الاثنين ٢١ كانون الثاني (يناير) ٢٠١٣
بقلم هيثم نافل والي

على ضفاف نهر الأردن

قتلت في المقهى، نصف النهار بجلستي المعتادة شبه اليومية... مع صديقي الذي يلازمني أينما أكون(الكتاب) وقهوتي التي بردت بعد أن نسيتها بذهن شارد، وبلب مأخوذ، وبلون مخطوف، شاحب كلون الكستناء؛ وأنا أتأمل الحياة والكون صامتاً، سارحاً، كالمسحور في عالم قديم، يعود إلى زمن يوحنا المعمدان؛ الذي التقيته بعد أن سألت عنه بعض المارة وقسما من الكهنة الذين رأيتهم في الطريق بالصدفة... فأشاروا لي حيث يكون موجوداً، على ضفاف نهر الأردن وهو يعمد التائبين ويطهر قلوب الحاسدين، الخاطئين فرادى وجماعات...

كان الهواء حاراً، ممزوجاً بنسيم لطيف رطب... ابتعد بنا النهار قليلاً، اقتربت منه رويداً، كما يتقدم ميل الدقائق في الساعة، متردداً وخائفاً... لم أتمالك نفسي، فهيئته كانت تدل على الصرامة والوقار، انظر إليه بذهول وانبهار؛ في صوته رخامه، وفي حركته وسامه ورزانه، وفي طلعته صورة حمامة...

له عينان ناطقتان، تشعان رحمة، تخاطب الجموع بلا لغة أو إيماءه، تزران، وكأنهما تتحدثان، فتعطيانك شعورا بالأمان دون سؤال أو حرمان؛ قوي البنية، مفتول العضلات، عريض الصدر، فارع الطول، ولحيته التي غزاها الشيب الفضي البراق سريعاً، رغم عمره الذي لم يتجاوز الثلاثين بعد، يرتدي اللباس الأبيض الناصع، كالثلج؛ وهو يردد بصوت مسموع هادر أحياناً، وهامس في أحيان أخرى، وكأنه يخاطب الجموع بصوت جهوري حيناً ويسر نفسه حيناً آخر؛ والناس من حوله فرحين، مغتبطون، وكأنهم غير مصدقين، بأنهم في حضرة يوحنا المعمدان؛ وإذا أردت أن أصفه بدقة أكثر، سأقول دون رياء أو مبالغة، رأيته خليط من طبع( فينوس ) مانحة الحب والحياة، وبين( أبلولون ) مانح الفن والفكر( الآلهة الإغريقية القديمة)

رغم ضخامته وقوته، كان يتحرك بخفة الهواء، ورقة النسيم، في حين تنطلق منه رائحة زكية فيها عبق الشذا، وعصير الريحان؛ أرهفت السمع، فوصلني صوته الملائكي، وكأنه لحن موسيقي عذب... وهو يردد بين جموعه المتجمعة وهو مازال غائصاً حتى ركبتيه في الماء، سأقطع جذع الشجرة، إن كانت لا تدر ثمراً وأرميها إلى الأتون دون رحمة، واستطرد، حاجة الجاهل إلى الحكمة، كحاجة الأعمى إلى المرآة!! وأطلب منكم أن لا تهادنوا أو تتمهلوا في الحق أو على حسابه، رغم وعورته، وصعوبة ارتقاء ناصيته، وطريقه العالي الطويل، وأن لا تفعلوا ما يأمرونكم به أولئك من أبناء الأفاعي... أحرصوا على وعدكم إن على أنفسكم قطعتموه، إياكم والكذب، فالكذب رأس المعاصي كلها، وهو سيد الشياطين... ثم انتبه إلى وجودي، فأستغرب من هيئتي وهندامي الغريب عليهم، وربما لمح خوفي وتجهمي وترددي... فألتفت نحوي وسألني مباغتاً:

أشعر بأنك من قومي وعلى ديني، أليس كذلك؟!

أذهلتني فراسته، سرحت قليلاً، ثم قلت وأنا بالكاد أستطيع أن أجد الألفاظ: كيف عرفت؟

 دمك الذي أراه يسري في شرايينك، ولون سحنتك، هما اللذان أوحيا لي بذلك!!

 قلت بتفاخر حميم: صدقت.

 ارتسمت على وجهه، ابتسامة عذبة، ساحرة، وكأنها تعود إلى الشمس! وسألني بجد: هل جئت كي أعمدك؟

 ليس قبل أن أتحدث معك قليلاً!

 عن ماذا؟( قال ذلك وهو يهم بالخروج من ضفة النهر، بعد أن أنهى تعميد كل من حضر )

 باندفاع أجبته: عن ما تفعله... وسأحدثك بدوري عن ما آلت إليه الأمور من بعدك!!

 بوقار وصدق همس: اتفقنا، ثم أردف، فأنا أتوق لمعرفة أخبار أبناء جلدتي وما هم بفاعلون!! وتابع بتواضع عجيب، انتظر برهة هنا، وسأكون جاهزاً بعد حين( واختفى بين الأحراش والأعشاب التي كانت تضلل ضفة النهر )

ظهر ثانية، بنشاط وهمة وحيوية، كأنما لم يدخل الماء من قبل، ولم يعمد كل هؤلاء ممن حضروا للتطهير والتعميد على يده المقدسة، الرحيمة... وهو يسير بوقار وهيبة وبخطى رشيقة وئيدة، وكأنه ظل الله على الأرض، أو قبس منه.

جلست على الرمل المستوي الناعم، الذي تلألأت حباته نتيجة سقوط أشعة الشمس المنكسرة عليه، فبدا كالزجاج... ارتقى يوحنا صخرة كبيرة نائمة، مطمور نصفها في الرمل، تلك التي نحسدها لأنها لا تتأثر، ولا تهمها حياة أو موت! قبالتي، وقال برنة فيها خشوع وهيبة:

سل، ما جئت من أجله!

 ركبني الارتباك، وعقد الخوف والتردد لساني، ثم كسرت حاجز الخجل والرهبة، بدافع العلم، وقلت سائلاً: لماذا أنت هكذا؟ لا تجامل أو تهادن، تعشق الصرامة، وتكره السلطة، تحب الحركة وتنبذ الرتابة، لا تسكت على الباطل، ولا تدافع إلا عن الحق... وأضفت، إلا تخشى البطش؟! أقصد، الموت على يد الملك هيرود، مثلاً!!

 ضحك بفرح مسحور، وأجاب: أراك صافي النفس، كماء النبع... ثم استدرك، الخوف والموت يولدان مع الإنسان ويكبران معه، وما من قوة على الأرض تستطيع أن تفصل الإنسان عن هذان الماردين أبداً... وتابع بعد وقفه، يا أخي، يا أحد أبناء جلدتي الطيبين، ترى لماذا الخوف من الموت؟! أليس هو الجزء الآخر من الحياة؟! أعني الجزء المكمل للحياة، فلماذا نهابه أو نحسب له حسابه؟ وتابع بعد لحظة سكون:

مْن ذا يستطيع أن يتلافى الموت أو يدفعه عنه، إذا أتى؟! فموعده موقوت، وحينه محسوب ومقدر، وكل شيء في أوانه جميل! رغم اعتراضنا غير المقبول وغير المبرر عليه في بعض الأحيان، لمجيئه المفاجئ والذي لا يروق لنا نحن البشر الفاني، ولكن هذه هي فلسفة الحياة والموت وسر عظمة الكون وإرادة الله التي لا تقهر؛ ثم أضاف بزهو، والموت من أجل قضية ما عادلة، يكون الحياة بأسرها لا تعادل تلك الوقفة أمام الظالم، القاتل، وهو يعلم بأنه سيقتل ورأسه منتصباً وقلبه لا يخفق إلا بالحق والاعتداد والسمو... لأن التاريخ سيخلد ممن سار على هذا الطريق الوعر... وأمثلتي على ذلك كثيرة، وبالتأكيد قد قرأت عنها أو سمعت بها، ثم فاجأني بسؤله:

ألم تقل بأنك جئت من المستقبل لتراني؟! إذن أنت تعرف الآن أكثر أسراري...

 أجبته سائلاً بذهول( نظراً للغة التي كان يتحدث بها، والطلاقة التي كان يتمتع فيها ) :

اختلفت الروايات بذكر شخصك وشأن حياتك، كما أن هناك ملل وطوائف( توقفت للحظة ) ثم أردفت، لأكون صادقاً، صريحاً معك، هناك ديانات تقول بأنك رجلهم!! وتمادوا حتى باتوا يقيمون احتفالات سنوية لذكراكم؟!

 زرني بنظرات عميقة، أطرق قليلاً وقال برقة ظهر فيها الجد والاعتداد سيداً:

هذا ليس بصحيح. فأنا لي تلاميذي الذين عمدتهم، وأخذوا عني الحكمة والفلسفة التي سيزرعونها في أجيالهم من بعدي، وهم لا خوف عليهم ولا أنا بحزين، ثم استطرد بخفة وسلاسة، الدين رسالة، والرسالة لا تموت... وتلامذتي هم الذين سيحملون رسالتي من بعدي، ويؤمنون بتعاليمي خلقٌ كثير، وسيتوقف التبشير فيما بعد، ولكن سيأتي اليوم الذي يبدأ فيه الكسب من جديد، ولكن بشروط قاسية، وربما تكون موجهة فقد إلى الذين ظلوا طريقهم وانسلخوا، ولكننا سنحميهم ونرجع إليهم أبصارهم من بعد عمى وظلال، وإننا من ذلك لمتأكدون، وستعلم ذلك في حينها وتقول، كنا من الصادقين.

 اعذرني على أسئلتي المحرجة، ولكني لم آت إلى هنا وأسأل عنك وأتحمل عناء وشقاء السفر، إلا لكي أعلم وأحصل على المعرفة التي تجعلني أتسلح بها وأواجه فيها أعدائي، ثم تابعت بسريرة متعبة، متشنجة، مهزوزة، مختلطة بين شعور من التفاؤل والشك وبين أحساس مر سقيم من السخط والإهمال، نحن اليوم في حيرة من أمرنا، كمن أضاع الطريق في مجاهل الأرجاء دون رجاء، ولا نعلم عن ماهيتك الكثير، حتى أسرتك، بما فيهم أولادك نجهلهم تمام الجهل، كما هو مولدك وسيرة حياتك؟! كلها أمور نشقى من أجلها ونتعذب بسبب غيابها عن معارفنا وإدراكنا!!

 رن بصوت، ارتجفت له أوصالي، واهتز من مكانه قلبي:

لا تقل مثل هذا الكلام، فديننا الصابئ، المندائي حي قيوم، خالد لا يفنى أو يزول، تعاليمه صريحة، ووقعها على النفس مريحة، لا تحب التأويل وتدعو إلى السلام وتتأمل الطبيعة وتحترمها كما تقدر صدق ونقاء سريرة الإنسان؛ ما فيها نشاز أو ظلم أو هوان... ثم أطرق ورأسه يتجه إلى السماء وأردف، ولكن حياتي وسيرتي هي ثوابت عليكم أن تعلموها، فلماذا هذا التخوف أو التهاون في شأنها؟! إذ ما من رسول أو نبي لا تعرف سيرته، وتحكى بطولاته ومعجزاته للأجيال من بعده، ناهيك عن حكمته وفلسفته... إذ يجب أن لا تصمت الألسن من ترديد اسمه؟! فكيف هذا الذي تقوله؟ إني مستغربٌ حقاً!! ثم عدل من جلسته وهندامه وهو مازال يعتلي الصخرة النائمة، الغائصة في الرمل حتى منتصفها دون أن تنزعج من حديثنا الناري هذا، وأردف منزعجاً، عجباً، أليس هناك سيرة حقيقة، واقعية تجسد حياتي وتتحدث عن أعمالي؟!

 حسب علمي، كلا... قلت له باستحياء وخجل، واستطردت بذات الشعور، وإن وجدت، فقشرها خيال ولبها أسطورة!!

 سرح في رحاب ليس لي علم به، ثم حول رأسه نحوي وسألني مستدرجاً، بانكسار وضيق وهم:

أنا أستغرب حقاً لمِا أسمع، إنه أمر لا يصدق، مخز، لا يستسيغه العقل ولا يرضى به الناموس، ثم تابع:

هل هذا هو قدري؟ وما كتب الله علي؟ أن أحيا محارباً وأموت فينسى أهلي قصتي وحياتي وتضحيتي؟! وخفض رأسه وماله على كتفه، مغموماً وكأنه يريد النوم، أو الاسترخاء... فهو لم يتعب ولم يجهد عندما عمد العشرات قبل قليل... لكنه أحسن بالهوان والعذاب، عندما صدم بمعرفة الحقيقة الخجلة التي نعيشها نحن أبناءه من بعده، الذين نجهل أبجدية سيرته الخالصة، الدقيقة العارية من المبالغة، فآلمه ذلك أشد الألم.

 شعرت بأنني قد قسوت عليه حتى أصبته في نخاع العظم، بمأساتنا المريضة المستفحلة!! فواسيته بكلمات لم أجد لها معنى عميقا، لكن الموقف كان صعباً، والحديث فيما بيننا قد تطور حتى الشعور بالحزن والألم، وهذا لم يكن في حسابي، ولم أذهب بشأنه، فصرحت له عن وجداني بشكل مكشوف، مفضوح وقلت:

أنا أذكر لك فقط، ما نحيا وما آلت إليه نفوسنا من بعدك، أرجو أن لا تتضايق مما تسمعه مني، فأنا لم آت إلا من أجل المعرفة والعلم بالشيء، بعد أن صعبت وذاقت بي سبل الحصول على المعلومة الصحيحة!! ولو وجدتها في حياتي وأرضي التي أحيا فيها، ما كنت قد فكرت بإزعاجك لأفرض عليك الاستماع لفضولي، وربما لتفاهتي!

 بوجل وتعاسة سألني: وماذا بعد؟ ثم أضاف بعد أن بان القهر على محياه، حدثني قليلاً عن حياتكم... هل مازلتم تحبون بعضكم البعض؟ هل مازالت الطقوس والمراسيم تتبع؟ هل هناك قيادة رشيدة، حكيمة تجمعكم؟ هل تسكنون في بقعة واحدة من الأرض؟ أم هناك أمورا لا تحب أن تحدثني بها؟ لأنك ربما تشعر بأنها ستضايقني، وتجعلني غير سعيد حتى بعد مماتي؟!

 ماذا أقول؟! ترددت وأنا أشعر بالعجز، حيال مثل هذه الأسئلة... وفضلت الصمت والسكوت.

 لماذا لم تجبني؟ ثم أضاف، لقد أقلقتني عليكم حقاً!! أرجوك قل كل ما يدور في عقلك هذا المتفتح الذي أراه مثالاً للصدق والوفاء، فأنت وكما قلت لم تشق في المجيء إلا من أجل المعرفة، وهذا بحد ذاته أمرٌ هام، خطير الشأن، له دلالات عميقة ووقع عظيم في نفسي، ثم نبر، قل ولا تخف...

 غمغمت ساهماً، خجلاً: في الحقيقة... أقصد أمورنا تسر ولا تسر!! تفرقنا في أرض الله الواسعة، غير أرض أجدادنا، سعياً في حياة كريمة، حيث السلام والحرية واللقمة النظيفة... ولكن زاد النفاق وطغى على السطح بشكل بشع، كشيطان مخيف، بمخالب نسر شرس جائع، قل التسامح فيما بيننا، وتكدرت الألفة وبات الحب يختنق بالعبرات وهو يودع نفوسنا...

ولم أنبس بعدها بكلمة أخرى، بعد أن شعرت بأن قلبي يعتصر وروحي تحتضر، ففضلت الصمت عن النطق والتبحر، وامتنعت عن الحديث مرة أخرى، حباً لشخصه الكريم، العزيز وخوفاً عليه من الضيق والكدر.

 همس يرجوني لمواصلة الحديث، وهو يقول: يا بني، ما ستقوله لي الآن، سأفكر في أمره، وربما أعطيك نصيحة أو أقول لك ما ستفعله وتنشره بين أخواتك وأخوتك في العهد... ثم أردف، قل ولا تجعلني أكرر طلبي أكثر من مرة.

 خرج الكلام من فمي منتشراً، كرذاذ الذي يعطس، فقلت:

تبعثرنا، وتقطعت فينا سبل التواصل والاندماج، إلا بشق الأنفس... اختلفت لغاتنا، وبات أولادنا يرطنون بلغات عدة، ليس هناك سبيل من توحيدها...

 قال، كالمخاطب نفسه: سوف لن تتوحدوا إلا باستقراركم في أرض محددة، محايدة، واحدة، كوطن أم، آمن، عندها فقط تستطيعون أن تزرعون في أبنائكم مع يصعب عليكم زرعه وأنتم متفرقين هكذا، كشعب طرد من دياره!! ثم حدجني بنظرة متسائلة، حادة وأردف:

ما المانع من هذا التجمع؟ أليس لكم قيادة تقوم بعمل ذلك؟! على الرغم من صعوبة الموقف وكما فهمت، لكن ليس هناك شيء مستحيل، والمحاولة لابد منها، خاصة عندما يتعلق الموضوع في أبنائنا، حملة راياتنا وعصارة فكرنا، والأجيال هي الجسر الذي يعبر من خلاله الدين إلى ما شاء الله له أن يحيا...

 أجبته بجد وصدق: لنا قيادة، حكيمة، رشيدة... وما تقوله عين الحق والصواب، ولكن صعوبة الأمر، وتشتت أبنائنا زاد من الأمر سوءاً، ثم ملأت عيني من رؤيته وأنا أطوف بسماء محياه، واستطردت بحماس منفعل:

المشكلة هي الرعاية الموجهة المفقودة، أقصد عدم وجود المؤسسات التي ترعى الأدب المندائي، وتدعم البحوث التي تنور الناس بثقافة هذا الدين المعرفي العظيم، وعدم وجود دور ترعى الثقافة والفن والفنانين المندائيين الذي يتوجب احتضانهم ورعايتهم... كأن تكون هناك دورا للنشر، أو مطابعا تتابع الحركة الفنية والثقافية وكل ما تغني الفرد المندائي وتزيد من وعيه وإحساسه وشعوره بنبض الحياة وهي تدق في قلبه... كي يشعر بانتمائه، ويعتز ويفتخر بدينه وقومه... ثم نوهت حزيناً، قائلاً، لكنني سأوصل لهم توصياتك هذه بحذافيرها، لعلهم يدركون، فيعملون ما نحن بحاجة ماسة له.

 أرجوك قل لهم ذلك، خوفي لن يكون عليهم فقط، بل التهديد الأعظم في الجيل الثاني، وليس جيلكم أنتم!! ترى ماذا ستفعلون عندها؟! بعد أن يفتقدون إلى لغة التفاهم فيما بينهم؟! ثم استغفر ربه، متألماً، مطرقاً، حزيناً وهم واقفاً، والشمس قد زحفت وانحسرت تريد توديعنا، لتذهب إلى العالم الآخر من جهة الغرب، لتوزع عليهم بسماتها التي لا تنضب... فرأيت جمرتها الكبيرة وهي تسقط على سطح النهر الصافي، الوديع، وهو يتوهج حمرة، خجلاً، لاحتضانه تلك الجمرة المتقدة، وهو يشعر بسرور وخيلاء لهذه اللحظة التي لا تغني عنها كل كنوز الأرض، في حين توهج الأفق، وبدا حريقاً هائلاً يتسلق هامته والشمس فرحه، جزلا بهذه الطقوس المقدسة التي تحييها كل يوم، دون أن تشعرنا بضجيج أو صخب... نزل يوحنا من على الصخرة، وهو يهمس لي بطيبة:

حان وقت رحيلي، سأتم طقسي في ضفة النهر التي تلمع، كالذهب وأذهب...

وقبل أن يختفي، قال:

وصلّْ لأبنائي سلامي وأمنياتي لهم بالنجاح والسعادة الخالصة، وقل لهم بأنني معكم في كل والأوقات، ولا تفعلوا إلا ما أوصيتكم به، وأن لا تتركوا الذين انسلخوا ظلالاً، وأن تحاولوا معهم مراراً... أن تستقطبوهم مجدداً، فهم قلة، لكنهم كثرة، وأبناؤهم مسؤوليتكم، والعقد يجب أن لا يتفرق؛ والمندائي عقد، خرزه من ماس... ثم سار برفق ورشاقة وهيبة، حتى اختفى، كما يختفي الدخان... ولم أتعمد!! لأنني وفي تلك اللحظة فقط، وعيت على نفسي، وأنا مازلت جالساً في المقهى، غارقاً، شارداً في عالم كم تمنيت أن أزوره... وكتابي المفتوح أمامي ينظر لي بفضول واستغراب، وكأنه يسألني:

أين كنت؟ ومع من كنت تتحدث؟ وقهوتي التي جف ماؤها الأسود وهي مستقرة في فنجانها الزجاجي العتيق، الذي لامست حافته من قبل الكثير من الشفاه، قبل أن تلامسه شفتاي... فهمست في سري، مودعاً النبي الذي أحببت، وبه الذي اعتقدت وصدقت وآمنت.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى