الثلاثاء ١١ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠١٢
بقلم موسى إبراهيم

نساء

(1)

مساءً قبل دخول الليل حجرة النهار بنبضة، سماء رمادية ومطر يتمدّد على كل الأشياء، ريح تهمس كنايٍ مذبوح، طريق طويل تمتد على جانبيه أعمدة الضوء الخافت، شجر كثير كثيف يلوّح بأغصانه، رصيفٌ يحمل غبار أحذية من مرّوا، قمرٌ خافت يقترب من بعيد يكبر يكبر يكبر.. هو بقامةٍ كالنخل، جسدٍ متوسط، هندام أنيق بسيط تلتسق به قطرات المطر الكثيفة، عينان تملأهما قصص كثيرة نساء على مد البصر بجمالهن وظلمهن وقسوة أريجهن، يمشي ببطء كأنه على موعدٍ بفتاة قلبه، هو لم يكن على موعدٍ مع أحد، كان اسمه أحمد، مضى .. أشعل بخطواته حبات المطر الباردة، مضى أكثر .. أيقظ ورق الشجر الحالم على أغصانٍ لا تهدأ، وجد مقعد، جلس، توضّأ قلبه بالمطر واقترف تنهيدةً ثمّ أخذ من سيجارته قبلةً غاضبة وصمت. لم تأتِ بعد، كانت هي في شرفتها، في ذات اللحظة، تعدّ واجبها المدرسيّ، الشرفة باردة، ما الذي يجبرها على هذا! ربما تنتظره؟ ربما تنتظر أحداً سواه، رجلاً سواه، مطراً سواه، حلماً سواه، تتابع واجبها المدرسيّ، تفقد التركيز في كلّ شيء، ضوء خافتٌ يتسلّق شرفة منزلهم، نام الناس جميعاً، وقفت هي تترقب قدومه، كان هو جالساً يدخّن، إشتعلت غيرتها، كيف يُقبِّلُ غيري؟ قررت أن تبتاع أملاً جديداً من سمائها الرمادية، جاء الحلم ميتاً، فاستفاقت على صرخات والدها:"حان موعد العشاء.." قالت:"وماذا عنه..؟" خطفت نظرة، كان قد رحل.

(2)

في الصباح كانت الزهور الشتوية تقف استعدادا لاستقبال أنوثتها، مرّت أمامَ الزهور ولم تسلّم، حلّت عليها لعنة الصباح، مدخل البيت يشبه إلى حدٍ كبير بستان ورد في فصل الخريف، كلّ ما عليه ذهب مع الريح، قطّة في زاويةٍ لا تبعد خطوتين، تضمّ نفسها بحذر، فتفح عيناً وتغلق أخرى، كأنها تنتظر، من تنتظر..؟ هي أنثى جميلة، وجهها في الصباح تفّاحة، عيناها عصفوران أخضران يحاولان النوم، شعرها مسدول على كتفيها يمتد حتى عمق أنوثتها، تتسلّقه ذرّات الماء، تداعبه الريح. مرّت ولم تلقِ التحية على أي شيءٍ حولها ما عدا جوريةً أهداها لها هو ذات يوم، إنها تكبر وتصبح أجمل، تتفتّح من أجلها كلّ صباح وتوزّع لها الشذى، هو قال هذا قبل أن يمضي، لم تكن تدرك معنى أن يرحل هو هكذا دون سابق إنذار، لكنه فعلها .. هو الآن في آخر الطريق، يراقبها من بعيد، يعلم أنها بحاجة إلى جوريةٍ أجمل، قد تكون بحاجةٍ إليه، هو لا أحد سواه، ولكنه رحل، فقط كي تكون هي بخير، أخرجت منديلها ومسحت على الجورية برفق، قبّلت منديلها، ومضت إلى العمل... هو لم يرحل بعد.

(3)

في حديقةٍ عامّة، يلتقي العشّاق، هو فقط من لا يلتقي بأحد، وهي في جهةٍ مقابلةٍ تنتظره منذ ثلاثين عام، لم يعد لديها شيئاً لتقوله عن الحب، المقعد الخشبيّ يمتصّ ذاكرتها بصمت، رغبتها في أن ترحل من هنا سكنت، هُنا لا أحد لتلتقي به إلاه، تنهي عملها، تمرّ بالدكّان، تشتري بعض الفستق وصندوق سجائر نسائية وبضع حبات لبان، تمضي إلى هُنا، بخطواتٍ يشبه وقعها خطوات القلب المسرعة إلى حياةٍ ما، تتأكد من عطرها، هل ما يزال غافياً في معطفها الأسود ..؟ ترتاحُ على المقعد تقضم بعض الفستق، تنهش ذاكرتها بحزن، ترمق عاشقين فتبكي، لم تتقدم بالسن كثيراً، لكن قلبها يشيخ أكثر وأكثر.

هو جالسٌ أيضاً لكنه يدرك أنها بانتظار سواه، فرّ من نفسه إليها كان خياله قد مضى إليها، جلس خياله بجانبها، ألقى التحية لم تجب! بالتأكيد لن تجيبه، هي الآن جسد وروح، وهو خيال، ترك جسده على المقعد الآخر، قرر أن يسألها: "سيّدتي.. كم الوقت..؟" إبتسمت وقالت: "ثلاثون عام".. مضى يتمتم.

صالة العرض


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى