الجمعة ١٠ آذار (مارس) ٢٠٠٦
بقلم تيسير الناشف

الأثر السياسي للمحيط الخارجي وعدم التوازن في النظرة إلى الذات

يشير مفكرون من العرب، في سياق تناولهم للحالة السياسية الاجتماعية في العالم الغربي وفي العالم العربي، إلى تمتع السكان في الدول الغربية الديمقراطية بقدر كبير من الحرية في الإفصاح شفاهة أو كتابة عن فكرهم وفي اتخاذ الموقف من شتى القضايا. ويشير أولئكم المفكرون إلى انعدام مثل هذه الحرية في بلدان العالم الثالث عموما. ولا أظن أن أحدا مطلعا يخالف هذا القول. غير أن من اللازم، عند تناول موضوع توفر الحرية أو عدم توفرها وعند عقد المقارنة بين البلدان الغربية وغير الغربية، إبداء بعض الملاحظات حتى يكون التناول لهذا الموضوع أكثر توازنا وموضوعية.

ينحي قسم من المفكرين العرب وغير العرب - وخصوصا المفكرين من الغرب - باللائمة عن هذه الحالة - حالة عدم توفر الحرية في العالم العربي كما تتوفر في دول غربية - على العرب أنفسهم. ووضع اللوم بالكامل على العرب فيه قدر كبير من التجني والتعسف. والحقيقة هي انه توجد عوامل من داخل المجتمع العربي ومن خارجه مسؤولة عن هذه الحالة. هذه الحالة لم تنشأ بين عشية وضحاها. إنها نتاج عملية سياسية-اقتصادية-ثقافية دامت قرونا طويلة وتفاعلت فيها العوامل الداخلية والخارجية الديناميكية. وكان التدخل السياسي والاقتصادي والعسكري الغربي وما يزال عاملا هاما جدا في إيجاد هذه الحالة.

وتقل المجتمعات التي لا تتعرض لعوامل التأثير الخارجية، إذ ان المجتمعات تتعرض عادة لتأثير هذه العوامل. غير أن هذه العوامل تختلف بعضها عن بعض ضعفا وقوة في مدى تأثيرها في المجتمع. وفي العهود الأخيرة التي شهدت اختراع أجهزة الراديو والتلفزيون والتلفون والفاكس والحاسب الإلكتروني والشبكة الدولية أصبح تأثير العوامل الخارجية في شؤون المجتمع المتعرض للتأثير بالغا.
ومن العوامل الداخلية في إيجاد هذه الحالة طبيعة التنشئة العربية التي هي تنشئة ذكورية أبوية (بطرياركية) وتدني مركز المرأة القانوني - وهو التدني المسؤول على الأقل جزئيا عن تدني مركزها السياسي والاقتصادي والاجتماعي والمهني - والقراءة العربية أو التفسير العربي لكثير من المفاهيم الاجتماعية والتراثية عبر التاريخ، مفاهيم من قبيل دور الإنسان على وجه الأرض والتخيير والتسيير.
وكما أسلفنا، نشأ على مر القرون تفاعل نشط مستمر بين العوامل الداخلية والخارجية. وبسبب هذا التفاعل الطويل من الصعوبة البالغة، إن لم يكن من المستحيل، فصل أثر العوامل الخارجية عن أثر العوامل الداخلية. وبالتالي، لا يمكن في حالة استحالة الفصل أن نعزو على وجه التحديد مكونات الحالة القائمة إلى العوامل الخارجية والعوامل الداخلية، ولا يمكن، بالتالي، أن نعزو على وجه الدقة المسؤولية عن هذه الحالة إلى المجتمع العربي أو إلى الدول الأجنبية.

ويمكن لأي مجتمع من المجتمعات أن ينظم ويطور أفراده، إذا لم يتعرض مجتمعهم لتأثيرات خارجية قوية، وإذا توفر المناخ السياسي والاقتصادي والاجتماعي والنفسي المؤاتي لذلك، وإذا اشتملت الخلفية التاريخية والتراثية والسياسية على مفاهيم الديمقراطية والحرية. والتراث السياسي والفكري العربي الإسلامي حافل بمفاهيم الحرية والديمقراطية من قبيل الشورى والحرية، وهو المفهوم الطبيعي الذي يتضمنه قول الخليفة الصالح عمر بن الخطاب "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا". ودعا الفكر السياسي العربي الى اعتماد الديمقراطية أساسا للبلدان العربية المستقلة أو التي كانت ساعية إلى الاستقلال، وهي الحرية التي ينشدها الوطنيون العرب. وعلى الرغم من ذلك فإن تأثير العوامل السياسية والاقتصادية والعسكرية الغربية أسهمت إسهاما ذا شأن في إفساد تطور المجتمع العربي صوب إشاعة الديمقراطية في الوطن العربي وفي إضعاف التطور السياسي باتجاه الديمقراطية.
وتحتاج المجتمعات، لتصحيح مسار تطورها السياسي والاقتصادي ولاتخاذ الاتجاه الذي يريده لها أفرادها، إلى القدر الممكن تحقيقه من الانتقاد الموضوعي السليم الهادف البناء. ولا يوجد في العالم مجتمع لا تشمل حياته جوانب سلبية وجوانب إيجابية. والمجتمعات كلها، الغربية والشرقية والشمالية والجنوبية، إنما تختلف بعضها عن بعض في مدى سلبية أو إيجابية جوانب حياتها.

ويقوم منتقدون عرب وغير عرب بانتقاد المجتمع العربي، مؤكدين على الجوانب السلبية ومهملين الجوانب الإيجابية في حياته. وحينما يجري الكلام عن المجتمعات الغربية يجري التأكيد أحيانا غير قليلة على الجوانب الإيجابية ويقل ذكر الجوانب السلبية في حياتها.
ولهذا اللاتوازن في الرؤية والعرض أسباب، منها تأثرهم بالكتابات الغربية عن العرب وعن الغرب وعيب منطلقاتهم الفكرية في عملية النقد وانبهارهم بوجوه الحضارة الغربية. وليس تناول أسباب هذا اللاتوازن موضوع هذا المقال. وقد نعود إلى دراسة هذا الموضوع في كتابات لاحقة. إنما أريد قوله إن هذا التركيز على الجوانب السلبية في الحياة العربية وإهمال ذكر الجوانب الإيجابية فيها يشيران إلى عيب اللاتوازن في العرض وإلى التحيز المقصود أو غير المقصود أو كليهما ضد العرب وإلى الضحالة الفكرية ومركب النقص الذي يعشش في عقول وقلوب البعض منا.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى