الاثنين ٤ شباط (فبراير) ٢٠١٣
بقلم فاتن رمضان

الطوفان

قصة قصيرة

القصة من مجموعتى القصصية إيقاعات سريعة المنشورة عام 2004

وقفت وحدى أشاهد السفينة العظيمة التى حمّلها بصنوف الحياة الهاربة من معركة الموت ، ارتكنت جانبا حينما بسط الشرع وجلست أراقب المعركة بشغف شديد ، هبت رياح عاصفة أطاحت بشعرى إلى الوراء وداعبته مداعبة ثقيلة رجف لها قلبى وجعل السكون يفر منه ... بضع قطرات تمس جسدى النحيل فتلهب نيران الحياة به ، وتجعله تائها بين السقوط والنجاة .. بضع قطرات تهمس فى أذنى فيسجد جسدى لصوت الكون :

( فى غياهب اللاوجود خلق الله العلقة ومعها النور وبداخلها سر أبدى .. أمر الموت بأن يتعلق فى رحم الأرض فينهش كل الكون إلا علقة نوح .. فلتحيا مادام الله يريد )

أصابنى الزهد فى المشاهدة فأشحت بوجهى الذى انعكس على سطح المياة واستغرقت فى تأملى فيه مدة طوبلة وسرحت بفكرى عبر آلالاف السنين .
كانت الشمس قد قاربت المغيب ورست السفينة ؛ فلفظنا حوت يونس معا على أرض الحياة عند الفجر .. لم تكن ملامحنا قد تكونت بعد ..

زهرة ما نمت بيننا .. منحتنا صبحا جديدا ، ثم تحولت الزهرة إلى جدار اصطدمت به .

ارتد بصرى إلى المرآة ، أرى بضع شعرات بيضاء قد زحفت إلى رأسى إيذانا بهروب الشباب .. ينصحنى الأصدقاء بصناع الجمال فأرفض فى البدء لكنى أخضع لأنى أحلم بالنهار .. اتساءل فى عجب : هل ترى يعود العمر لمجرد الأمنيات ؟؟
ابتسم واجيب هيهات .
تزدحم شوارع مدينتى رغم برودة الشتاء وقسوة الليل .. أمهد أرضى وأبذرها ويمر العمر ولا تزهر ..
أمضى لعملى وفى الصباح أراها كعادتها تحمل مكنستها وتحيطها هالة ترابية منظومة الصفوف تستعد للتعلق بمن يقترب منها .
أحييها - وأنا حريصة على إبقاء مسافة بيننا -وهى مشغولة فى عملها الصباحى ..
تتوقف للحظات لتسألنى عن مفتاح الغرفة فأجيبها : ليس معى
تمط شفتيها وتتم بكلمات لا أفهمها وتعود للعمل مهملة إياى غير مكترثة بأن ناظرى ما زال معلقا بها ، أمضى ويمضى اليوم وهى ماتزال تصحب مكنستها وهالتهاومعها قوت صغارها وتجتهد باحثة عن المفتاح حتى تجده ، فتدخله الثقب ومعه يدق القلب .. يحيا ويموت ؛ فالأفراخ صغيرة والرحلة طويلة .
تدخل الغرفة ومعها المكنسة لتتصاعد الأتربة مرة أخرى وهى وسطها – صار المنظر مألوفا -.
تنتهى لتبدأ بجمع قمامتها والتخلص منها ثم تسوقها قدميها إلى دورة المياه فتنفض بعض ما علق بهذا الجسد النحبل وترتدى جلبابها الأسود وتعصب رأسها وتمضى للسوق .. بضع قروش تكفى .. تفترش الأرض وتجمع الأحباب ويمر اليوم ويأتى آخر ، فأراها فى لوحتها المألوفة وأتسائل متى تستيقظ تلك المرأة ؟؟
أكاد أجزم أنها لا تنام ... تتكرر مشاهد الأمس ، لكن أحد الزملاء يصرخ : بأن نقوده ضاعت بالأمس ، يلطم الوجه ويخرج الجيوب الممزقة فتلتف الأعين حوله ونعلم أنها كانت فى الغرفة بالأمس ، تتجه الأعين لها ويأتى الطوفان لكن الأدوار تتغير فتشيخ وتكبر ... تتقوقع ... تتذكر فلذات الأكباد .. تلمح الصغار فتبكى بالدم ..
أرى ذلك ولا أتكلم .. لا أقف بجانبها .. أبعث لها بسهم من عندى ..

أحن لنوح وسفينته والحوت والشعر الأبيض والأرض الطاهرة ...

أغمض عيناى .. ولكن .. هيهات .

قصة قصيرة

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى