الثلاثاء ٢٥ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠١٢
بقلم رامز محيي الدين علي

عرس الكائنات

ليس العرس عرفا اجتماعيا يقتصر على بني البشر.. وإنما هو فرح جماعي أو فردي تتشارك فيه جميع الكائنات على وجه البسيطة.. ولكل كائن أو مجموعة كائنات ديدنها الخاص الذي تعبر فيه عن الفرح والسرور.. وتقيم لأجل ذلك الفرح طقوسا لا تستطيع نقل وقائعها إلا عدسات الوجدان الذي صقلته الطبيعة وجعلته ينساب في شرايينها، ليشعر بنبضات الحياة في عروقها، ويستنشق أوكسجينها، فيصبح هذا الإنسان كائنا مثل جميع الكائنات يفرح لفرحها، ويحزن لحزنها، ويتألم لألمها، ويتكلم بلسانها..

في دبي بحيرة (الممزر) هادئة هدوء الليل، تترقرق مياهها عذبـــة، وتنعكس على صفحتها أضواء المدينة والشوارع، فتفتر لك عن ابتسامات تحمل شعاعات الفرح، كأنها في ليلة زفافها، وثمة تناغم بين النسمات الرقيقة التي تقبل وجه المياه، فتراها سكرى تترجرج على قبلات النسيم، وفي كبد السماء يلوح القمر كأنه نسي الدنيا وراح يرمي بنظراته إلى البحيرة، وكأن عشقا أبديا بينهما قد ولد وترعرع، ومما يزيد البحيرة بهاء وجمالا تلك الأسماك التي تتقاذف هنا وهناك، كأنها تراقص القمر وتداعب النسمات..

كانت أضواء الشارع المجاور للبحيرة تنعكس على صفحة المياه، فترسم أخاديد، وكأن محراثا قد شقق صفحتها.. يالجمال المشهد! بحيرة هادئة، نسمات ساحرة، ليل عاشق، قمر يتلألأ، ليتغزل بجماله ذوو الأحاسيس الشاعرية المرهفة.. هدوء وسكون آسر يجعل الأرواح تنساب في أعماق الوجود، وينطلق الفكر في توهج، بعد أن انتشى بسكرة التأمل والتفكر والتبصر!!
هذه البحيرة رائعة صادقة في مشاعرها، لا تعرف للبهرجة المصطنعة لونا.. ولا للتملق والزيف شعورا.. ولا للوثة الجبلة وكدر الكينونة قيد أنملة.. إنها في غاية الصفاء والنقاء.. في ذروة النشوة والصحوة.. في سؤدد البهجة و السرور.. في عرس ملائكي تتراقص فيه الأسماك طربا.. وتتمايل فيه المويجات مع النسيم العليل فرحا.. والقمر يعزف بضيائه أعذب سمفونيات الحياة.. وأضواء المدينة تصفق ابتهاجا بجمال الطبيعة.. وذرات الرمال الذهبية تستحم برذاذ الأمواج.. والناس حول البحيرة كل يغني على ليلاه، وأنا صامت أتأمل عرس البحيرة وأعيش بين كائناتها..

عدت إلى البيت واطرحت الفراش، ورحت أتأمل الكون بفكري ووجداني، لأستنضح ما فيهما من حكايات وقصص مرت أمام خاطري أو طرقت أسماعي.. دون أن أبالي بها ساعة حدوثها أو لحظة سماعها..

فتذكرت ذلك المشهد الغريب حينما كنت سالكا دربا من دروب قريتي صوب بستاننا المتربع على ربوة.. وفي الطريق وأنا أقرأ ديوان أبي القاسم الشابي وأردد قصيدته في الحياة:

وقـالت لـي الأرضُ - لمـا سـألت: أيــا أمُّ هــل تكــرهين البشــرْ?
أُبــارك فـي النـاس أهـلَ الطمـوح ومــن يســتلذُّ ركــوبَ الخــطرْ
وألْعــنُ مــن لا يماشــي الزمــانَ ويقنـــع بــالعيْشِ عيشِ الحجَــرْ
هــو الكــــونُ حـيٌّ, يحـبُّ الحيــاة ويحــتقر المَيْــتَ, مهمــا كــبُرْ
فـلا الأفْـق يحـضن ميْـتَ الطيـورِ ولا النحــلُ يلثــم ميْــتَ الزهـرْ
ولــولا أمُومــةُ قلبِــي الــرّؤوم لَمَــا ضمّــتِ الميْـتَ تلـك الحُــــفَرْ
فــويلٌ لمــن لــم تشُــقه الحيــــا ة, مِــن لعنــة العــــدم المنتصِـرْ!

طرقت مسمعي وشوشة، وسمعت أصوات العشب تخشخش، وكأن ثمة عراكا بين كائنين.. رفعت ناظري عن الديوان.. ووجهتهما صوب الجلبة، وأطلقت سهام فكري وخيالي في ذلك المحيط من الطبيعة.. وسمرت مسمعي، وكبحت جماح حركاتي، حتى أصور ما يدور أمامي من أحداث.. كان ما أراه زفافا بين ذكر وأنثى من أسرة الأفاعي بين ثعبانين أسودين..
الجسدان ملتحمان وملتفان حول بعضهما البعض كجديلة السمراء.. وقد انتصبا كأعمدة الآثار الرومانية.. والرأسان متقابلان يتجاذبان ثم يفترقان.. يتبادلان القبلات والهمسات واللمسات.. ثم يرتميان في أحضان الطبيعة.. واستمر العناق والتلاقح نصف ساعة بين العروسين.. وحينما أفرغا جام الهوى، وقضى كل منهما وطر الآخر، وأيقنا بانتشاء الروح والجسد، تفارق الكائنان وانسحبا بروية، ودخلا في جحر بين النباتات والأشجار، وانتهى الزفاف وتمت الحكاية..
العروسان كائنان حيان من الطبيعة في زفاف طبيعي، كل منهما يبادل الآخر كأس الغرام والهيام.. لا حساد ولا رقباء يعكرون عليهما ساعة النشوة والصفاء.. زفاف رومانسي لا تلوثه قرقعة الطبول ولا مزامير الأبواق ولا صخب أو ضجيج الآلات الموسيقية على مكبرات الصوت مع نقيق الضفادع البشرية..

مسرح الزفاف الطبيعة بما تتزي به من جمال إلهي وما تتحلى به من خضرة مرصعة بألوان الأزاهير.. والمدعوون لحفل الزفاف كائنات وعناصر من الطبيعة..

أما عادات وتقاليد الزفاف عند كائنات الطبيعة، فتختلف عن عاداتنا نحن- بني البشر- فلا أعراس ولا ولائم لا راقصات ولا مغنيات، لا شروط في الزواج من شقة فاخرة ولا سيارة حديثة ولا ذهب براق تتباهى به العروس، ولا شهر عسل في أفخم الفنادق، ولا شروط طبقية أو اجتماعية أو دينية أو مذهبية أو عرقية أو قبلية..

إن أعراس الكائنات وعناصر الطبيعة أكثر من أن تعد أو تحصى، ولعل أجملها زفاف الطيور والعصافير، فلها قصص وحكايات تتجلى في أبهى صورها في الربيع، حيث الدفء والجمال، وحيث النشاط والحيوية والانبعاث بعد رقاد الشتاء..

في فصل الربيع تقام حفلات زفاف العصافير والطيور، فينطلق الغناء ويعبق الجو بالتغريدات، ويتم الزفاف بين أغصان الأشجار في الحقول والبساتين وبين الورود والأزهار وعلى أنغام همسات النسيم وخرير الجداول والأنهار وحفيف أوراق الأشجار وبريق أشعة الشمس الذهبية.. سرعان ما يتوج كل زفاف ببناء الأعشاش الزوجية التي تتمخض عن بيوض ترقد عليها العروس، لتمنحها دفئا وحنانا.. إلى أن تنمو الفراخ داخلها، وعندما تكتمل دورتها في الحياة تشرئب الفراخ من قلب البيوض وتفتح عينيها للنور وتستنشق الهواء العليل..

وسرعان ما تتحول العروس إلى أم رؤوم تحتضن فراخها وتسهر على راحتهم وأمنهم وسعادتهم.. وتنطلق بين الحقول تبحث لهم عن قوتهم اليومي الذي يضمن بقاءهم واستمراريتهم.. إلى أن ينمو زغبهم وتنضج قوادمهم ويصبحوا قادرين على ممارسة الحياة بأنفسهم.. وهكذا تستمر الحياة..

ويبدو أن قصيدة الشابي التي كنت أقرؤها تتناغم مع فكري وخيالي تناغم النجوم في السماء، وتتسامر مع بنات أفكاري تسامر الطيور الحالمة مع ضوء القمر، فكل ما في الطبيعة يحس ويشعر ويتكلم، كما قال شاعرنا البحتري في وصف الربيع:

أتَاكَ الرّبيـعُ الطّلقُ يَختالُ ضَاحِكاً
مــــنَ الحُسنِ حتّى كــادَ أنْ يَتَكَلّمَا
وَقَد نَبّهَ النّوْرُوزُ في غَلَسِ الدّجَى
أوائِــــلَ وَرْدٍ كُــــنّ بالأمْسِ نُوَّمَــا
يُفَتّقُهَــــــا بَــرْدُ النّــدَى، فكَأنّــــهُ
نِـــثُّ حَــــديثاً كانَ قَبـــلُ مُكَتَّمَــا
وَمِــــنْ شَجَرٍ رَدّ الرّبيع لِبَاسَــــهُ
عَلَيْــــهِ، كَمَـــا نَشَّرْتَ وَشْياً مُنَمْنَما
 
أحَــلَّ، فأبْــــــدَى لِلْعُيونِ بَشَاشَةً،
وَكَانَ قَذًى لِلْعَينِ، إذْ كانَ مُحْرِمـا
وَرَقّ نَســـيمُ الرّيحِ، حتّى حَسِبْتُهُ
يَجىءُ بأنْفَــاسِ الأحِبّــــــةِ، نُعَّمَا

ففي فصل الربيع أعراس وحكايات فرح وقصص عشق لا تنتهي.. إنه موسم البهجة والسرور والحبور.. موسم زفاف الكائنات.. وانبعاث الحياة.. فكل عناصر الطبيعة تتراقص فرحا وتنتشي طربا.. وكل عنصر يعشق العناصر الأخرى ويمتزج معها ليرسم أبهى وأجمل لوحة..
انظر إلى الطبيعة الخضراء المزركشة بألوان الأزاهير المفعمة بأريج الرياحين السكرى بكؤوس قطرات الندى.. وقد تفتحت عيون الورود لتقبل أشعة الشمس الذهبية، وراحت زقزقة العصافير تمتزج بسقسقة المياه في الجداول لتعزف أعذب سمفونية موسيقية للحياة.. ناهيك عن همس النسيم وحفيف أوراق الأشجار وغناء الفلاحين في الحقول والبساتين..

ولا ننسى غناء الأرض للغيث المنهمر وعشق الثرى لحبات المطر وتراقص الأغصان والنباتات وهي تلثم شفيف الندى وتغرورق بالدموع فرحا بدفء الشمس.. ولكن الربيع مهما امتطى من صهوات المجد والعزة والجمال والكبرياء، فلا يمكن أن يعتلي عرش الجمال دون أن يكون للشتاء اليد البيضاء وللفصول الأخرى سجايا العطاء.. قال أبو تمام:

رقتْ حواشي الدهرُ فهيَ تمرمرُ
وغَـــدَا الثَّــــرَى في حَلْيِهِ يَتكسَّرُ
نَزلَتْ مُقَدمَـــة ُ المَصِيفِ حَمِيدة ً
ويــــدُ الشـــتاءِ جديـــدة ُ لا تكفرُ
لـولا الذي غــرسَ الشــتاءُ بكفهِ
لاَقَى المَصِيفُ هَشَــائِماً لاتُثْمـــِرُ
مَطَرٌ يَذُوبُ الصَّحْوُ منــه وبَعْدَه
صَحْوٌ يَكادُ مِــنَ الغَضَارة يُمْطِرُ
غَيْثَانِ فالأَنْـــوَاءُ غَيْثٌ ظاهِــــرٌ
لكَ وجههُ والصحوُ غيثٌ مضمرٌ
وندى ً إذا ادهنتْ بهِ لممُ الثـرى
خِلْتَ الســحابَ أتاهُ وهــــو مُعَذرُ

وتكتمل لوحة الطبيعة في دورة الحياة، ويمتزج الحزن بالفرح، وتختلط الألوان بين الظلام والضياء، بين الدجى ولألأة النجوم، بين الظلام وبزوغ الفجر، وتتهاوى الغصون والزهور والثمار، ويخبو جمال السماء، ويذبل سحر المروج تحت وطأة الرياح والضباب والثلوج والأمطار والسيول.. لكنها تظل حالمة بأنفاس الربيع.. وهكذا الحياة حياة الكائنات فصول متعاقبة سرعان ما تنتهي وتبقى الذكريات.. وتظل الأحلام معلقة بالربيع:

وفــي ليلــة مـن ليـالي الخـريف مثقَّلـــةٍ بالأســـــى, والضجـــرْ
ســكرتُ بهـا مـن ضيـاء النجـوم وغنَّيْــتُ للحُــزْن حــتى ســكرْ
سـألتُ الدُّجـى: هـل تُعيـد الحيـاةُ, لمـــا أذبلتــه, ربيـــع العمــرْ?
فلـــم تتكـــلّم شــفاه الظــــلام ولــم تــترنَّمْ عـــــذارى السَّـــــحَرْ
وقــال لــيَ الغــابُ فــي رقَّــــةٍ مُحَبَّبَـــةٍ مثــل خــفْق الوتــــــرْ:
يجــئ الشــتاءُ, شــتاء الضبـاب شــتاء الثلــوج, شــتاء المطــرْ
فينطفئُ السِّحرُ, سحرُ الغصـونِ وسـحرُ الزهــورِ, وسحرُ الثمرْ
وسحرُ السـماءِ, الشجيُّ, الـوديعُ وسحرُ المروجِ, الشهيُّ, العطِرْ
وتهـــوِي الغصــونُ, وأوراقُهــا وأزهـــارُ عهــدٍ حــبيبٍ نضِــرْ
وتلهــو بهـــا الـريحُ فـي كـل وادٍ, ويدفنُهَــا الســيلُ, أنَّــى عــبرْ
ويفنــى الجــميعُ كحُــلْمٍ بــــديعٍ, تـــألّق فـــي مهجــةٍ واندثــــــرْ
 
وتبقــى البـــــذورُ, التــي حُـمِّلَتْ ذخــيرةَ عُمْـــرٍ جــميلٍ, غَــبَرْ
وذكــرى فصــولٍ, ورؤيـا حيـاةٍ, وأشــباحَ دنيــا, تلاشــتْ زُمَـرْ
معانقـةً - وهـي تحـت الضبـابِ, وتحـت الثلـوجِ, وتحـت المَـدَرْ -
لِطَيْــفِ الحيــاةِ الــذي لا يُمَــلُّ وقلــبِ الــربيعِ الشــــذيِّ الخـضِرْ
وحالمـــةً بأغـــاني الطيـــورِ وعِطْـــــرِ الزهــورِ, وطَعـمِ الثمـرْ

إذن فالحياة لوحة تتشابك فيها المشاعر، وتختلط فيها دموع الفرح بالحزن، وتذوب فيها لحظات السعادة بأوقات الشقاء، ويخبو الأمل في ضباب اليأس، وتغيب الشمس في عتمة الليل، ويكفهر وجه القمر وتغفو النجوم بين سحب الشتاء، ويخلع الربيع أرديته الجميلة ويكفنها الشتاء بعباءته الداكنة، وتغرق حركة الكائنات في بحار الليل وصقيع الشتاء، ويمحي عزف البلابل والجداول تحت قصف الرعود وهدير المطر.. وتقضي الكائنات نحبها وتستمر الحياة بولادة كائنات جديدة.. ويظل القمر بين هلال وبدر، وتبقى الشمس بين شروق وغروب، وتستمر الطبيعة بين صيف وخريف وشتاء وربيع، وليل ونهار، بين حر وقر، بين دوران أو توقف لا يعلمه إلا من أبدع الكون بكل ما فيه من كائنات...


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى