الجمعة ١٥ شباط (فبراير) ٢٠١٣
اللغة والشعر بين خصوصية
بقلم صالح الشاعر

الاستعمال والإدلال بالقوة

إن تعاطي الشاعر مع اللغة يتم من خلال رؤيته لها وحواره معها، وكما أن الشعر كلام موسيقي ففي الموسيقى يفرق بين التوزيع والتنفيذ، المنفذ يخرج ما هو مكتوب في النوتة كما هو من غير إضافة، ولا تكون له رؤية خاصة ولا أسلوب يتعامل به مع عناصرها، أما الموزع فهو يهذب ويضيف ويقدم ويؤخر ويستبدل، وهكذا لغة الشعر لا تكون عارية كما هي لغة النثر، بل لا بد فيها من مخالفات حتى يحس الشاعر بأنه شاعر، يستفز اللغة، ويخرج منها ما يقدر عليه من طاقة، ولولا هذا لما بقي لقائل مجال.

كيف يُكتَب الشعر؟

وكتابة الشعر ـ عمليًّا، وفي بدايتها خصوصًا ـ ليست واقعة تحت سيطرة العقل الواعي؛ إذ الشعر كالولادة، لها موعد دقيق لا يُقدَّم ولا يؤخَّر، وإذا حاول الشاعر أن يقسر نفسه على كتابة الشعر خرجت القصيدة مسخًا مشوَّهًا.

فالشِّعر "يصنع نفسه بنفسه، وينسج ثوبه بيديه وراء ستائر النفس"(#)، والشاعر "يتطلع إلى جزء من العالم، ويمارس جانبًا من الحياة ... ثم يحيل هذه المشاعر والأحاسيس ... إلى كائن حي ذي وجود سرمدي"(#).

ويقترح بعض النقَّاد أن القصيدة تبدأ عملية خلقها داخل العقل "كنوع من الإيقاع الذي لا يكاد يستبان مدلوله"(#)، وهنا نجد شاعرًا مثل الصيرفي يقول عن بداياته: "كنت أترنم بكلمات أحاول أن أربطها في أسماط موسيقية وإن كانت لا ترتبط معانيها ولا أفهم غاية منها ولها، ومن هذا العبث كانت المحاولات الأولى في كتابة الشعر"(#).

استعمال اللغة في الشعر:

يُعنى الشاعر ـ على وجه الخصوص ـ " بما تعكسه الكلمات من ظلال، وهي الخاصية ذاتها التي يهتم العالم بإهمالها "(#).

" فالكلمات في الشعر مثيرات وجدانية، تتحدث إلى الروح مباشرة، بما أوتيت من قدرة على الإيحاء، والشاعر في اختياره للكلمات يحرص على أن يحطم ما درج عليه الناس من صور تقليدية (#)"؛ لأن الألفة تقتل الإبداع، والاعتياد على الشيء يُفقد الإحساس به، والإبداع محتاج إلى القلق، بل هو ابن القلق، وهناك صفتان ملحوظتان في الشعراء المبدعين هما: النسيان السريع، بمعنى نسيان الشعور لا نسيان الأحداث، والاضطراب أو التقلب النفسي.
والاستعارة والتشبيه نموذجان شائعان من صور تمرد الشاعر على الانطباعات الراكدة، وهما حيلتان يستعين بهما على تحطيم الصور القديمة المستهلكة وتعويضها بأخرى أكثر حيوية(#).

المخالفة والصراع والإدلال بالقوة:

ربَّما أستطيع أن أقول بكل ثقة: إنني لا أستطيع أن أكتب قصيدة لا تحاورني ولا تفصد جبيني عرقًا، ولا أستطيع أن أتحرك داخل القصيدة من غير قيود، إن قصيدة بلا قواعد هي قصيدة رخوة لا تنفذ إلى عقل المتلقي وقلبه، ولا تحرك فيه عقلاً ولا وجدانًا.

بعض اللغويين والنقاد يتهمون الشعراء بمخالفة القواعد اللغوية، وتجاوزهم للمألوف منها، وهنا تجب التفرقة بين نوعين من المخالفة، فهناك مخالفة مقصودة لا تخلو من وجه يصلها بالمستقيم المطرد في حساب اللغة، ومخالفة لا وجه لها تكون بسبب ضعف الملكة.

أمَّا المخالفة التي تكون بسبب قوة الشاعر فهي في الواقع نتيجة لصراع الشاعر مع أدواته، وأهم ما يتصارع الشاعر معه ثلاثة أشياء: اللغة (بنظاميها النحوي والدلالي)، والموسيقى، والصورة، وإذا توصَّل الشاعر إلى صورة منسجمة مع الموسيقى فهو لا يتردَّد في مخالفة الأنظمة اللغوية، ولكنه يخالف من أجل أن يوافق من جهة أخرى، ويهدم من أجل البناء، وما من شاعر يتجرَّأ على كسر معلوم من اللغة بالضرورة، فاللغة هي مادته التي يعمل فيها وبها، والشاعر الحق يعتبر اللغة بيته، وحديقته، وبنته، ولا يقبل فيها إلا ما يزينها ويزيدها بريقًا وجمالاً.

نقرأ بيتًا للمتنبي فنجده يقول فيه:

فإن يك بعض الناس سيفًا لدولةٍ
ففي الناس بوقات لها وطبول

و(بوقات) جمع لـ(بوق) لم تسمع به العرب، ولم يكن شيء يمنعه أن يقول (أبواق) ويسلم من الذم، لكنها شهوة المخالفة، والإدلال بالقوة، وإحساس الشاعر بامتلاكه للُّغة لا امتلاكها له.

كذلك بيت الفرزدق الذي يقول فيه:

وإذا الرجال رأوا يزيد رأيتهم
خضع الرقاب نواكس الأبصار

نجد كلمة (نواكس) مؤنثة، غير مطابقة للتذكير في (الرجال)، وقد كان يستطيع أن يقول: (وناكسي) ويسلم له الوزن والأسلوب، لكنه أتى بها على هذه الصيغة عمدًا؛ في إشارة إلى أنوثة الرجال وخضوعهم لدى رؤيتهم يزيد على حد زعمه، مما يستدعي وصفهم بـ(نواكس) جمع (ناكسة) المؤنث، وهكذا يتبين أن ما يبدو خطأً لغويًّا قد يكون مقصودًا من الشاعر لوجهة يريدها ويقصد إليها.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى