الاثنين ٧ كانون الثاني (يناير) ٢٠١٣
بقلم حوا بطواش

ليلة الخيبة

وصلت الى مكاننا المعتاد في المقهى خمس دقائق قبل الموعد. جلست أتأمّل المارين عبر شباك النافذة وهم يسرعون، يركضون دون انقطاع، ويذوبون في زحمة الشارع تحت المطر الذي بدأ يتساقط خفيفا ليصبغ كل شيء بالرمادي. وبعد برهة قصيرة، أخذ المطر يهطل بغزارة، ضاربا كل شيء في المدينة، وهاجت رياح كانون مصحوبة بوميض البرق وقصف الرعد، وفي داخلي كانت الأفكار قد انطلقت تتنازع، تتصارع، تتلاطم. ترى، ماذا يريد مني؟ هل هو جاد حقا تجاه علاقتنا؟ إننا نلتقي منذ شهور، نتحدث عن كل شيء ما عدا... عنا.

منذ أن رأيته أول مرة وتعرّفت عليه عن طريق صديقتي منال، استيقظ في نفسي عالم مسحور. شيء ما بداخلي تحرك بطريقة عجيبة حتى تفجّرت بي أحاسيس هائلة هزّتني، جرفتني الى عالم جميل، بعيد، ساحر، حتى بتّ متعلقة به لدرجة أحسست لو غاب عني يوما بشيء ما ينقصني، وينسكبني ظمأ الشوق اليه. حتى صرت أحيانا أخاف من نفسي، من مشاعري المتطرفة، فأنا لم أكن متأكدة من مشاعره نحوي. فهل، يا ترى، يحسّ مثلما أحسّ؟ وهل يعرف بما أحسّ نحوه؟

جلست والحيرة تلف تفكيري وتولتني خواطر اضطربت لها نفسي. نظرت الى ساعتي. إنها أشارت الى الخامسة وخمس دقائق. خمس دقائق من التأخير حسبتها خمس ساعات. لا بد أنه سيأتي حالا، وسأراه يدخل عبر ذلك الباب الخشبي الكبير، وسيقترب مني بخطاه الكبيرة، الواثقة، وابتسامته المرحة المشعّة على شفتيه ستدغدغ مشاعري كما في كل مرة من جديد.

ما زلت أذكر أول مرة رأيته فيها. عرّفتني عليه صديقتي منال التي تدرس معه في نفس القسم في الجامعة. كنت قد انتهيت من محاضراتي في ذلك اليوم وجهّزت نفسي للعودة الى البيت. وإذ بي أتلقى اتصالا من منال على جوالي تدعوني الى فنجان قهوة وقالت: "معي مفاجأة."

"مفاجأة؟؟" تعجبت. "وما هي؟"

"سترين بنفسك حين تأتين. أنا بانتظارك." قالت وأغلقت الخط.

ذهبت دون تأخير الى المكان الذي حدّدته للقائنا، فرأيته معها. وحين اقتربت منهما، استدار إليّ موجّها نحوي نظرة فاحصة وامتدت ابتسامته الجميلة على شفتيه.

"أعرّفك على محمود،" قالت منال مشيرة إليه، "زميلي في الجامعة."

كان محمود وافدا من إحدى الدول العربية جاء لإكمال دراسته العليا. وكان شابا وسيما طويل القامة، نحيف الجسم، رشيق الحركات، وملامحه تضجّ بالنشاط والحيوية وفرحة الحياة.

جلسنا معا على فنجان قهوة، تعرفنا من خلاله على بعض، تبادلنا أطراف الحديث وأمضينا وقتا لطيفا وممتعا. وبعد أن تركنا محمود وبقينا أنا ومنال وحدنا، قالت:

"ما رأيك فيه؟"

"لطيف."

"ماذا لطيف؟ دعينا من لطيف. إنه رائع! ثم إنه وافد."

"ماذا يعني؟"

"يعني أن ذلك يزيده جاذبية. هؤلاء الوافدون مختلفون حقا، فهم رومانسيون ومرتاحون، لا ينقصهم المال، ليس مثل شباب بلدنا المعترين."

"كل بلد فيه الطيبون وفيه الخبثاء، فيه الأغنياء وفيه الفقراء..."

"حسنا. لن نتناقش في ذلك. سأدعك تتعرفين عليه أكثر وتدركي صحة كلامي بنفسك. ولكن، أذكرك، أن محمود يقيم هنا وحده، بعيدا عن أهله وأصدقائه ويحتاج الى شيء من الدفء والرعاية والحب ليخفف عنه وحشة غربته، وهذه فرصتك ، يا صديقتي، فلا تفوّتيها عليك."

ورغم أنني لم أهتم بكلامها الأخير، وافقت على اقتراحها فصرنا نلتقي أنا ومحمود بعد انتهاء محاضراتنا، نشرب القهوة في أحد المقاهي، نتجوّل في شوارع المدينة، ونمضي وقتا لطيفا، ثم نفترق وأعود الى البيت. وفي الليل، كان يتصل بي باستمرار، حتى تعوّدت على سماع صوته الرخيم، الذي كان يبعث في نفسي راحة عجيبة، وبتّ أستصعب النوم اذا لم يتصل.

استحوذ محمود على كل تفكيري وسيطر على كل كياني. أحسست بميول غريب نحوه، أتوق لوجوده الى جانبي... ثم... عرفت أنني، لأول مرة، وقعت في الحب!

في الخارج، توقّف المطر شيئا فشيئا وبدأت العتمة تتسلل الى الكون، تنثر الشحوب على المقهى هذا المساء، وبدأ القلق يتسلل الى صدري. لم يظهر محمود بعد. ترى، ما به؟ أين هو؟ ماذا يفعل؟ ولماذا لا يتصل ويخبرني أنه سيتأخر؟ هذه أول مرة يتأخر فيها بهذه الطريقة. ثم فجأة... خطر لي: أيكون قد انزعج مني الى هذا الحد ليلة أمس؟

سرت قشعريرة في أرجاء بدني واكتسح البرد كل جسدي.

ليلة أمس... كنت في شقته.

كان محمود غائبا عن الجامعة منذ أيام بسبب المرض. وكان راقدا في شقته الصغيرة المستأجرة التي طالما دعاني لزيارتها، ولم أكن أقبل. ولكن، بعد غيابه الطويل ورقوده في فراشه لأيام بسبب المرض، لم أستطع رفض طلبه... فقبلت أخيرا وذهبت لزيارته.

كان جالسا في الأريكة في غرفة الاستقبال. شكرني على عيادته بسرور وامتنان ودعاني للجلوس في الأريكة القريبة. جلست.

"كيف تشعر الآن؟" سألته.

"خفت الحمى. وعندما رأيتك... شعرت بالتحسن أكثر."

ابتسمت لسماع ذلك. "هذا جيد."

"ماذا تشربين؟"

"اهههه... لا شيء." تمتمت بتردد.

ولكنه ألحّ: "لا يجوز. فهذه أول مرة تكونين فيها ضيفتي. سأذهب لتحضير القهوة."

وهمّ أن يقوم، ولكنني أسرعت لمنعه: "لا، لا. إجلس أنت. أنا سأحضرها."

ذهبت الى المطبخ لتحضير القهوة. وعندما عدت الى غرفة الإستقبال ورأيت ابتسامته العذبة وهو يتأملني بعينيه العسليتين، الجميلتين، زايلني قلقي وشعرت براحة عذبة تستولي على كياني. وضعت صينية القهوة على المنضدة القريبة ثم أخذت أصب لنا القهوة. قدمت له فنجانه.

"سلمت يداك." قال.

وبعد أن فرغنا من شرب القهوة ومن الحديث... قمت من مكاني وأردت أن أعود.

فسمعته يقول: "لا تذهبي. ابقي قليلا."

نظرت في عينيه... دون رد.

رأيته يقوم من مكانه ويقف قبالتي، ثم قال بصوت هادئ أقرب الى الهمس: "اشتقت إليك."

أرخيت عنه نظري والفرحة في داخلي رقصت رقصة جنونية. لم أقل شيئا. عرفت أن عليّ الذهاب فورا. ولكنني لم أفعل.

ثم وجدته يخطو نحوي... حتى بات قريبا جدا. "ألم تشتاقي إليّ؟" سأل وعيناه تحدّقان في عينيّ، نظرته مسترجية كلها إغراء، ووجهه يقترب... يقترب أكثر... وأكثر.

"أنا... اهه..." بدأت أتمتم وقد ابتعدت عنه بخطوة الى الوراء، وصرت أحرّك وجهي في ارتباك واضح. "... لا ادري... ولكن... أظن... أنني... تأخّرت... عليّ الذهاب... الآن."

لم يقل شيئا، ولكن الخيبة ارتسمت في عينيه. خطوت الى الباب، وقبل أن أغادر، نظرت إليه، وكان ما يزال جامدا في مكانه، وقلت: "معذرة. أراك بخير."

وذهبت.

الساعة أشارت الى الخامسة وعشرين دقيقة.

ليتني أعرف ما الذي حدث؟ لماذا تأخر هكذا؟ إنها ليست من عادته. عليّ التحدث إليه. عليّ معرفة الإجابات على أسئلتي الكثيرة. لم أعد أطيق الانتظار. اتصلت على جواله فوجدته مغلقا. اجتاحني القلق واشتدّ اضطرابي ورفع الحزن رأسه الصغير في أعماقي.

ترى، هل سيأتي؟

متى سيأتي؟

ثم أومضت في ذهني صورته الأخيرة كما رأيتها في ليلة الخيبة، فأخذتني رجفة زلزلتني... ولم أعد واثقة أنه سيأتي.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى