الأحد ١٣ كانون الثاني (يناير) ٢٠١٣
بقلم عبد الله بن أحمد الفيفي

الموسيقَى بين الشِّعر والغِناء

إن المكوِّن الموسيقيّ مكوِّنٌ فطريٌّ دقيقٌ في الجِــبـِلَّة الإنسانيَّة، يهبه الخالق، ضِمن مَلَكاتٍ أخرى، لمن قُدِّر له أن يكون شاعرًا من الناس، فيتربَّى عليه حِسُّ الشاعر على نحوٍ يفوق تربِّي الموسيقيِّ على الأصوات الموسيقيَّة. ولعلّ ذلك ينشأ عن ممازجة الموسيقى للمكوِّن اللغويّ، الذي هو مكوِّنٌ عضويٌّ في الإنسان، وليس بصنعةٍ تُكتسب. وتفوُّقُ الحسِّ الموسيقيِّ لدى الشاعر على حسّ المشتغل بالموسيقَى شواهده كثيرة، نكتفي منها بنموذجين عربيّين:

1- إنه لولا ضَعف الحسّ الموسيقيّ بإيقاعات اللغة، لما ساغ للموسيقار محمّد عبدالوهاب- مثلًا- أن يغنِّي شِعرًا مكسور الوزن، كما فعل في قصيدة (إيليا أبي ماضي) الرَّمَليَّة، حين غنَّى البيت:

ولقد أبصرتُ قُـدّامـي طريقًا فمشيت

هكذا:

ولقد أبصرتُ (أمامي) طريقًا فمشيت!

وتعليله لذلك أنها لم تعجبه كلمة «قُدَّامي»، لارتباطها في لهجته بما لم يستسغ، فما كان منه إلّا أن استبدلها- بكلّ جرأةٍ- بكلمة «أمامي»! وهذا تحكُّم لهجيّ لا معنى له، فكلمة «قدّامي» سائغة رائجة في ديوان الشِّعر العربي. والأغرب أن حِسّ عبدالوهاب لم يسعفه لإدراك الإخلال الموسيقي الذي ارتكبه في البيت بتغييره تلك الكلمة! وهو إخلال تمثَّل في صوتٍ واحدٍ ساكنٍ انحذف، بيد أنه قد قلب وزن البيت رأسًا على عقب. ما يدلّ على أن صنعة الموسيقيِّ تَقْصُر عن موسيقَى الشِّعر في حساسيتها. كيف لا، والصوت البشري كان آلة الموسيقَى الأولى، وإنما وُجد الغناء ونشأت الموسيقى تاريخيًّا في ظلّ الكلمة الشاعرة، ثم انفصلت الموسيقَى، فأصبحت فنًّا صوتيًّا قائمًا بذاته.

2- أمّا النموذج الآخر، فتجده لدى محمّد عبده، الذي كان يؤدّي (موّالًا) في بداياته الغنائيَّة من أبيات (ابن الفارض)، من البحر الطويل:

هُوَ الحُبُّ، فاسْلَمْ بالحَشا، ما الهَوَى سَهْلُ ** فما اخــــتــارَهُ مُضْــنًى بهِ ولهُ عَقْلُ
وعِــــشْ خالــيًـا فالحُــبُّ راحـــتُــــهُ عـــــَـــنـًــا، ** وأَوَّلـــُــهُ سُـقــْـــمٌ، وآخـِــرُهُ قـــَــتــْـــلُ
نصحْــتُـــكَ عِــلــْـمــًــا بــالهـَــوَى، والــذي أرى ** مُخالَفَــتي، فاخـترْ لنفسِكَ ما يَحْلـُـو

وكان يؤدّيها إذ ذاك بوزنها الصحيح، غير أنه تطوَّر- كما يبدو- حتى صار يُغيِّر الشِّعر من تلقاء نفسه، فيورد البيت الأخير: «نصحْتُك عِلمًا بالهَوَى والذي (أراهُ)...»! وبالطبع، فإن كلّ من له أذن موسيقيّة يدرك أن فنّاننا الكبير قد كَسَرَ البيت كسرًا نابيًا، أو بالأصح: مطَّه مطًّا أفسد وزنه. وإذا كان ذلك هو حال الموسيقيّين- بمن فيهم موسيقار الأجيال، كما يُسمَّى، وربيب أمير الشعراء أحمد شوقي، وكذا فنّان العرب، ذو الباع الطويل في عالم الموسيقى والإيقاعات والغناء- مِن عدم الاكتراث بموسيقَى الشِّعر، أو بالأحرى عدم إدراكها، فكيف بحال الذائقة الموسيقيّة اليوم ورهافة حسِّها لدى غيرهم؟!-[الكاتب: أ.د/عبدالله بن أحمد الفيفي، عنوان الموضوع: «الموسيقَى بين الشِّعر والغِناء»، المصدر: مجلَّة «اليمامة»، العدد2239، السبت 23 صفر 1434هـ= 5 يناير 2013م، ص35]،


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى