الجمعة ٨ آذار (مارس) ٢٠١٣
في ذكرى رحيل الإعلامي محمد أبو غربيَّة
بقلم رشا السرميطي

لم يوَّدعني لكنَّه رحل بلا عودة!

بريد النهايَّة

وانكسرت عجلات عربة الحلم بمفترقٍ مباغتٍ أعدَّه القدر لكلينا، أمام فكرة عذَّبت الإنسانيَّة منذ الأزل، وقد بقيت إلى الآن، محضٌ غيبيٌ لا يعلم بها إلاَّ الملك – سبحانه وتعالى. كم شغلت الرَّغبة حشوداً من البشر والفلاسفة والعلماء، لتخطِّي سرَّ الحقِّ، وكشف الدَّليل، بهذا التَّبديل، ما بين جسدٍ وآخر، ودورٍ بينهما يكمِّل المعنى، حقيقة ومغزى، لا يُسمح بعرضه إلاَّ يوم تعرضُ النَّاس عليه، في ميقاتٍ كان عند الرَّحمن معلوماً.

تصَّورات عديدة مأخوذة من مواقفهم، ومذاهبهم الفكريَّة التي عرَّفت الموت بأنَّه: « توقف لسائر أعضاء الجسم، عن أداء وظائفه الفسيولوجية، إمَّا لسبب طبيعي، أو لسبب مفاجئ، عندما يتعطَّل القلب فلا ينبض، حتَّى يُختم العمر، ويفكُّ الارتباط ما بين الرُّوح والجسد، ثمَّ يعلن الإفتراق بينهما عنواناً عريضاً » . أتراهما تفترقان، أم تبتعدان فقط، لكي تلتقيا من جديد، في مكان آخر، وزمان لا تعلمه المخلوقات الأرضيَّة!؟ ومن منَّا لم يستفتِ روحه ذات تأمُّل مخبوء، في رعشات الذَّات متوارياً، خلف واقع الحياة، وروتين الأيام: لماذا جئت إلى هذه الدُّنيا، ولماذا منها أنا ذاهب؟ فما هو الهدف من الموت والحياة إذن! أليست هذه الأسئلة لغواً لا فائدة منه؟

وبما أنَّنا نتعذب من فكرة العدم، الغياب، ومفارقة الأشخاص والأماكن، والإضمِحْلال في لحظة التَّوقف، عندما يأتي الأجل حاسماً لنا موعد الرَّحيل، وتلك الأعراض التي يمكن أن تكون مابين ثانية وضحاها، هيَّا إذن.. لنصحوا مبَّكرين، ولنفهم المعنى القرآنيُّ للموت- أما هو استبعاد التَّكليف، وإنقاذٌ للإنسان من أعباء وظائف الحيِّ، ومن تكاليف المعيشة المثقلة- حيث الخروج من قضبان سجن زهرة الحياة، وزخارفها المظلمة الضيِّقة، وما تؤول إليه للإنسانيَّة من اضطرابات وحروب، لا نستدلُّ عليها بحدود عقل الإنسان، وما الشَّرارة التي كانت مسبِّباً في إضرامها. أليس في المغادرة، ذهاب وإياب، ودخول في رعاية المحبوب الباقي، أوَأليس الميِّتون مسافرون في كنف رحمة القدُّوس الواسعة؟ وهو النَّعيم بحياة فسيحة خالدة مستنيرة، لا يحذرون بها من خوف، ولا يكدِّر مواقيتها حزنٌ أو همٌّ.

إنَّه ذهب إلى قنطرة العبور، وممرِّ الخلوص، إلى الحياة الشَّفيفة. سبقني إلى مصير الإنسان، كأنَّه نواة لحبَّة قمح. ودَّع الأرض ومن عليها من الأحبَّة، والأهل والأصدقاء، فغمره التُّراب والماء، ليتحوَّل كيميائيَّاً، بقوانين ربِّ هذا الكون البديع. تبَّدلت هيئته، وتغيَّرت صورته بعدما رحل، وفارقناه جميعاً. ما بقي لنا إلا الذِّكريات.. وسرعان ما ينساه الكثيرون من بيننا، ممَّن كانوا يبكون عليه، وكذلك، أوائل ما ينبثق عن موته فصيلة من الأفكار، تحمل سنابل عديدة، في كل سنبلة عشرات التَّفكرات، ومئات من براعم التَّحذيرات، واللَّذة تكمن في حضن الحزن والكمد، قرب جداول البكاء، ولمن يجتهد ويتذوق مرَّ المواسم في وقت النُّضوج، ويحصد ثمار الألم في موعدها الصَّحيح، قبل أن يمرُّ الزَّمن، فتتعفَّن، وتسقط، ثمَّ تتحللُّ فلا تعد شهيَّة لعاقل.

ولأنَّ الموت ليس فناء، ولا اضمحلال أو انسحاب، وإنِّما هو مجرد تحوُّل، ونُقلة إلى المكان الأكمل والأشرف والأطهر، أكتب عزائي، بحبر الوجع إلى كل من يعتقد أنَّ الموت بعيد عنه، و يقول في أغوار نفسه: لم أمرض، صحتي جيِّدة، أمتلك الكثير من ماديَّات الحياة لأعيش سعيداً، وأعمِّر وطني، وأبثُّ السُّرور لمن حولي من الأقارب، الأصدقاء، الجيران، والغرباء. استيقظ أيُّها الغافل عن موتك! لا وقت للنَّوم بعد الآن، هيَّا.. أسرع لتعوِّض ما فاتك من الأيَّام، بلا عمل ولا علم، فلا عبادة ولا تقرُّب ولا إحسان.

الموت داء لا دواء له إلاَّ التُّقى والعمل الصَّالح، ونسيانه صدأ للقلب. قال أبو بكر الصِّديق: « احرص على الموت توهب لك الحياة » . كلُّنا نعمل، ومن هذه الدُّنيا سوف نرحل يوماً ما، في موعد عند الله لن يتأجَّل، فإمَّا روضٌ من رياض الجنَّة هيَ دارنا، وإما قبر حالك ظلامه، وفي جهنَّم قرارنا. إنَّ العين لتدمع، والقلب ليخشع، ونحن على فراقك يا « أبا مؤمن » لمحزونون.
هذا المصاب يذَّكرنا بقول رسولنا – صلَّى الله عليه وسلَّم – لعمر عن الموت: فقد ورد عن ابن عمر رضى الله عنهما قال :"أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمَنْكَِبىَّ فقال : كُنْ فى الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل. وكان ابن عمر رضى الله عنهما يقول: إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك. «رواه البخاري».

مصفوفة حقائب أفكاره، وملامحه على رفوف الذَّاكرة أمامي، لكنَّني مذهولة، والسَّفر طويل هذه المرَّة، لن يعود، غادر مسافراً من قاطرة الحياة، إلى حياة أخرى، والرِّحلة مستمِّرة، وما من ساعٍ للوقت قد سلّمه رسائلي الأخيرة. انفلتت روحه عن الجسد، وصعدت إلى بارئها، حيث المستَّقر، وانبلج الحزن من التُّراب إلى التُّراب، يولول مجيئ جثَّة أخرى، انغمست في جوف الأرض، وانتقص الغائب من عداد الأحياء. مال الظِّل حيث الغروب، وأفلت رياح التساؤل معلنة وصول التَّفسير. كان غائباً، عندما طننته منشغلاً، وما كنت أعرف أنَّه اشتغل عنِّي للأبد، ورحل في ذمَّة الله.

ورقة تنفصل عن ورقة، وحلمٌ يفارق حلماً، والعمر يتساقط ساعة بعد الأخرى، في دقات النِّسيان، كما الأوراق التي نكتبها من إسقاطات مشاعرنا، والأرق السَّاقط يطفو على بحيرة الذِّكرى، فتلتوي دوائراً، وتختفي دائرة فدائرة ! لحظات من الحزن لا نلبث إلاَّ أن ننساها، ونتجاوز مصابنا، ونكمل الحياة، كما هي قبل حزننا، وفزع أرواحنا، وربما أسوء ممَّا كانت عليه آنفاً.
شقيقي « محمد » مات وهو في ربيع العمر، ومواسم الفرح كانت على مباهج أحلامه، كان عاشقاً للقدس، ومجنوناً بثراها، مولعاً بحبه للوطن - فلسطين، ومستنيراً بالإعلام، كنوافذ صدق، يطلُّ بها إلى الدُّنيا، ذاك المصمِّم والفنَّان الذي أخذ على عاتقه بداية نقيَّة، كصفاء الجداول، لكنَّ الأجل فاجأه، وعطَّل مقود سفينة أفكاره، فتمزَّقت أشرعة آماله، حتى تحطمَّت مجاديف أسراره بالكامل، في بحر من الغيب، لا علم لأيِّ مخلوق ما كان يواري به، من جواهر الكتمان، وزبرجد الصَّمت، حين انقضى أمر الله بميقات الألم، كحاجز منع الغدُّ عن العبور، كل شيء توَّقف، وربما انتهى، وصحيفة المدينة باكية بكامل صفحاتها، ترثو وجع الفقد بمرارة الرَّحيل، وحبر الأسى منهمراً، يلوك الأسطر الغرَّاء مخذولاً، بموعد لن ينفع فيه النَّدم. تنشر على شرفاتها، فوق حبال الصَّمت، والبكاء كلماتها السَّوداء على قبر جثَّة لم تزل رطبه، ينكسر الفرح بداخلي، وأموء على قبره، أتضرَّع فوق التُّراب والحجارة، ولكم أودُّ لو أنفذ في مسام المجهول كي أخبره مقدار الفجيعة التي ألمـّت بي، وبالكثيرين ممَّن عرفوه، رجلاً طيِّباً. لكن، لا شيء ظلَّ بيننا، سوى الغياب، والغربة فقط!

يا نفس توبي إلى الله، واعصي الهوى وتجنَّبي الفتن. إن شهوات النَّفس مازالت فاتنة، كما الدُّنيا، والمنايا تلقتط الأحياء لقطاً وما من أحد إذا جاءه الأجل يستقدمه أو يستأخره، أيَّاً كان نفوذه وسلطانه وجاهه وماله في الحياة، الموت قاهر يلحق آخرنا بأولِّنا.

في كل يومٍ هناك ميِّت نشيِّعه، وربما اثنين أو ثلاثة، ولا أكثر من الرَّاحلين، نرى مصرعهم، نحزن عليهم، والبعض لا يعنينا أمرهم، إن حضروا أو غابوا، ولكنَّنا لا نتعِّظ. لا الدُّنيا نكفُّ عن محبتها، ولا الأموال نبرح أو نفارق شهوة تكديسها، فلا نتركها، وكل زائلٍ فانٍ، ولن يخرج المرء إلا عارياً من الدنيا وليس له سوى الكفن. نتعامى عن مصائرنا، وننسى بغفلتنا من لا ينسانا، والدَّهر لم يكفّْ يزجرنا بالحرص والنهيِّ.

ألا يا راكضاً في ميادين الدُّنيا هائماً فرحاناً، توَّقف! ولا تكن كما أناسٌ غرَّهم طول الأمل، فبادَرهم به الأجل، فنوا وبقي على الأيَّام ذكرى ما قالوا وما عملوا، وما أُثبت في صحائفهم من قبيح الفعل والزَّلل، فلا يستعتبون ولا لهم ملجأ يومئذ. إنَّ للموت سكرات، وللقبر ظلمات، ولنار جهنَّم زفرات، فاعمل أيُّها العبد لآخرتك قبل أن يقال فلاناً قد مات!

اللَّهم اجزه خير الجزاء، وأرفعه في الجنان إلى أعلى مقام، ونقِّه من خطاياه، كما ينقى الثَّوب الأبيض من الدَّنس، واغسله بالماء والثَّلج والبرد، واجمعنا وإيَّاه مع النَّبيين والصِّديقين. ولأشهدكم ما قاله الإمام علي بن أبي طالب: "لا دار للمرء بعد الموت يسكنها، إلا التي هو قبل الموت بانيها".

بريد النهايَّة

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى