الثلاثاء ٣٠ نيسان (أبريل) ٢٠١٣
بقلم فيصل سليم التلاوي

الشبيه...

كنت لحظتها قد دخلت مكتب البريد لأودع بعض الرسائل، وقد أخذت مكاني خلفه في ذيل طابور المصطفين عندما التفت خلفه، وكأنما قد فوجئ بلقائي، فحياني مصافحا بحرارة بالغة، وبادرني بالسؤال عن أحوالي وأخباري.

ما إن نطقت أول كلمة في الرد على تحيته حتى لحظت أن صوته قد خفت، وأن يده تتسحب من يدي متراجعة، وقد اعتراه حرج شديد، ولمحته يبلع ريقه ويمسح جبهته، ثم يستدير إلى موقعه في الصف مطرقا.

أدركت أنه قد أخطأ التعرف عليّ، وأنني شُبِّهت له بأحد معارفه، وأنه لم يدرك خطأه إلا عندما سمع نبرة صوتي الخشنة المميزة. آثرت الصمت طيلة الدقائق القليلة التي وقفتها خلفه. ما عمدت إلى مجاملته أو محاولة انتشاله من حرجه، خشية أن يوقعه حديثي على مسمع من الواقفين حولنا في حرج أكبر.

عندما أودع رسائله وهمّ بالانصراف، أومأ لي محييا خجلا، ومضى مسرعا وغيّبه الزحام. أما أنا فما استغربت ذلك مطلقا، فقد اعتدت عليه كثيرا.

ما حللت في مكان أو ارتحلت إلى مكان، إلا قابلت أناسا خُيِّل إليهم للوهلة الأولى، أنهم قابلوني قبل هذا اليوم، وأنهم يعرفونني معرفة وثيقة، وربما سألني أحدهم:

• ألست الدكتور فلان؟ الذي كان في مستشفى كذا سنة كذا، وعالجني من مرض كذا؟

• ألست الأستاذ فلان الذي كان يعمل في مدرسة كذا؟

 ألم تكن جارنا صاحب المكتبة في شارع كذا؟ وغير ذلك كثير.

لم تصب من كل هذه الفراسات إلا واحدة. وقد كنت منقولا إلى مقر عمل بعيد في بلدة نائية، عندما قابلت شخصا بدينا يرجرج أمامه بطنا عظيمة، ويجر خلفه إليتين ناتئتين مثل سنامي هجين، وإن اتخذتا وضعا عرضيا لا طوليا، مع لحية شعثاء مثل حقل ازدحم بنبت شوكي. وقد بادرني قائلا:

• أنا أعرفك، قابلتك قبل هذا اليوم، ونبش في غور ذاكرته عميقا فما اهتدى إلى المكان والزمان الذي التقينا فيه، لكنني عندما سألته عن اسمه واسم بلدته، ذكّرته أننا كنا زميلين في الصف الثاني الثانوي في مدرسة كذا، قبل نيّف وأربعين عاما.

بعد أن اعتدت الرد على الشخص الذي شُبهت له بالجواب المعهود:

• إن الله يخلق من الشبه أربعين. غالبا ما كان يجيب:

• ربما كان أخاك أو ابن عمك أو قريبا لك، إنه يشبهك تماما.

حيرتني حكاية الشبيه كثيرا، وأورثتني عادات ما كنت أحبها في سلوكي، منها أن أُطرق أثناء سيري، فلا أبصر سوى موضع قدمي ّ أو ما تعداهما بقليل، وأن أسرع في مشيتي، فلا ألتفت يمينا أو شمالا، حتى أنني لأَمُرّ أحيانا عن أناس من معارفي فلا أرفع يدي لهم بتحية، لأنني في تزمتي وانكفائي على ذاتي في مشيتي لم ألحظهم بتاتا، بينما يسيئون الظن بي، ويحسبونني أشيح بوجهي عنهم متعمدا، وأنا في واقع الأمر أشيح بوجهي عن وجوه العابرين أو الجالسين، حتى لا تقفز أمامي فجأة صورة الشبيه. كان يخيل إليّ أنني ما إن أصوب نظرة عميقة متمعنة نحو شخص، فتقع في موضع عينيه، إلا وأبصرت حدقتيه قد اتسعتا وومضتا، ولمحت شفتيه تنفرجان كأنما تتهيآن للكلام، ويمناه تتململ في مكانها وتتحفز لرد التحية أو المبادأة بها، فأسارع إلى صرف نظري إلى الأرض أو إلى ناحية أخرى، فأنا لا أعرفه وهذه بداية ظهور الشبيه.

عندما ازدادت الأشباه، و ربا عددها على العدد الذي خلقه رب العالمين، حرت في أمري، وبت أتهم نفسي، وأشك في عينيّ، وأتخيلهما يشعان وميضا غير عادي يلفت انتباه العابرين، وهذا ما حملني على إرسال نظراتي صوب الأرض في معظم الأحيان، ليقيني أنها لن تنبت لي شبيها هي الأخرى، وإن كانت تحتفظ في جوفها بملايين من أشباهي، لكنهم لن يبرزوا لي إلا مرة واحدة، و في يوم معلوم.

حملني هذا الشك في عيوني، وقدراتها غير العادية، والتي لا أدري أنعمة هي أم نقمة، حملني إلى الغوص بعيدا، إلى بعض ذكريات شبابي، وأول عهدي بالحياة العملية، حيث عملت في بلد لا أفقه حديثا من لهجة أهله المحلية، فلم يكن لي بينهم أنيس ولا رفيق، فإذا خرجت إلى السوق سرت وحدي، وربما استعضت يومها عن الكلمات بالنظرات في التخاطب مع ما حولي من الكائنات.

ولست أنسى - ولو طال عليّ الأمد - هوايتي القديمة، التي أدمنتها في تلك البلاد، وهي مصادقة الأطفال، واصطيادهم من أحضان أمهاتهم. وكنت قد قرأت شيئا عن اتصال الأرواح على البعد، وأن التركيز الذهني على الشخص الذي تود الاتصال به، هو أول خطوات هذا الاتصال، فإذا طال تركيزك عليه، فإنه في الغالب سينجذب إليك، وتخطر على باله على البعد، فكيف إذا كان على القرب؟ بضعة أمتار فقط، وامتزج التركيز الذهني مع التركيز البصري، وتُرك للعين أن تأخذ مداها في التعبير عن المودة والاستئناس والاستدعاء، فالعين نافذة القلب والروح والبدن جميعا. فكيف إذا كان من تصوب نحوه هذا التركيز الذهني والروحي طفلا صغيرا؟

إنه لا يحتمل أكثر من لحظات معدودة، يبدؤها بمبادلتك النظرات المستطلعة، ثم لا يلبث أن يبادل ابتسامة عينيك ببسمة من شفتيه، يتبعها بإيماءة من رأسه، أو تحية من إحدى يديه. لا تنقضي الدقائق القليلة إلا وتجده قد تفلت من أسر أمه، التي تطوقه بذراعيها، وجرى نحوك واستقر مستكينا في أحضانك، تمسد شعره، أو تربت على كتفيه، لا تحتاج إلى أن تنبس ببنت شفة.

لقد راقت لي يومها هذه اللعبة، وعزمت على أن أُنميّ في نفسي هذه الهواية، وأجعلها تسليتي المفضلة، أمارسها في أيام العطل الأسبوعية، وكنت أختار الحافلات المتجهة إلى الأماكن الريفية، أو المنتجعات السياحية التي تحيط بالعاصمة.

ما كنت لأمارس هذه الهواية في حافلات النقل الجماعي داخل المدينة، فهذه مكتظة جدا وكثيرة التوقف والانطلاق، ولا متسع فيها للحظات التأمل والتركيز.

كنت أصعد إلى الحافلة المتجهة إلى إحدى الضواحي، لم يكن يهمني وجهتها، فإذا وجدت بين ركابها مجموعة من الأطفال في سن الثانية أو الثالثة، قد ركنوا إلى جانب أمهاتهم، اتخذت لي مقعدا متوسطا، وإن خلت الحافلة من الأطفال انتظرت حافلة أخرى. أحدد هدفي قبل اختيار مكان جلوسي، ما إن تنطلق الحافلة حتى أصوب القوة المغناطيسية المنطلقة من العينين، نحو الطفل أو الطفلة التي اخترتها هدفا لتجربتي.

ما كانت تنقضي دقائق إلا وترى الفريسة تتململ للانعتاق من طوق ذراع أمها متجهة نحوي، تتبعها أمها بخطاها لتعيدها إن كانت خفيفة الحمل، أو تتبعها بنظراتها، فإن آنست اطمئنانا وحنوا في نظراتي، تركتها بين يدي حتى نهاية الطريق، فربما خففت عنها حملها، وتركتها تركز اهتمامها على أخرى رضيعة تتشبث بصدرها،

و تتعلق برقبتها، أو لتعدل جلستها لترتاح من رفسات جنين يتكور في بطنها.

كنت أتباهى بهذه القدرة العجيبة على جذب الأطفال، وأحيانا كنت أصطحب معي صديقا في رحلتي، وأترك له حرية اختيار الهدف، ثم أطلب منه أن يتشاغل عنا بضع دقائق، وقبل انقضائها يكون الطفل في حضني. ما خسرت هذا الرهان أبدا إلا مع أم قد تسيء الظن بالنوايا، وتحسب أن البيضة تقود إلى الدجاجة، فتتشبث بطفلها وتمنعه من مغادرة جوارها، فأكف عن ملاحقته بنظرات جاذبة، وربما أبدلتها بنظرات طاردة تُنفِره، فيركن إلى جوار أمه.

والواقع أنني ما قصدت يوما إلى غاية أبعد من شحذ قدراتي النفسية، واختبار قوة التأثير، التي يمكن لعينيَّ أن تقوما بها نيابة عن لساني. وقد أوقعتني هذه الهواية في مزالق كثيرة، فغالبا ما كانت تفهمها الأمهات على أنها رسالة موجهة إليهن، ويكون الرد سريعا: إما إشارة امتعاض أو كلمة نابية - وهذا ما ندر- وإما استجابة تسبق استجابة الصغير أو تترافق معها، وهذا هو الغالب، فأغير حافلة العودة لأبدأ تجربة جديدة.

أدمنت ممارسة هواية التسلي باقتناص الأطفال وديًّا من أحضان أمهاتهم زمنا، إلى أن كان اليوم الذي التقيت فيه بـ"مليكة ". زهرة يانعة في الثانية من عمرها تقريبا، ذات عينين سوداوين واسعتين، و وجه يتدفق نضارة وحيوية وابتسامة ساحرة، سرعان ما تتحول إلى ضحكة مدوية، عندما تفلت من طوق حجر أمها مندفعة نحوي، لتركن إلى جانبي طيلة الرحلة من العاصمة إلى "حمام ملوان". ذلك المنتجع الجبلي ذي المياه المعدنية الحارة، حيث يمضي الزائرون سحابة يومهم إما جلوسا في المقاهي والمطاعم الجبلية، أو سابحين في الحمامات المعدنية، التي توصف بأنها علاج لبعض الأمراض الجلدية وأمراض المفاصل، أو مبتاعين بعض النباتات البرية أو الطيور الداجنة، أو بعض المصنوعات التقليدية اليدوية، التي يعرضها القرويون للبيع.

بعد العصر يبدأ الجميع في تأمين مقاعد العودة في الحافلات الآيبة، وأعود إلى نفس مقعدي في حافلة الصباح، فأجد مليكة وأمها قد سبقتاني إلى مكانيهما في نفس الحافلة، رغم أنني ما رأيتهما منذ نزلنا من الحافلة صباحا. ما إن تنطلق الحافلة في سيرها، حتى تبدأ مليكة في معاكستها لي، إن تأخرت عليها في تصويب النظرات نحوها، وما هي إلا لحظات حتى تستوي في حضني، وتركن وادعة مستسلمة، فإذا بلغنا مشارف العاصمة، واقتربت المحطة التي صعدت منها مع أمها صباحا، وبدأت أمها تستعد للنزول، أومأت لها، فألفيتها تقفز مثل قطة أليفة مُلوّحة بيمناها، ثم تتبع أمها. أودعهما بنظراتي حتى تغيبا في طريق فرعي، بينما أواصل سيري مع الحافلة إلى الموقف الأخير.

استمرت صداقتي لمليكة ذات السنتين عاما كاملا. أركب الحافلة صباح يوم العطلة الأسبوعية من الموقف الرئيسي في وسط العاصمة، فإذا بلغنا الموقف الذي صعدت فيه مع أمها أول مرة وجدتهما هناك، فتعاودان الصعود في نفس الحافلة، وتحرصان على الجلوس في مكان قريب مني. تبتسم مليكة الصغيرة محيية، ثم لا تلبث أن تندفع نحوي في نشوة غامرة، كأنها أمضت الأسبوع في انتظار لقائي مثلما أمضيته في انتظار لقائها. وقد صرت مع طول الصحبة أحسب حسابها ببعض الحلوى، أو بدمية صغيرة تزيدها تعلقا بي وانتظارا لموعدي.

وربما وجدت لديها من الشجاعة ما يجعلها تبادر، فتدس يديها في جيوبي باحثة عن هديتها الأسبوعية.

مرّ عام كامل على هذه الصداقة المتينة بيني و بين صغيرتي، ما تبادلت مع أمها كلمة واحدة، ولا أساءت الظن بي، ولم يبدر منها ما يوحي بأنها تطمع مني في شيء أبعد من هذه المودة الخالصة مع ابنتها. لقد أقلعت عن عادة التنقل في الحافلات، وملاحقة الأطفال بنظراتي التي تجذبهم، وتنتزعهم من حجور أمهاتهم. صرت أدمن النظر إلى صديقتي مليكة، و أكتفي بها دون غيرها. وأحيانا كنت أسائل نفسي قائلا:

 هل انقلب السحر على الساحر؟ وأصبحت أنا أسير نظرات هذه الطفلة الصغيرة؟ أنجذب إليها وأسير وراءها كل يوم عطلة؟ أنا الذي كنت أتباهى بقدرتي على جذب أي طفل نحوي خلال دقائق معدودة، صارت تجذبني نحوها طفلة صغيرة في الثالثة من عمرها، ولا تترك لي مجالا لاختلاس النظر إلى أي طفل من ركاب الحافلة سواها.

في صبيحة يوم عطلة صيفي، ركبت الحافلة كعادتي، دونما هدف سوى ما يشدني من خيوط نحو مليكة. وصلت الحافلة إلى الموقف الموعود، لم تكن مليكة ولا أمها هناك. هممت بالنزول لأعود أدراجي في الحافلة العائدة، فلم يعد لديّ رغبة لمواصلة رحلة اليوم، لكنني تخيلت أن أمرا طارئا قد أعاقهما، وربما تحضران في الحافلة التالية، وانتظرت حافلة العودة في المساء فما وجدتهما هناك.

أعدت الكرّة في العطلة التالية والتي تليها، فما عثرت لهما على أثر، فتوقفت عن رحلاتي العبثية، وأقلعت من يومها عن هوايتي في استدراج الأطفال من أحضان أمهاتهم. وما أظن حكاية الشبيه التي ظلت تطاردني، إلا بقية مما تركته فيَّ تلك الهواية القديمة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى