الثلاثاء ٢٦ شباط (فبراير) ٢٠١٣
عن الحضارة «13»
بقلم محمد متبولي

العدالة الاجتماعية...أم المعارك

سنتحدث هنا عن المحفز الرابع لعملية إعادة بناء تصورات الإنسان ليتخلى عن تراجعه الحضاري ويتحول إلى صانع للحضارة، فلو افترضنا أن ما ذكرناه في المقالات السابقة قد تحقق، وقام ذلك الإنسان بمراجعة أفكاره ورفع مستواه المعرفي والتعليمي، وتحقق له قدرا معقولا من اليسر الاقتصادي وعدم الحاجة، ولكن رغم كل ذلك فمازال يشعر في أعماقه بوجود ظلم اجتماعي واقع عليه، أو أي نوع من التمييز ضده، أو حتى عدم اكتراث بثقافته المحلية، ستكون النتيجة حتما شعورا بالدونية والاحتقان، وسيؤثر ذلك سلبا إلى حد كبير على قدراته الإبداعية مما سيعيق تقدم المجتمع، فببساطة تحقيق العدالة الاجتماعية هى أكبر محفز للإنسان على الإبداع والتطور، ورغم ذلك فكثير من المتابعين لتلك القضية يختزلونها في مجموعة إجراءات سطحية بسيطة لا يمكن أن تعتبر تحقيقا لما يمكن تسميته ثورة كبرى في مجال العدالة الاجتماعية، فعلى سبيل المثال لا الحصر ارتبط تحقيق العدالة الاجتماعية في مصر بفكرة تطبيق الحد الأدنى والأقصى للأجور وفكرة تحسين أوضاع العمال والموظفين المعيشية، إلا أن هذه الإجراءات لا يمكن اعتبارها إلا مجرد علاج سطحي لجرح غائر، لذا فسنحاول في الأسطر القادمة التركيز قدر المستطاع على الأبعاد المختلفة لقضية للعدالة الاجتماعية.

فبداية يجب أن تتحقق المساواة في الحقوق والواجبات بين جميع أفراد المجتمع، وهذه المساواة لا يمكن تحقيقها بعشرات القوانين أو القرارات أو النصوص الدستورية فقط، فيجب أن تكون نابعة من إرادة المجتمع قبل ذلك وبعده، فالمجتمع يجب أن ينظر باحترام لكل من يؤدى له خدمة يحتاجها أو لا يستطيع تقديم هذه الخدمة لظروف خارجة عن إرادته كالإعاقة مثلا، فعلى سبيل المثال يجب أن يحظى جامع القمامة بالاحترام وعدم الامتهان لمهنته لأنه يقدم خدمة يحتاجها المجتمع، وكذلك لا يجب أن يضار أحد لأسباب وعوامل لا دخل له فيها، كأصله أو جنسه أو لونه إلى آخر ذلك، وهو ما يعنى ببساطة أننا يجب أن نعلى كرامة الإنسان ونضعها فوق كل اعتبار، إن فكرة المساواة تلك تأخذنا إلى مبدأ آخر هام وهو تكافؤ الفرص، ولا يعنى ذلك أنه عندما يتقدم اثنين إلى وظيفة أو منحة جامعية نأخذ الأكفأ من حيث القدرات فقط، ولكنه يعنى أن يكون هناك تكافؤ فرص في الحصول على تلك القدرات من الأصل، فالطفل الذي يقطن قرية نائية ويعانى الأمرين في الذهاب إلى والإياب من مدرسته البعيدة، التي يأتى إليها مدرسين معاقبين من مدارس أخرى، لم يحصل على نفس الفرصة التي حصل عليها طفل يذهب إلى مدرسة جيدة بجوار منزله، فلو منحنا الطفل الثاني منحة دراسية أو وظيفة لأن قدراته أعلى من الطفل الأول، فذلك يعد إخلالا بمبدأ تكافؤ الفرص، لأنه يعنى ببساطة أننا منحنا أحدهم تعليم جيد والثاني رديء ثم طالبناهم أن يتساويا في القدرات، وربما ينقلنا ذلك إلى فكرة أخرى في مسألة العدالة وهى عدالة توزيع الخدمات، فليس من المنطق أو العدالة أن تستأثر مناطق بعينها بالخدمات الأساسية كالصحة والتعليم والسكن ومياه الشرب وغيرها، بينما تحرم مناطق أخرى من ذلك، فهذا كفيل في حد ذاته لإشعال الأحقاد المجتمعية، وحرمان عدد كبير من الأشخاص من فرص حقيقية للمساهمة بفاعلية في بناء مجتمعهم.

ونصل الآن لجانب هام في قضية تحقيق العدالة الاجتماعية وهى عدالة توزيع الثروة، والتي تعد عند كثيرين القضية المحورية في مسألة العدالة الاجتماعية، إلا أن ما سبق ذكرناه هو جزء أصيل من تلك القضية، فعدالة توزيع الثروة تعنى ببساطة أن يكون لكل إنسان نصيب عادل من ما يمتلكه وطنه من ثروات، وما يتم على أرضه من عمليات تنمية اقتصادية، وينعكس ذلك بطبيعة الحال على الضرائب والدخول وأسعار السلع والخدمات، وكل الأشياء التي تمنع تكتل الثروات في يد قلة على حساب الجموع، ولكن لو توسعنا قليلا في مسألة عدالة توزيع الثروة سنقول، يجب أن يكون هناك قدر كبير من المساواة في أحقية كل مواطن قادر على استغلال الثروة في استغلالها، مما يعنى أنه لا يجوز حرمان أي إنسان من استغلال ثروات وطنه أو الاستثمار فيها لمجرد أن آخرين لهم نفوذ أكبر يسهل لهم عملية الاستغلال تلك، ببساطة يجب أن يكون الثراء والدخل العادل حقا مكفولا للجميع دون استثناء أو تمييز.

وربما لو انتقلنا لقضية الطبقية فسنقول أن هناك ثلاثة مستويات لتلك القضية، المستوى الأول أن المجتمع لا يجب أن يضع عوائق أمام الحراك الطبقي، فمن حق كل إنسان أن يصعد من طبقته إلى الطبقة الأعلى منها متى حقق الإمكانيات اللازمة لذلك وهذا في المرحلة الأولى للثورة الاجتماعية، أما المستوى الثاني فان يتم إعادة تعريف الطبقية لا على أساس الأصل أو الملكية ولكن على أساس القدرة على خدمة المجتمع ومدى استفادته من تلك الخدمات التي يقدمها الفرد له، وتعد هذه المرحلة متقدمة نوعا ما عن سابقتها، أما المستوى الثالث هو أن تلغى الطبقية تماما ويصبح المجتمع ككل طبقة واحدة، يحظى كل فرد منها بالاحترام وفقا لما يقدمه للمجتمع وهى أكثر المراحل السابقة تطورا.

وهناك وجه آخر من مسألة العدالة الاجتماعية وهو عدالة التمثيل في اتخاذ القرار وإدارة الدولة، فيجب أن يراعى النظام السياسي للدولة التمثيل العادل لكافة طوائف المجتمع في اتخاذ القرارات الخاصة بالدولة ونظام الحكم، خاصة الفئات المستضعفة والمهمشة، فالفقراء والنساء والشباب والأقليات الدينية والعرقية، وأبناء المناطق النائية والغير منماة، يجب أن يشاركوا بشكل فاعل في اتخاذ القرار والسلطة، صحيح قد يستغرب البعض من ذلك لكن لا يوجد أى مانع أن يكون أحد القيادات الحكومية من الفقراء، ولا أن تتكفل الدولة مثلا بالحملة الانتخابية لأحد النساء أو الشباب وغير ذلك.

ونأتى هنا لمسألة أخيرة وهى عدالة توزيع الحقوق الثقافية، فلو أخذنا مثال بسيط في مجال القصة والشعر، سنجد أن شعراء وقاص المدن الكبرى والعواصم الثقافية أوفر حظا من أبناء المدن الصغيرة والريف في نشر إبداعاتهم، وكذلك سنجد في مصر مثلا ما نعرفه عن ثقافات أبناء الدلتا أكثر بكثير عن ما نعرفه عن ثقافة أهل النوبة وسيناء، إن ذلك يخلق نوع من التمييز داخل المجتمع على أساس الثقافة، ويجعل هناك ثقافات يتم تنميتها وتطويرها وتساهم بشكل أكبر في الثقافة الأم، وثقافات تظل منغلقة على ذاتها ولا تتطور، وهو ما يجعل هناك قطاعات من المجتمع أكثر استيعابا للمدنية الحديثة والاندماج فيها من غيرها، و بطبيعة الحال يخلق ذلك فجوات داخل المجتمع يجب تجنبها.

وأخيرا إذا ما أردنا تلخيص فكرة العدالة الاجتماعية كما نتصورها سنقول، هي عدالة توزيع الحقوق المادية والمعنوية والثقافية بين كافة شرائح المجتمع، دون تمييز وفقا لقدرتهم على خدمة المجتمع، وبهذا نكون قد أنهينا المقالات المتعلقة بمحفزات عملية إعادة بناء تصورات الإنسان حول نفسه وربه ومجتمعه وعالمه من أجل أن يتحول من إنسان جامد إلى إنسان مبدع منتج للحضارة، وقد كانت هذه المحفزات هي إحداث ثورات كبرى في مجالات الفكر، والعلم والمعرفة، والاقتصاد، والعدالة الاجتماعية، وآن الأوان أن ننتقل لمجموعة مقالات أخرى عن مؤسسات بناء الحضارة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى