الخميس ٢٢ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠١٢

كتاب «الحداثة المعطوبة»

في طبعة جديدة

صدرت لمحمد بنيس، عن دار توبقال للنشر في الدار البيضاء، طبعة ثانية من كتاب "الحداثة المعطوبة". وقد خصها المؤلف بتقديم يحمل عنوان "من أجل الحرية"، هو التالي:

عندما أقدمتُ سنة 2004 على جمْع هذه المذكرات ونشرها في كتاب كنتُ أريد أنْ أتقاسمَ مع غيري شهادةً على زمننا الثقافي. لمْ أختَرْ موقعَ المؤرّخ ولا موقع المفكّر أو المُحلّل. موقعُ الشاهد، قبلَ كلّ شيء. هذا ما اخترتُه. شاعرٌ يشهد على زمنه الذي يعيشُه، في فترة انْهيارات مُتوالية لأفْكار وموَاقف كان القائلُون بها والمعبّرون عنها من قبلُ يمثلون حداثةً فاعلةً في زمنها، فإذا هُمْ ينْدمُون على مَا كانوا ويتبرّأون ممّا فعَلوا. ولكنّها، في الوقت نفسه، فترةٌ كان الإسلاميون يبشّرون فيها بعهْد لا مكانَ فيه لحُرية الفكر والإبداع ولا لحُرية المرأة. لمْ يكُن القادمون إلى سُدّة السلطة وَاضحين بمَا فيه الكفاية. ولكنْ كلُّ ما كان يتحقق على الأرْض كان يُشير إلى أنّ القادمين سيكُونُون مُناهضين لمَشرُوع الحداثة في العالم العربي، الذي كانَ بدأ قبْلَ قرنين.

وإذا كانَ الربيعُ العربيُّ فاجأنا مثلما فاجَأ العالَم، فإن وُصول الإسلاميين إلى السلطة، عن طريق الدّيمقراطية، التي كانُوا يكفّرونها ويكفّرون المنادين بهَا، لمْ يكُنْ مُفاجئاً. هلْ هُوَ المآلُ الحتْميُّ للحدَاثة المعطُوبة ؟ عواملُ عديدةٌ تدعُوني للإجابة بالإثبَات. فالعطبُ، الذي قادَنا إلى هذا المآل، ثقافيٌّ ومنْ طبيعة ثقافيّة. هذا رَأيي. يبدأ العطبُ منَ التعليم، أيْ من مَضامينه وطَرائقه، ثمّ يمتدُّ إلى السُّلطة والمؤسَّسة، بالمعْنى الأوْسَع لكلٍّ منهُما، في الحياة العَائلية والاجتمَاعية والسّياسية. إنّه المشتركُ، الذي لا ينفصلُ فيه المشرقُ عن المغْرب، ولا يتميّز فيه تقدميٌّ عن مُحافظ. قامَ التعليمُ على مُحاصَرة الحُرية، في اللّغة والأدَب والفنُون والفكْر. إذْ أنّ الحريةَ، حريةَ الفرد والجَماعة، هيَ مبدأ الحَداثة السابق على كلِّ مبْدإ آخَر. فثقافةُ الحرية هي ثقافةُ العدْل والمُساواة بيْنَ جميع أبْناء وبنَات الوطَن الوَاحد في الكرامَة والمعْرفة والاخْتيار والاعْتقاد والحُلم والخيَال والتّعْبير. ثقافةُ الحُرية هيَ شهادة ميلاد المُواطن، في دوْلة الحقّ والقانُون، الذي يُساوي بيْن الجَميع ويتساوَى فيه الجميع. والتعليمُ الذي حاصَر الحريةَ هُو نفسُه الذي عمّمَ الجهْل. فالجهْلُ هو الكلمةُ العُليَا لمنْع الذّاتيات، بأفُقها المفتُوح على اللاّنهائي. وهُو، بالتّالي، رحمُ العُبودية، بجَميع أشْكالها. أغلالٌ تَنْزعُ الوضْعَ الإنسانيَّ عَن الإنْسان. هذا ما سَعَى التّعليمُ إليْه. وهَا هيَ عواصفُ الجهْل تنزلُ منَ الأعَالي التي لا نَراها، وتنتشرُ في حَياتنا، الفرديّة والجَماعيّة، باسْم الحقيقة الأبَديّة.

نحنُ، الآنَ، أمامَ الخَطوة الأُولى لاسْتلام الإسْلاميّين السّلطةَ، لتطبيق الإسْلام السّياسيّ. ولا أتسرعُ في إصْدار حُكْم على المُستقبل. ليْسَ ذلكَ شأني. لكنّ ما أشعرُ به هُوَ أن ضرورةَ نشْر هذَا الكتَاب، اليومَ، تفُوق مَا كنتُ شعَرتُ به يوْمَ نشرتُه للمرّة الأولى. فتصاعُدُ أعْطاب الحَداثة، منْ خلال مُثقّفين ومُؤسّسات ثقافيّة، في المغْرب والمَشرق، لا يُمكنُ أنْ نعتبرهُ مجردَ وقائعَ عاديّة، منْ طبيعَة الحيَاة والثقافيّة ولا يخصُّ زمناً بعيْنه. إنّنا نعيشُ وضعيةً أصعبَ منَ السّابق. أبرزُ علاماتها انسحابُ كلمَة "الحدَاثة" منَ الخطَاب، في كلٍّ منَ الحقليْن السّياسيِّ والثقافيّ.

ثمة بلدانٌ عربيةٌ كشفَ فيها الإسلاميُّون، منْ خلال إخْوانهم السّلفيين، عن عُنفهم تُجَاه الحَداثة والحَديثين، وبالأخصّ تجاه الحُرية. أكانتْ حريةَ الإبداع أمْ حُرية الفكْر أمْ حُرية المرْأة. كمَا حصلَ في تونُس، داخلَ الجامعة، أوْ بمناسبة معْرض الفنُون التّشكيلية في المرْسى. ويَبرزُ في بلدان أخرى توجّهُ الإسلاميّين نحْوَ مُمارسات لا تقتربُ، على نحْو مُباشر، منَ المسّ بهذه الحُريات. لكنّ الحداثةَ المعطوبةَ لا تُولي، بالمُقابل، اهتماماً بما يجْري ولا تكترثُ باسْتمرارها في احْتقار الوعْي النّقدي، وفي تسْفيهه ومنْعه. لا مُبادرة تنبثقُ في الثقافة كيْ تستعيدَ الحداثةُ حقَّها في الكَلام. ولا تراجُعَ عنْ تمْزيق المُجْتمع الثقافيّ، هُناكَ وهُنا. كأنّ ما يحدثُ لمْ يحدُثْ، وكأنّ مُمكنَ الزّمن هو بُعْدُه الوَاحد.

أكْتفي في الطبْعة الجَديدة للكتاب بمُحتوياته في الطبْعة الأولى. وقدْ أضفتُ مقالاً بعُنوان "المَكتبة المُفتقدَة" عثرتُ عليْه، بعْدَ أنْ كانَ ضاعَ منّي وقتَ تهْييء الطبْعة الأولى. ومنْ ثمّ تركتُ شهَادات أخْرى عن الوضْع الثقافي أوْ عَن الرّبيع العربيِّ وما بعْدَه، إلَى مُناسبَة قادمَة. على أنّني اغتنمتُ الفُرصَة، فأعدتُ النظرَ في بعْض الصّياغَات، التي تُدقّق ولا تُبدّل، وصحّحتُ مَا كانَ في الكتَاب منْ أخطاء، أعتذرُ عنْها.

ولا أدّعي أنّني، بإعَادة نشْر هذَا الكتَاب، سأُزيلُ وهْماً منَ الأوْهام. لكنّني أعتقدُ، بدلاً من ذلكَ، أنّ المُقاومةَ الثّقافيّة هيَ اللغةُ المُمْكنَة، بلْ إنّها اللغةُ الوحيدةُ التي أستطيعُ بهَا إعْطاءَ معنًى لحيَاتي في هَذا الزّمن، مغربياً وعربياً على السَّواء. فالوفاءُ للمُقاومَة الثقافيّة هُوَ ما يسمحُ للوعْي النّقدي أنْ يسْتكشفَ مَناطقَ أخْرى منْ فضَاء الحُرية، لأنّه الفضاءُ المفتوحُ على مُستقبَل الإبْدَاع والأمْن. اختيارٌ أتقاسمُه معَ غيْري. وأظلُّ مُتشبثاً بهذَا القَليل، المُسْتحيل.

في طبعة جديدة

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى