الخميس ٢١ شباط (فبراير) ٢٠١٣
بقلم رشا السرميطي

اقتصاديات الكلام

ربما هو الانزعاج من ضوضاء الواقع، وتلك الأصوات المتصاعدة من حولي، كما الأبخرة، ما إن ترسم صور الدُّخان، حتَّى تتلاشى، ويختفي ظلُّ الحرف الصَّامت، عندما يحلُّ ميقات الأفول، وتتلاشى الأفكار بثباتٍ، فتتوقف ساعة الحديث عن الكلام. لقد سئمت الاستماع لهذه الفوضى الصَّوتيَّة، وذاك الصُّراخ المتكرِّر، بل، وتلك الوشوشة التي تسترق الإنصات على مسمعي، في وسط الضَّجيج، بوقاحة جليَّة، لأصداء باتت غريبة. أستهجن تلك الكراكيب، وذاك الخوف المترامي في زوايا النَّفس التأمليَّة. إذن، هو موقف، وتهيئة نفسيَّة، لاتخاذ قرار جديد! هل هي الرَّغبة في البكم أو الكتمان؟ وكلاهما روافد للصَّمت، قد تتجاوز حدود السُّكون أحياناً، فتبلغ الموت!

أتساءل: لماذا يستهتر الكثيرون بقيمة كلماتهم، وبعددها المبعثر، على أسطر الحديث، كلاماً وكتابةً، وفي مواقيتها الملِّحة لا تكون؟! نرى المتحدِّثون يبتذلوا ويهدروا أكماماً من الحروف الطائلة، التي قد تكفي لتدوين تاريخ بأكمله، وأيُّ تاريخ أقاويلهُ فارغة بلا حكمة ولا معنى، قد نعتبره تأريخاً ذي حكمة! أتراها الأحاديث الباذخة، والمغدقون بثروات اللُّغة، أم أولئك الشياطين الخرساء، من يحترفون إشاعة الخصام بسيوف الكلمة؟

ربما، لأنَّني درست علم الاقتصاد، حريٌ بي تطبيق نظرياته في ذاك المقام، كي أحقق شيء من التوازن، أو ربما، حالة من التعادل، بين الكلام وعدمه. إذ أنَّ الكلاسيكيَّة الشَّفويَّة تنادي بالحريَّة الكلاميَّة والإستماعيَّة، حيث، لكلِّ فردٍ في المجتمع، الحريَّة المطلقة بأن يقول ما يشاء، كما له الحق بأن يسمع ما يرغب، من الأقوال المتوَّفرة عبر الأثير. وهنا، يكون المتحدِّثون والمستمعون لحجم كلام أكبر من الكلام، هم الرأسماليون، ملاك الثَّروة الحرفيَّة، إذ يمتلكون مدَّخرات باهظة من الكلام المنطوق والمسموع، يمكنهم استثماره، لتحقيق عائد يعوِّض الفرصة البديلة عن الصَّمت، إلا أنَّ مردود ذلك بلا كلام، قد يكلِّف ثمناً باهظاً، قد لا يستطيع المرء تعويضه لاحقاً. لكن، ومع مرور الوقت، سيجد هؤلاء المتفيهقون، والمسرفون بأسماعهم، بأنَّ معدَّل الحديث المفرَّط به، سوف يميل للتَّراجع، وتبدأ عمليَّة الضَّياع والإنتقاص بمنحنى الكلام، حتَّى يصل اللسَّان لنقطة تقطعه، على محور السُّكوت، في لحظة صمت مرعبة، عندما تُفرّغ الأحاديث من جوف أصحابها، وهنا، تتوَّقف المغالاة الكلامية فوق السُّطور، فتنضب المحاور الأبجديَّة، وتبور القصائد والأشعار، ويشحُّ الحرف في نصوصه النَّثريَّة، في واقع مغموس بالبؤس والجهل، يودي بهؤلاء الرأسماليون إلى حالة من الكفاف، فيتوَّقف النموُّ الكلامي، وتستقر الأقلام على المناضد ساكنة، بعيداً عن أوراقها.

ولكي نحدث تنميَّة كلاميَّة بعد هذه الحالة، لنعود لنقطة البداية، علينا أن نطبق نظريَّة – آدم سميث – الاقتصاديَّة على الكلام، إذ نعارض تدَّخل الصَّمت في النَّشاط الكلاميِّ، ونعترض ذاك الثَّبات بعد الإفلاس، لنحقق توازناً بين ما يدخل ويخرج. علينا أن نقرأ، ونحقق الرِّبح الاستماعيِّ من خلال اقتصاديَّات الكلام، واختيار البديل الأقل تكلفة، والأعلى منفعة، من الموارد الإيجابيَّة والتفاؤليَّة، الغزيرة بالعلم، من تلك الأحاديث التي تلتهم أوقاتنا، فنبتعد عن الهرج، والغيبة والنَّميمة، ونترك الباطل لأنَّه إثماً. وهنا، يرتفع مستوى الادِّخار للفرد، بقوله وإنصاته، ويزيد معدَّل الادراك والتَّمييز في آفاق العقل، وأبنية الفكر التأمليَّة، بهذا الكون البديع، وبحقيقة استخلاف الله للإنسان على هذه الأرض، وبالتَّالي، تحدث عمليَّة التَّخصص، فتزدهر ثروة الأمم، وتحصل التَّنميَّة من الحديث، بلا هدم أو هدر للنُّدره، ولا تفريط في القدرة والحاجة الملِّحة للكلام بوقته الصائب.

الحرف حبَّة من سنبلة، مدفونة تحت السُّكوت، ما إن تروى بفكر العاقل، حتَّى تنمو وتخرج من باطن النَّفس، كلاماً يستطيب به القلم، وتحمل الأوراق بيدراً وسنابل، تغوي الكتَّاب، فيحصدونها مواضيعاً بلا مناجل. والكلام كما الشَّجرة، ما إن تزرعه حباً صالحاً، وتسقيه لآذانٍ صاغيَّة، حتَّى ينمو ويكبر، ويتفرَّع عنه حديث أجلُّ، وتزهر المعاني على أغصانه مثمرةً اللذيذ من الأصوات، والطَّيب من الأسطر المباركة. فاحرص أيُّها القائل والسَّامع على أن تدبِّر بالنَّفقات القوليَّة، ولنكن أمَّة مقتصدة في الكلام، لأنَّ بذلك السَّلام.


مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى