الاثنين ٧ كانون الثاني (يناير) ٢٠١٣
بقلم جودت جورج عيد

حالة افتراضية وزقاق...

نزلت من سيارتها، حملت حقيبتها وحاسوبها الصغير، الذي صار كل عالمها، وهرولت نحو بيتها المعلَّق فوق سطحٍ أبيضَ ياسميني في آخر الزقاق، "سيناريو" يتكرر كل مساء حين تعود مرهقة، بعد يوم عملٍ مضنٍ في مكتبِ شركة للحسابات الذي تعمل فيه منذ تخرّجها من الجامعة قبل عشر سنوات ونيّف. تصل إلى شارع الحارة الخارجي الساعة الخامسة بعد الظهر، توقف سيارتها كل مساء في المكان ذاته عند زاوية داخلية قرب دكان أبو السّعيد، حتى صار المكان مخصصا لها وكأنه ملكا لها، فيعرف كل سكان الحارة تماما متى تصل وإذا استعمل أحدهم ذلك المكان، يدرك بأن عليه إخلاءه قُبيل الخامسة عند وصولها من عملها. تصل كل مساء، وتحمل في جعبتها حكاية نهار آخر تطويه في سجل "نهارات" متنوعة في ذلك الحي الذي صارت جزءا منه وصار وصولها في الخامسة يشكّل أحد الطقوس التي يمارسها فضاء المكان من اللحظة التي تنزل من السيارة وتحمل أغراضها وتبدأ مسيرة السَّبع دقائق بين البيوت القديمة والمرتفعة، تمر في ذات الزقاق الموصل بين الشارع وبين بيتها، وتعود كلَّ يوم لاجترار مشاهدَ كثيرةٍ فوق بلاط ذلك الزقاق.

تشاهد نفسها تعبر عالمَين في ذات المدينة، تخرج من الضوضاء وواجهات المحال العريضة والاكتظاظ، تأتي إلى زقاق تمتزج فيه روائح الأطعمة والصابون و"الكاز" لتنظيف الساحات الصغيرة أمام أبواب البيوت، تعبر قرب النوافذ الصغيرة المنخفضة تطل على الزقاق بتلقائية بدائية، تمرّ قرب باحة أم جميل الصغيرة، التي تكتظ بالقطط وكأنها تتحضر لمؤتمر القطط العالمي! تشمّ نفس الرائحة التي تنبعث من المقهى القريب، مذ كانت طالبة جامعية تلاحق الامتحانات وأكواب القهوة التي لا تنتهي حتى بزوغ أول خيط للفجر، تصعد بعض الأدراج لتصل إلى مدخل صغير، هناك يستقبلها باب منزلها بفرح ويحملها إلى الداخل كيفما هي بكل غبارها وتعبها.

قبل عقد وأكثر من الزمن لم تكترث للروائح ولم تكن ترى القطط تتزاحم في الباحة، فلقد كانت تعبر الزقاق بسرعة وهي تتمتم وتشتم الأطفال الذين يتراكضون في "عزّ الصيف" وفي المطر، بعضهم يجوب الزقاق ذهابا وإيابا بالدراجات وبعضهم يتقاذف الكرة وبعض البنات يلعبن "الحجّة"، كما يسميها أهل الحارة، ويتوقفون هنيهة قَسرية حتى تعبر وسط لعبتهم وينظرن إليها بشيء من الامتعاض، كانت تشتم تلك اللحظات وتردد قولها وأحيانا في صوت مرتفع، "لا أحد يدري أنني أعود مرهقة من العمل ولا أطيق هذه الجلبة، أريد أن أستريح بعد ذلك النهار المتعب".

تصل إلى بيتها لتغيب في سيناريو خاص بها، حيث تحضر العشاء وتتحدث هاتفيا مع والدتها، التي ما زالت تدعو لها بأن يوفِّقها الله بعريس فتحدثها عن فلان وابن فلانة، ولا تنتهي من العروض حتى تنهي المكالمة بشكل مؤقت، لتعود في نهار اليوم التالي وتستحضر ذات السيناريو مع إضافات وفق المناسبة أو الموسم، ثم ترتمي فوق الكرسي الكبير مقابل التلفاز بعد حمام ساخن يزيل غبار النهار عنها.
لم تكن تشعر بالمكان ولا بالزمان ولا ترى فيه غير بيت تعلَّقت به منذ تعلمت في الجامعة ويشكل بالنسبة لها نقطة الانطلاق والعودة في هذا البلد الكبير الذي يعجّ بالمتناقضات.

مرّ شتاءٌ بعد شتاءٍ ورسمت فصول السنة صورا كثيرة في الزقاق، و ما زالت تعود اليوم إلى بيتها نفسه، الذي صار المرفأ لسفنها الغارقة في نهار المدينة وصارت تتمعَّن في تفاصيله تحاورها وتتنفسها كجزء من طبيعتها. ما زالت تعبر ذات الزقاق، لكنها صارت ترى البيوت المعلَّقة وأحواض الورد على جوانب الزقاق، تسمع صوت وقع حذائها يدوّي في دوائر الصدى في فراغ المساء الحالم، تحاكي رائحة المقهى القريب بسكون وتهمس للمصابيح الصفراء التي تحتفل خلف ستائر البيوت، تسألها عن عطر البيت وعن صخبه، عن دفء البيت وعن رائحته... لا يمكن أن يغيب عنها أي شيء في هذا الزقاق الصامت حتى صار المرحلة الأكثر أهمية في يومها بين العمل وبين بيتها، في الساعة الخامسة مساءً وفي ذات المكان وذات الدقائق السبع التي تربط بين بيتها والشارع الخارجي، لكن! ليس ذات النص ولا المشهد، فليس هناك أي طفل في ذاك الزقاق الذي حملها هي وأحلامها وإحباطها وطموحاتها... لم تعد تسمع أغنية كان يرددها الأطفال الذين يتراكضون في الزقاق حين كانوا يلعبون، وكانت قد حفظتها عن ظهر قلب: "طاق طاق طاقية طاقيتين بعليِّة ورن رن يا جرس حوّل واطلع عل الفرس" وعلى قدر ما كان يزعجها هذا الكَمّ من الأجسام الصغيرة والمزعجة التي تتراكض حولها، على قدر ما تشتاق لأن تسمع هذه "الأهازيج" التي تبشِّرها بأنها قد وصلت إلى ملاذها فتشعر بالراحة، لم يعد في الزقاق أي طفل يلعب أو يتراكض أو يقفز أو يجوب الزقاق بالدراجة ولا حتى صوت لأي طفل في الشارع فكل الذين كانوا هناك ذهبوا وتركوا الزقاق لصمته ولوَرده ولصوت وقع حذائها الذي يضرب البلاط الرخامي، الذي وضعته البلدية مذ قررت تجميل البلدة القديمة.

لقد اختفى الأطفال خلف عالمهم الجديد الذي زارَهم منذ سنوات وابتلعهم من الشارع ومن دنياهم ومن ناسهم ومن ألعابهم وذهبوا في رحلة تطول وتطول ولا تنتهي ليكتشفوا فيها عالما مثيرا وتحدّيا جديدا كل يوم، ولم يعد لديهم أي متَّسع لِما يجري في الزقاق أو ما يجري مع ناس الزقاق، لقد صار لديهم ملاعبَ افتراضية وساحات فسيحة ومساحات من الانطلاق والغضب والفرح والتسلية والاندفاع وصار عالمهم ينحصر بكف اليد! يزاولون فيه كل ما يمكن وكل ما لا يمكن والاحتمالات لا تنتهي... فالعالم كله بين أصابعهم ليحتفلوا باكتشاف لا ينتهي للذات وللذات الأخرى... لقد دخلوا بيوتَهم المحاذية للزقاق وتركوا صيحاتهم كالأشباح التائهة في فضاء المكان، شيَّدوا برجًا ضخمًا من عالم مثير في قبضة اليد بصمت كبير يهز سكون الزقاق وسكانه...

وصلت بيتها بعدما عبرت صمت النوافذ وسكون الورد في الأحواض الصغيرة قرب أبواب البيوت، دخلت البيت وجلست على كرسي المطبخ الصغير الذي يطلّ على اكتظاظ البيوت الهادئة الصامتة لتحلِّق في تلك اللوحة الزَّيتية وتستنشق ما تبقى من رائحة مساءٍ يبعث شيئا من عطرٍ يدغدغ عالمها الذي يدور في دوائر افتراضية تختلط مع رائحة البيض المقلي والبطاطا ورائحة النعناع التي تهَيمن على شرفات الشاي المسائي...

توجَّهت إلى حاسوبها الذي يحمل كل أسرارها وأفكارها واستسلمت إلى ذاتها الأخرى بصمت وبشغف كبيرَين، ضغطت على رابط لتستمع إلى موسيقى فيفالدي ليصدح في الحي القديم المعلَّق ما بين الأرض والهواء والهوائيات والأسلاك الكثيرة، ذلك الحي الذي يعيش في دوائر مغلقة بين حاسوب وآخر... وراحت تبحث عن بعض المواد التي تحضرها لاحتفال نهاية العام الذي يحضرون له في الشركة، ولكنها بين كل هذه الأشياء كانت ترسل تعليقا في الفيسبوك إلى تلك و"لايك" إلى آخر وبينما هي منغمسة في عالمها الذي لا ينتهي وإذ برسالة تصلها من صديق، عبر بريدها الالكتروني، الذي كانت قد تعرفت عليه منذ مدة في إحدى المنتديات الاجتماعية على الانترنت وكما يبدو فإنه يعني لها أكثر من مجرد صديق، رغم بعده الجغرافي، فتلتقيه كل ليلة في مقهى خاص جدا يتسع لاثنين في مساحة شاشة الكمبيوتر ليقضيان ما يقارب الساعة في الحديث، هو من جهته يرتشف قهوته وهي، في الطرف الآخر، تشرب الشاي الذي أرسله لها هدية من بريطانيا، بعدما أبلغته مدى عشقها للشاي، وتحدثه عن العمل والناس وكل شيء ممل أو مثير أو أي حديث يملأ مساحة الفراغ الليلي، حتى تنام النجوم في السماء التي اعتزلت أجندة ليالينا مذ تحولت لقاءاتنا إلى "سماءات" تنحصر في مساحة الشاشة... صارت تدخل كل يوم في كون افتراضي تمارس فيه كل أحلامها وجموحها وهذيانها، تدخل مدارات تختارها هي، تهرب إلى اكتشاف ذاتها الافتراضية لتجد نفسها، ويتملكها الشعور بأنها تتربع على عرش العالم الكبير جدا وهو يتربع في قبضة يدها الصغيرة... تقوم من أمام الشاشة التي تمنحها كل شيء وتسلبها كل شيء وفي يدها الأخرى تحمل كوب الشاي، تعبر قرب التلفاز المغطى بستار حاكته لها جدتها لتتذكرها، تتعثر بكتاب كان قد وقع من الرَّف الصغير قبل أسبوع ونسيت أن تعيده إلى مكانه الأزلي، تتجه نحو الشرفة... لتحضر بعض وريقات النعناع من حوضٍ صغير زرعته في خابية الزيت الكبيرة التي تركها سكان البيت قبل مجيئها، جلست للحظات لترتشف ما تبقى من الشاي وتستنشق عطر الياسمين الممزوج برائحة ليلٍ افتراضي رطب يطلّ على زقاق الورد ما بين باب بيتها والشارع الكبير.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى