الاثنين ١ نيسان (أبريل) ٢٠١٣
بقلم عبد الزهرة شباري

صورة

أطرق برأسه ساعة، ودار نحو طاولة وضعت عليها أصباغا مختلفة الألوان، وفرشاً صغيرة بغير نظام ووريقات رسم على بعضها بضع خطوط وأشكال غير مألوفة، والبعض الآخر ترك على حاله!

الطاولة عتيقة وملطخة بالألوان، والكرسي الذي يقف أمامها هو الآخر في حالة بائسة، لا يكاد يحمله عندما ينتصب عليه ويلقي بثقله على الطاولة المعدة لعمله!

أعد مكانه ومسك فرشاته وراح يمزج الألوان مع بعضها ويلطخ قطعة قماش بيضاء أمامه، تأمل مفكراً ليعد ما بذاكرته من وهج الأيام وتعاسة الزمن وعهر السنين، الطبيعة أمامه ماثلة بتحدي، النخيل شامخة تزهو بجريدها الأخضر وعذوقها المتدلية وهي تزهو بألوان ثمرها ألأخضر والأصفر والبعض الآخر على النصف، المزروعات على عادتها تبسط الأرض بسجادة من الخضر والأزهار التي

تحاكي الندى، الطيور على اختلاف أشكالها تناغي على هامات النخيل وتردد فروض الصلاة عند الصباح!

هائماً لا يدري ما به، وبم يفكر، كل هذه العلامات والمناظر التي أمامه لم تجلب انتباهه ولا تحرك صمته، كذلك لم تجرؤ على تحريك فرشاته المعدة لما يريده في هذه الحيرة !
أصابعه الملطخة بالألوان ترتجف وتنثر رذاذ ما بها على قطعة قماشه التي أمامه وهو في غفلة عن ما يجري!

يقبع في زاوية تفكيره ويداعب رجليه المتدلية من خشبة كرسيه المكسور وهو يموسق ألحان حركية وصوت الخشب البالي، يتدلى من ذاكرته مظهراً كان قد ألفه سنيناً عندما كان صغيراً ويتيماً تحت رعاية خالته التي تقطن في قرية تبعد عدة فراسخ عن محل سكناه.
أنه وجع داخلي يراوده في كل سكناته، ذكريات مرة، وزوبعة أليمة من اليتم كانت قد ألمت به، يحاول أن يبدأ إشكالية لوحته وخطوطها كما بدأها سابقاً بالكلمات التي طالما تغنى بها!
يذهب راجلاً يدمي قدميه وخز الأشواك والدروب الملتوية وحفر السواقي، إنها هناك يتثاءب دمعها حناناً وشوقاً عليه.

صورتها تمزق شبح الوهم الذي خيم عليه، ذكريات الزمن المباح وهي تؤم رأسه المتعب بتفاصيل واقعه الأليم، وفراديس الفقر وبساطة الترف الريفي وطيبة النفوس!
(صبر) هذا بن أختك قادم من بعيد يحمل أساه ويتمه (عينك عليه) تقولها بحنان مفرط، إنه قادم يحدو الطريق إلينا ليخفف ما على عاتقه من هموم هذه الدنيا
البائسة، هكذا كانت تسمي أخاها بكلمة لا مثيل لها، كلمة تقطر حناناً وحنو (صبر)، ينقطع الكلام عنها!

يمتثل لها ويرعاها، لأنها كل شيء لديه، إنها تمثل أمه الذي فقدها صغيراً، وأخته ومن أشرفت على تربيته وهو لا يزال غضاً!

هكذا تصبح الفكرة لديه جاهزة، والصورة الخيالية تطل على فكره بكل ما تحمل من إشكالات ودموع وأسى، وضع فرشاته على قطعة القماش وراح يرسم وجهها أولا ً لطخ ما سواه بألوانه السوداء والخضراء والصفراء، توقف عن إدحاك فرشاته على الألوان غاطاً بنوبة حزن تراءت له يوم أن رآها على حالها بعد أن فقدت كل شيء، بيتها، حيواناتها، بستانها، أراضيها، حتى أخوها الذي بعد عنها وبقيت لا تراه إلا َ وشالاً، أبناء أختها بعدهم الزمن عنها وذابوا في خضم آلاته القاسية، أصبحت قشة خفيفة هزيلة في كوخها تحركها الهواجس والظنون والأمراض بعد ما فقدت كل شيء كان لديها وبعصمتها!

فقدت محبيها وعشاقها وروحها وبقت حكاياتها التي نقضَي بها الليالي على مواقد الشتاء، تلوك بها الأيام، وحنان قلبها العائم معها يفتش عن مخابئ الأحبة!

لم تسأم يوماً، ولم تعتب على ما فاتها، قلعة تمثل الصمود، شامخة لا تحركها الهواجس، يحرك فرشاته على الخطوط التي أمامه ويعلق ما رسمته أنامله الملطخة بالألوان ويطوف برأسه المثقل بالهموم ويسح دمعة على الجدار!!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى