الأحد ١٨ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠١٢
بقلم هيثم نافل والي

رحيل

فَضَّ هديل الرسالة التي بين بيديه بخفة، كالمتلهف المحروم؛ فتوهجت الذكريات في رأسه سريعاً، كالحريق وقرأ...

فاض القلب ولم يعد يتسع، وهل أختار الصمت والقلب من مكانه ينخلع؟! لا أعرف من أين أبدأ؛ فصديقي هديل لم يكن مسلماً مثلي، لكنه كأخي وأكثر... كانت له حكاية عجيبة، وكأنها معجزة لا تتكرر بسهولة.

لم أكن صديقه الوحيد، لكنني المفضل لديه! لا أعتقد لأنني أملك مميزات لا يملكها غيري، بل كوني أفهمه جيداً، فهو بالنسبة لي رجل مكشوف، كالزجاج، لا يستطيع خداعي أو تمويه الحقائق معي، فالحقيقة أجدها فيه واستخرجها من داخلة، دون عناء أو كلام... ولا أحتاج إلا النظر في عينيه الهادئتين اللتين لهما لون اللوز. عندها أحزر ما يخبئه دون جهد. وهذا الأمر أظنه هو الذي جعله يتخذني صديقاً مفضلاً ومقرباً... وهل هناك أفضل من المرايا تعكس النظر؟ فكنت له تلك المرايا، في فرحه وحزنه، سعادته وألمه، انكساره وفوزه؛ حتى حصل الذي حصل... فانعكست تطلعاتي التي كنت أتباهى بها أمامه... فواجهت نفسي عندها واعترفت بجهلي وغبائي على أنني لم أكن فعلاً ذلك الصديق الذي يمكن له كشف أسرار صديقه من خلال النظر فقط، وفهمت حينها، بأن الإنسان مهما عرفته، تبقى جاهلاً في طبعه، بعيداً عن أعماق نفسه، وهذا ما حصل معه في ذلك اليوم الحزين الذي اكتب ذكرياته الآن، وكأنها شهادة وسأرسلها له حيث يعيش هو الآن.

كنت أفديه بروحي إن طلب؛ فأنا لا أفكر بشكل رجعي أو عنصري؛ دخلت داره، وأكلت من زاده... كانت ثقافته العريضة تبهرني، بل ترعبني أحياناً، فهو رسام أصيل، بالفطرة؛ وكاتب قصة قصيرة بارع، له أذن موسيقية رائعة، ناهيك عن حديثه العذب الذي يأسر القلب ويخطف نور البصر ولب العقول. كان هديل من ملة الصابئة المندائيين، شاب ليس ككل الشباب، شهامة وصدق وكرم ونخوة وتواضع شديد قل من تجمعت فيه كل تلك الصفات.

بدأت علاقتنا منذ أيام الدراسة في مرحلة المتوسطة، كان ينحدر من عائلة متوسطة الدخل، تمتهن الصياغة حرفة لها؛ في حين كنت فقيراً معدما، وأحسب نفسي من الأموات عندما كنت في عهد المراهقة، ولكن بذكاء هديل وثقافته المبكرة، استطعت الخروج من عنق زجاجة الحزن والكآبة التي كنت غارقاً فيها( والفضل كان يعود له) ثم لازمته بعد ذلك وحتى خروجه من العراق، بعد تلك الحادثة الرهيبة التي حلت عليه فجأة، كالصاعقة...

شاء القدر أن لا يفرقنا، فمن الله علينا بأن نكون قريبين من بعض ونحن نشق طريقنا في دراستنا، حيث قبلنا معاً في كلية التربية بجامعة المستنصرية دون موعد أو تحضير، أنا أدرس الكيمياء وهو الرياضيات وعندما كنا في أول سنة في الكلية، افتتحنا متجراً صغيراً، كالكهف أو كغرفة كاهن الاعتراف، لنعيش منه ولنثبت ذاتنا، على إننا وفي ذلك العمر أن نعتمد على أنفسنا، كالكبار... ونجحنا في ذلك كثيراً، بعد أن علمني أسرار مهنته التي يجيدها في فن الصياغة، لكنني لم أتعلم منها سوى قشورها الخارجية لصعوبتها ولدقتها... كنا فرحين وسعداء، كالأطفال في أيام العيد ونحن نرى نجاحاتنا تتحقق يوما بعد آخر... لحين ما وقعت الواقعة، فتغير كل شيء، وانقلب الوضع بالنسبة لنا رأساً على عقب، إنها ولربما إرادة الله العادلة؟!

في ذلك المساء البغدادي الأصيل، سألته بصدق: غداً يكون يوم ميلادك... فكيف ستقضيه؟!

نظر لي بحزن، كعادته، وقال مقتضباً: أراك تنتظر مني الفرح؟!

 ولما لا، فعيد ميلادك، كعيد ميلادي... أفرح به وأطرب.

 أجاب بنبرة، كالتهديد: أطرب كما تريد، لكن بعيداً عني!

 لماذا كل هذا التشاؤم يا هديل؟ ( قال ذلك بصوت منخفض، وكأنه يفشي سراً)

 هل أصابك العمى، وأنا لا أدري؟ انظر حولك... جرّب أن تفهمني، ترى هل نعيش نحن في العراق كباقي البشر؟ لتحسب علينا ولادتنا يوم ميلاد حقيقي نفرح به ونحتفل؟! ثم سأله ممتعضاً، أجاهل أنت يا صديقي أم تدعي الجهل؟! واستدرك بجزع، كما ترى والحمد لله، نعيش هنا في عزلة تامة، كالعناكب في بيوتها، بل يبدو لي أحياناً، بأن الشيطان قد أضلنا، ولو تبنا لشك الناس في توبتنا!!

 وطني يبقى وطني... حتى وإن حلت به الأزمات وتشقق جداره بسبب العبث والفساد، ثم استطرد بحماس، أنا كالجمرة يا هديل، إن فارقت موقدها خمدت، بردت، لم تعد تصلح لشيء... فوطني موقدي، رغم حرارته التي تصهر الفولاذ، وليس الناس فقط!! ( أجابه جبار وهو مختلج النفس، ملتهب المشاعر ) ثم سأله مباغتاً: لم تقل، ماذا أنت غداً فاعل؟

 لا أخفيك سراً... ليس لي مزاج السكران! سأبحث عن مأتم أبكي فيه! هل تصدق ذلك؟ وتابع قائلاً، احتفظ بحبك للوطن لنفسك، ودع لي طموحاتي وأفكاري التي تجعلني أنظر إلى خارج أسوار وطنك، ثم أردف بحزن، تمتع بوقتك يا صاحبي، لكنني لن أبقى هنا طويلاً، ثم تابع بحماس، سأذهب وأنا مالك لفؤادي، لأنني أعرف قدري، وسوف لن أقسم دون داعٍ!!

جاء الغد راكضاً وهو يزف لنا البشرى، وأي بشرى؟! إذ لم تعد ذكرى يوم ميلاد هديل شيئاً سعيداً في حياتنا!! فالحادثة التي وقعت، قصمت ظهرنا وخلعت قلوبنا من مكانها دون اعتبار أو رحمة أو حتى نسمة عطف علينا؛ لقد كان الخبر ظالماً وقاسيا... ليس فقط على صديقي وأخي هديل، بل علي أنا أيضاً.

فيما كنت في متجرنا مساء، حتى ظهر لي أحدهم وهو يسأل عن هديل قائلاً بارتباك والقلق يركبه: أين هديل؟ لقد سألت عنه... وقالوا لي، إنه يعمل معك هنا، أين أجده؟ أرجوك الموضوع لا يتحمل الصبر أو الانتظار!!

 تفضل بالجلوس، وأفهمني ما حصل... لقد أقلقتني كثيراً ولم أعد السيطرة على نفسي، ما المشكلة؟

هم بالوقوف وهو ينوي مغادرة المتجر، وكأنه لم يسمع ندائي... وما أن أصبح في الخارج، ذهبت وراءه وأنا أصيح، يا رجل انتظر قليلاً، هديل سيأتي حالاً، سوف لن يتأخر... لكنه كان مرتبكاً، منهاراً ومتردداً وهم راكضاً لا يلوي على شيء... تركني أصارع حيرتي التي غزتني وتغلغلت إلى أعماقي، كطعنة خنجر.

ومن بعيد رأيت هديل وهو يتوجه قادماً إلى المتجر... غادرت المتجر وأنا كالمجنون، وصحت صارخاً به دون وعي: ما الذي حصل؟ ماذا يجري هناك؟ وأنا مازلت أتحدث معه، وهو ينظر لي باستغراب وامتعاض شديدين، ولا يعرف عن ماذا أتحدث ولماذا أوجه له كل تلك الأسئلة الغبية دفعة واحدة وبنفس شبه مقطوع!! حتى ظهر الرجل الغريب، بوجهه الصارم العنيد الأسمر الذي لفحته الشمس طويلاً فبدا كالجلد المدبوغ... وهو يسحب هديل من كتفه بقوة ويسقط في أذنه كلاماً مقتضباً، فتغيرت ملامح صديقي فجأة، أزرق وجه وأصبح كوجه ميت... وركضا معاً دون أن ينتبهان لوجودي، أو يضعا اعتبارا لوقوفي معهم، واختفوا سريعاً، كما يختفي دخان شمعة أطفأت للحين...

حاولت الاتصال بهم هاتفياً ولم أفلح، فقررت زيارتهم، بعد أن أغلقت المتجر وأنا أردد: يذهب المتجر والبيع والشراء والمال إلى الجحيم... وهذا ما فعلت، ويا ليتني لم أفعل!!

لقد بدا المنظر مرعباً في دار هديل، لا يطاق ولن يحتمل، فالصراخ والبكاء والعويل يعلو الزقاق ويشق الآفاق، والنساء يلطمن الخدود والرجال يبكون، كالنساء... وأنا في حالة لا يعلم فيها إلا الله... من اليأس والخوف والقنوط؛ بحثت عن هديل ولم أجده، حاولت أن أسأل أحدهم ولم أستطع، فالجو كان عامراً بالنواح والصراخ، وتفوح منه رائحة الموت الزؤام.

علمت فيما بعد، بأن هديلا كان قد فقد الوعي تماماً، بعد أن عرف بالمصيبة، بالكارثة التي حلت بهم، وما أن دخل دارهم مرعوباً، منهاراً مع ذلك الرجل المدبوغ الجلد... حتى ضحك ضحكة شيطانية مهزوزة، مريضة مجنونة ولا تعود إلى عالم الإنسان في موقف كهذا!! ثم لم تعد ساقاه تستطيعان حمله، وكأنهما من أسفنج، فخر ساقطاً على الأرض، فاقداً لوعيه، وكأنه لا يريد أن يحضر الواقعة!

في اليوم التالي، وفي صمت جنائزي رهيب، التقيت هديلا على انفراد؛ وجدته مقرفصاً، كبوذي متعبد، عند قدم جدار أحد الغرف في الطابق الثاني من دارهم، لم يكن هناك أحداً سوانا... تقربت منه بحذر، مسدت شعر رأٍسه برقة، كأب وهو يرى ابنه منهاراً، كئيباً ومن الحزن في نهايته... سألته بصوت منخفض: ماذا دهاك يا صاحبي؟ هكذا هي الحياة، وهذي هي الأقدار تغدر دون أن تراعي شعورا أو اظرفا تشجع قليلاً، تماسك، ثم أردفت بعطف ملائكي، كنت دائماً أنت الذي تعظني وتنصحني وترشدني... ماذا جرى لك؟ عجباً!! زم شفتيه، ضيق ما بين عينيه ولم يرفع رأسه نحوي تحاشى النظر، بقي صامتاً، كالتمثال، شعرت حينها، بأنه لا يحب الحياة التي أتحدث بها معه، يمقت الأقدار وجبروتها، بل أحسست بإحساس غريب، قاس، وقد صدق حدسي فيما بعد؛ لقد شكك بعدالة السماء!! ربما له الحق فيما ذهب إليه؟!

في ليلة ميلاد هديل، يوم خروجه إلى الحياة صارخاً يريد الحياة، في هذه الليلة بالذات وليست غيرها... القدر لا يحب المزح إلا على كيفه، كان مزحهُ ثقيلاً لا يستوعبه عقل البشر أحياناً!! الموت لم يختر يوماً آخر، بل أثبت عناده الصارم، كالصخرة التي لا تتزحزح من مكانها، بعد أن أزمع... أنه يريد يوم ميلاده ذكرى، تاريخا لا ينسى...

في يوم ولادته، انفرط عقد عائلته، نهب الموت أحد خرزها الثمينة، سعد، ذلك الشاب النقي، الشهم الذي لا يقبل أقل من الحق نصابا، خطفه القدر، أبعده عن أسرته وزوجته وأولاده وهو مازال في مقتبل العمر، كزهرة لم تورد بعد. فيا لظلم الزمان وغباءه... حتى تراءى لنا في لحظة يائسة، بائسة، بأن الحجر بات أفضل منا، لأنه لا يحس أو يسمع أو يرى أو يتأثر!!

لم تمض على وفاة أخيه سوى أشهر قليلة، حتى فاجأنا هديل بقرار سفره، يريد أن يهرب، أن يعطي ظهره للذي نهب أخيه دون رحمة، دون أن يسألهم، دون أن يقدر ظروف أسرة أخيه الفتية وأطفاله الصغار الذين تيتموا وهم مازالوا في طور الرضاعة. تغيرت ملامح صديقي بسرعة عجيبة، أصبح أكثر تجهماً ونفوراً من الأشياء التي تحيطه والناس، تفهم قليلاً عظمة الأقدار وسخف الموت وقسوته في نفس الوقت؛ الإنسان لا يشعر بتلك الأحاسيس الدقيقة إلا من يقرص وتدميه بمخالبها، قلل شكوكه من عدالة السماء، اقتنع بالواقع وسلم بجبروت الموت الأرعن الذي لا يفرق كثيراً بين طفلٍ أو شاب، بين كافرٍ أو مؤمن... ترى أعزرائيل أعمى؟ لا يستطيع أن يميز بين الفرد الطالح من الصالح؟ أم أنه لا يقدر على الأوباش واللصوص وقطاع الطرق؟! وفي النهاية قرر... أخذ الأمور على علتها وتركنا، مع مصائرنا، نتصارع مع أقدارنا مع مأساتنا التي كبرت وأصبحت كالجبال لا يمكن زحزحتها، قهرها أو التغلب عليها... في بلدنا، في عرقنا... تركنا ورحل دون رجعة.

طوي هديل الرسالة بهدوء دون أن يطرف وقال محدثاً نفسه: يا لها من رسالة، لها رائحة الشمع المحروق ونكهة القهر وغدر القدر؛ غير مبالغ فيها، بل أكاد أجزم بأنها الحقيقة العارية من الكذب أو الرياء، وصلتني هنا في غربتي بعد أن بعد الزمن فيما بيننا وكاد يقارب العشرين عاماً... قرأت هذه الشهادة ولم أتأثر كثيراً!! استغرب من تصرفه الشنيع غير المبرر!! قرأها بهدوء وكسل لا يتفقان ومحتوى الرسالة!! كاد يجن وهو يشعر ببرود قاتل لا يحرق داخله أو يلهمه... قفز من مكانه، كمن قرصه عقرب فجأة وصاح: لأتصل بجبار وأساله عما يحدث لي... وما الذي غيرني إلى هذه الحدود المريضة... رفع سماعة الهاتف وسأل:

عذراً، أنا هديل صديق جبار، أتحدث معكم من بلدي الجديد، الذي أسمه غربة... هل لي أن أتكلم معه؟

 سكون، كصمت القبور، لا جواب، سوى من لهاث عميق، طويل، حزين، كالبكاء الأخرس...

 سأل مرة أخرى وبأعصاب متوترة مشدودة: من تكون أنت؟ أرجوك رد علي...

 ترددت، ثم همست بصوت نسائي مبحوح رقيق وتوقفت، لم تتابع مناجاتها، ربما فتحت جرحها الذي لم يندمل بعد، دون علم؟! ثم سمعت حشرجة كلام غير مفهوم، لقد كانت تئن، تنوح بصمت، بل لاذت بالصمت خجلة وهي تختنق بالعبرات، لا تريد الكلام... ثم بعد وقفة انطلقت بعواء صارخ، وبكاء جاف، بدائي...

 هوني عليك يا أختي، ردي عليَّ بهدوء دون توتر، منْ تكونين؟ وأين جبار؟

 أنا زوجته، لقد تزوجنا قبل ثلاثة أشهر فقط... ثم عاودها السكوت، وكأنه طبعٌ فيها!

حاول أن يكسر حالة الرهبة أو الصمت لديها، فقال، نعم وماذا بعد؟ تكلمي أرجوكِ، فقد وصلتني رسالة منه للحين، قرأتها... وأردت أن أتحدث معه قليلاً... وأشكره...

 أجابته بصرخة قاطعة كالسيف، برنة قاسية، أليمة، زلزلت قلبه من مكانه، بذعر حقيقي بعد أن أبت الكلمات أن تفصح عن ذاتها قبل قليل، كانت قد انتحرت في فمها، بل على لسانها... ثم تركت نفسها حرية التمرد كما يحلو لها، كرقصة مذبوح فناحت قائلة: لم تعد تستطيع التحدث معه!! لقد رحل جبار بعيداً عني وعنك وعن وطنه أيضاً، ثم أردفت من خلال دموعها(لقد شعر بدموعها وهي تنهل) سوف لن يرى ابنه الجنين الذي زرعه في أحشائي قبل رحيله!! لقد مات جبار ولم يعد له من وجود سوى ذكراه، كأشيائه!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى