الخميس ٢٠ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠١٢
بقلم فاتن رمضان

اللوحة

لم يتخيل يوما أنه سيجدها ... كل ما يربطه بها كان تلك اللوحة الجدارية الحزينة التى رسمها منذ أكثر من عشر سنوات والتى تحمل صورة لامرأة عادية الملامح ، لكن شيئا ما ربطه بها .. شيئا لم يدرك كنته أبدا،أحيانا كان يتسائل عن سر تعلقه بتلك الملامح وأحيانا كان ينعت نفسه بالجنون .

ظل يبحث عنها أعوام كثيرة ولما لم يجدها أيقن أنها غير موجودة ... تزوج بعدها وعاش حياته .. كانت زوجته مسالمة وديعة تعشق تراب قدميه لكنها قتلت دون قصد منها شيئا بداخله .. شيئا هو وحده يعلمه .. كثيرا ما بحث بداخلها عن فتاة أحلامه لكن محاولاته كانت بلا جدوى ... دفن قلبه بين ضلوعه واستسلم لأمواج الحياة .. ولما ماتت زوجته قرر الرحيل دون عودة .. حمل حقيبته ومضى .

كانت المرة الأولى التى ترحل فيها عن بلدها .. ظلت تلهث وراء حلمها سنوات وسنوات حتى تحقق وحين تحقق كانت خائفة للغاية ؛ فكل ما حولها كانوا ينصحونها بعدم المغامرة لكنها أصرت جازفت بما تبقى من عمرها ... همست لنفسها : ماذا سأخسر ؟ لم أفز بشئ فى حياتى .. مجرد فشل يتلوه فشل .. أعتدت الأمر .. اقلها سأحقق حلم قديم يراودنى منذ طفولتى .
بكت أمها حين وجدتها تحزم أمتعتهاأما أخيها فقد ظل متجهم الوجه لا ينظر إليها أبدا وإنما حمل الحقيبة وقذف بها إلى السيارة ليمضى إلى أرض المطار .
يد أمها الباردة كانت آخر الأشياء التى لمستها على أرض الوطن ..
أغلقت عينيها لتتشمم آخر نسمات تتصاعد من تلك الأرض التى طالما حملت أوجاعها .
حين وصلت لأرض المطار شعرت بخوف شديد ودت لو عادت مرة أخرى لحضن أمها .. لكن وجه أخيها المتجمد جعلها لا تفكر فى العودة .

كانت الطائرة رحبة متسعة .. شعرت أنها أكثر اتساعا من وطنها لكنها شعرت أيضا بغربة بها .. بوحدة ذات مذاق خاص ؛ لاأحد يتحدث لغتها أو يرتدى ملابسها حتى صفحة السماء الظاهرة من النافذة كانت غريبة عليها .

وصل للندن ، ولم تكن بالبلد الغريبة عليه فهو تقريبا يزورها كل عام مرة أو مرتين ، لكنه قرر هذه المرة أن يستقر بها دون عودة لوطنه .
كانت المشفى تعج بالحياة الهامسة المنمقة ولم يلفت انتباهه شيئا فى هذا الصباح .. بدأ بممارسة عمله المعتاد وكأنه يهرب به منه ، وحيت أتى وقت راحته استلقى على السرير ولمس القلادة الملاة برقبته .. لم يكن أبدا متدينا لكنه أيضا لم يكن ملحدا ؛ كان يؤمن بوجود الله مع أن ذكرياته لا تتعد بضع زيارات للكنيسة .

وصلت طائرتها لمطار هيثرو الساعة الواحدة وكان الجو رائعا بشهريوليو .. جوا يشبه شتاء مصر الدافئ وكانت فى استقبالها صديقتها البريطانية المسلمة فاطمة التى تعرفت عليها فى مصر أثناء زيارتها بإحدى البعثات لمستشفى القصر العينى .
تذكرت النيل حين وقفت أمام نهر التايمز وحين تسربت منه نسمة باردة تخت خمارها تذكرت يد أمها الباردة .. نصف إبتسامة ساخرة تعلو شفتيها حين تتذكر إلحاح أمها لتزويحها للمرة الثانية .. هربت قبل أن تُجبر ..

لم تزاول عملها باليوم الأول .. اكتفت بمراقبة النهر والبشر من وراء النافذة والتعرف على جدران غرفتها المطلية باللون الأبيض .
مر اليوم سريعا وفى الصباح ارتدت ملابسها ونزلت للمشفى الذى لم يكن بعيدا عن مكان اقامتها ... الشوارع نظيفة مرتبة والجو منعش والناس تسير بألية شديدة ولا أحد يلتفت للآخر .. اشتاقت منذ اليوم الأول لصوت بائع الفول ورائحة دخان الزيت .. لم يطل سيرها إذ سرعان ما وصلت وبدأت بممارسة عملها .. مر اليوم سريعا وفى المساء هاتفت أمها ولم تنس تقاسم الشهادة معها .. نامت بعدها دون قلق .

رأى زوجته تبتسم لها .. وحين استيقظ شعر بشئ غريب لم يستطع وصفه .. مزيج عجيب من التوتر والقلق وكانت دقات قلبه تتزايد بلا تفسير منطقى لديه ..
لم يملك إلا لمس قلادته والنظر بعينيه للسماء عله يجد الأجوبة !!
خرج مسرعا كى يهرب من هواجسه وركب سيارته وفى رحلة ذهابه لمح امرأة عربية تعبر الشارع فنظر بوجهها ودق قلبه بعنف .. وتسمر مكانه حتى كادت السيارة أن تنقلب به .. استفق بعد برهه ليجدها قد اختفت وليجد نفسه قد وصل لعمله وهو موقن أنه كان يتخيل ، ورغم يقينه إلا أن قلبه وعقله ظلا بحالة تمرد طيلة اليوم .
انتهى اليوم وعاد لغرفته ونظر للصورة الملعقة على الجدار وبدأ بالتهام ملامحها حتى ذهب فى نوم عميق ..
تعمد فى اليوم الثانى أن يسير بنفس الطريق ربما يراها ، ولما لم يراها تأكد من تخيله.
قرر أن يقضى أجازته فى سوتون حيث الطبيعة الخلابة التى سترحل به لعوالم أخرى .. أما هى فقد تصادف أن دعتها فاطمة لنفس المكان ...

وكان اللقاء الأول .. دهش حين رآها ودهشت هى لدهشته .. وما بين الدهشتين ولد شئ آخر ... شئ لا تعلمه هى ويعلمه هو ..
علمت فيما بعد أنه طبيب بنفس المشفى وأنه مصرى أيضا..

ربما لثانى أو ثالث مرة يذهب للكنيسة منذ أعوام عديدة ؛ ذهب ليشكر الله .. إنه الآن مؤمن بالله وبقدرته اللامتناهية .. "أيها الأحباء لنحب بعضا بعضا لأن المحبة هى من الله "نعم المحبة من الله تلك كلمات حُفرت بداخله وظل يرددها بين جنبات نفسه بل وأجراها على لسانه كى يتذوق حلاوتها ... لم يعد بحاجة للنظر للصورة لانه كان لا يخفض ناظره عنها حفرها بداخله كالنحات الذى يشكل من الصخور حيوات وحيوات ..

كأنها عرفته منذ قرون .. هذا ما شعرت به فى قرارة نفسها ... لم تصرح لكنها شعرت به يتغلغلها فى فترة وحيزة .. كانت تصطدم به فى كل مكان .. فى العمل .. فى الشارع .. فى المقهى .. فى الهواء الذى تتنفسه حتى صار جزءا من حياتها .. لم تعد تشعر بالغربة التى طالما صحبتها حتى فى وطنها ..
كان يجمعهما شئ عجيب غريب .. نظرة واحدة بينهما كانت تكفى لأن يرى وترى ...

مرت شهور الصيف أسرع مما تتصوروبدأ الشتاء يزحف بقسوته إلى لندن ومعه سحابة مرض علت وجهها .. كانت تشعر بوهن شديد وكأن يدا خفية استباحت جسدها .. وكأن يدا خفية استكثرت عليها تلك الفرحة التى لامست شغاف قلبها البكر .. لاحظت ذلك بعين الطبيبة واقشعر جسدها للفكرة التى مرت بذهنها .. لكنها هربت منها .. هربت إليه .. غاصت فى زرقة عينيه المختلطة بألم عشر سنوات ..

كان الشتاء بطيئا لكنه مر ومع مطلع الربيع وقفت معه على شاطئ التايمز ... منحته يدها لأول مرة فحملها ليضعها على صدره وبيده الأخرى مسح بضع قطرات عرق تصببت من جبينها .. لأول مرة بعد عام كامل تتحدث إليه : لما أنا ؟
: لأنكِ أنا .. منذ سنوات وأنتِ بداخلى أحملكِ فى سويداء قلبى .. خلقت معكِ كنتِ فكرتى وحين تحققتى لم اكن لأتخلى عنكِ تحت أى مسمى ... معا نقهر الحياة .. حين أُمسك بيديكِ ألمس السماء وأمتلك نجومها ...

ابتسمت لكلماته الرقيقة ونظرت لوجهه البديع وحاولت لملمة ملامحه ثم اغمضت عينيها فى إغفاءة طويلة ..

لم يتمالك نفسه ... ضمها إلى صدره واعتصرها بقوة شديدة ثم حملها كطفل صغير بين ذراعيه .. نظر بوجهه للسماء وصرخ صرخة مدوية ثم سقط بعدها على الأرض .

مرت سنوات طويلة والتمثال على هيئته قد أصبح مزارا للزائرين .. أما اللوحة الجدارية فحتى الآن معلقة على نفس الجدار تحمل صورة لامرأة عادية الملامح ... لكن عيونها صارت كزرقة السماء المحملة بألم عشرة أعوام .


مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى