السبت ٢٧ نيسان (أبريل) ٢٠١٣
بقلم غادة هيكل

شهية

عاشت مع زوحها كالكوب الفارغ، لا يملؤها سوى قطرات دماء لوثت ثوبها الطاهر فأصابها الصمم عن الحق، والبكم عن قول الحقيقة.

لم تكن سوى زهرة متفتحة فى مقتبل العمر ، نحلة يروي شهد لسانها الصغير والكبير ، يرقة يانعة تشق طريقها نحو الأنوثة بهوادة وكبرياء، لا تعرف للخنوع طريقا إلا للحياء ، ولا يسكن ضلوعها إلا الصفاء ، ولا يروي ظمأها سوى حلو الكلام الذى يملؤها نشوة ورغبة فى الحياة ، كما فرسة رعناء لا يوقفها سوى لجام فارس تنتظر قدومه ليروّضها بقوة ويرضيها باشتهاء .

من بين فتحات الثقوب تتعرف على عالم الأزواج الذى تكتظ به الدار، فهى الصغرى من بين عشرة رجال ونساء تحويهم تلك الجدران بأمر من الكبير ،فهو يرى فى لمة أبنائه عزوته وكبريائه وقوته.. بنى لكل منهم حجرته الخاصة واشترط على من يتزوج بناته أن يسكن معهم كإبن له وربيب أسرته الكبيرة ، وهكذا لن يقدر على كسر شوكته أحد، ولن ينال منه الطامعين فيه.

انطلق الجسد الصغير نحو النمو، وأصبح لها نهدان ينبئان عن أنوثة طاغية ، وشعر مسترسل كما الليل الحالك ، وشفاه تستدير فوقها الفراولة الناضجة، فلا تميز أيهما تأكل ،فهى وجبة شهية.. لمن ؟

عيون تتلصص الضحكات في الليل ، ويدان تعبثان بالفراش نهارًا،وأنفاس تعلو وتهبط مع ابتسامة غيظ مكتومة كلما رأت إحداهن تلتف ببشكير لا يستر منها ما تريد هى أن تكشفه ،
لم تعد تحتمل تلك الهمسات بداخلها، لقد تدرجت إلى نيران ملتهبة تحرق فراشها ليلاً فلا يغمض لها جفن ، وتسكن أضلعها نهارا فتحيل البيوت الآمنة إلى حريق يلتهب، ليروي ظمأها للحقد، ويؤجج رغبتها في سكون ما خلف الجدران في الليل.

تحققت أمنيتها وستهنأ بليلة لا يعلو فيها سوى صوت السكون ،فالنساء ينمن وحيدات بعد يوم مشحون بالعراك بفعلها وتدبيرها ،تطلق ضحكات الشماتة وتغلق بابها بعنف لتغيظهن ولكن:

تقف لترى انعكاس صورتها فى المرآة، لم تكن هي.. بل هذا المراقب لها ليل نهار دون أن تدري، يعلم بمكنون نفسها ، وضجيج جسدها ، وتلصُصها فى الليل الحالك لترى ما تستره الأبواب .. يرى النشوة فى عيونها كلما غضبت إحداهن وهُجر فراشها ،يسمع همسها لمرآتها وتلمّس يدها لجسدها . دقائق ثقيلة يتبادلان النظرات رغبة ورهبة، خوفا وترقبا،حياء ومجونا، تراجعا واستسلاما، وعجز اللسان عن الكلام .

فارت النيران مع أول لمسة عبثية ، دخلت فى غيبوبة النشوة.. لحظات فقدت معها أنوثتها، لوثت ثوبها ،أطفأت نيران جسدها وأشعلت نيران العار الذي لحقها أينما وجهت وجهها ، آثرت الصمت حتى لا تهدم كل الجدران ، فضلت أن تتعايش مع ذلها وخزيها صماء بكماء ، لم تعد تسمع سوى أنين روحها خالية الوفاض ، وآلام ضلوعها التى يسكنها الشوك ،وفراش ملوث لم تعد تستطيع النوم عليه، فافترشت الأرض كى تكبح جماح رعونتها ،ولطخت وجهها بترابها، وجعلت من شعرها الأسود ليلا طويلا حالكا يغطي عيونها الجميلة عن ضوء النهار، فلم يعد لها نهار، ولم تعد لها حياة ولم تعد شهية .


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى