واجهة بيتي. الصبّاغُ الأوّل رجلٌ كبير السنّ؛ لنقل إنـّه في السبعين. الرجل الثاني ما زال شابّاً في الثلاثين. والسيد إبراهيم يتحدّث تارة لهذا وتارة لذاك. ومن حين لآخر يشتبكُ الرجلان بالكلام. الظاهر أنهما يختصمان. لم أسمع جيّـِداً ما يتقاولانه. وعندما فتحتُ النافذة؛ عرفتُ أنهما يتخاصمان، وجاري يحاول أن يوفّـِق بينهما:

 قلتَ لي بأنّك مريض ولن تقوم بهذا العمل. يقول الشاب للشيخ.

ـ قلتُ لك قبل عشرة أيّام بأنني مريض ولم أقل لك بأنّني لن أقوم بهذا العمل. يردُّ الشيخ.

 اسمع يا معلـِّم؛ أنا محتاج إلى هذا العمل، فالعيد على الأبواب.

ـ كنتَ دائماً شخصاً أنانيا يا عبد الله...

ـ الشخص الأناني هو أنتَ. أنتَ شيخ، اشتغلتَ عمرَك كُلـّه، ولك أولاد وبنات في سنّي وكلـّهم موظفون ومتزوجون، وأما أنا...

يتدخّل السيد إبراهيم:

ـ احترم معلـّمك يا سي عبد الله، فهو من علـّمك المهنة. دعه يقوم بهذا العمل وأنتَ لك فرصة أخرى.

احتدم الشجار فأحسستُ أنّه من واجبي أن أتدخل. أسأل زوجتي:«ألا ترين أنـّه حان الوقت لإعادة طلاء الواجهة؟». تجيب:«كما تريد». أنزل. أتحدث مع جاري. نتـّفق: المعلـّم له والتلميذ لي. «موافقان» يقول الصبّاغان. أصعد للمراقبة.

أرى الشيخ متمكّناً من مهنته؛ يدخل الفرشاة في الطلاء ويطبّقها بحنان على الجدار من دون أن يوقع ولو قطرة، ويسترسل في عملية الدهن بليونة وفي نفس الاتجاه العمودي. أرى الطلاءَ يرتسم بإتقان وبنفس الدرجة اللونية. رويدا رويدا، اكتسبَ الجدارُ نظامَ لوحة فنّية أحادية اللون: لون لحم السلمون البهيج.

أطلُّ على التلميذ. أراهُ يخبطُ واجهة بيتي كيفما اتـُّفق؛ عشوائياً وبعنف؛ والأرضية صارتْ ملطّخة بالطلاء، ووجهه صار في مثل قناع أمغر. أراه في بعض الأحيان يطبِّق الطلاء وهو ينظر إلى معلـِّمه المنهمك في عمله بثقة كبيرة في النفس وبتفان. المعلّم لا ينظر إلى تلميذه إلاّ عندما يكون بحاجة إلى شحن فرشاته. يرمقه بسرعة ثم يعود إلى إنجازه.

لن أنهر التلميذ... والآن يترك المعلمُ جداره ويتقدّم نحو تلميذه ويقول له:«كنتَ دائماً قليل الصبر والفهم... عليك أن تمسك الفرشاة هكذا ولا تحرّك ذراعَك كلـّها... حرّك يدَك بحركات ليّنة من معصمك؛ ولا تشحن الفرشاة بأكثر مما تتحمّل... انظر! إنّك تفسد كلّ شيء... حرام عليك يا ولدي...».

توقعتُ أن يغضبَ التلميذ ويصرخ في وجه معلـِّمه؛ غير أنـّه ألقى بالفرشاة وقرفص يبكي. لحظتئذ ربّتَ المعلّم على كتف التلميذ وقال:«لا عليك يا ولدي؛ كلّنا نُخطئ، المُهـِمّ هو أن نتعلّم». عندها، ارتمى التلميذ على يد المعلـّم ليقبّـِلها...

واستمرَّ النهارُ، والمعلّمُ من جدار جاري إلى جداري حتى الغروب في جوٍّ من جميل من التعليم والتلمذة إلى أن صارت واجهتا بيتينا في شكل لوحتين تشكيليتين أحاديتيْ اللون، وكأنّ الفنّانة أتسوكو تاناكا مرَّتْ من هنا.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى