الأربعاء ١٥ آذار (مارس) ٢٠٠٦

القصة القصيرة بين آراء النقاد ورؤى المبدعين

على الرغم من ان السرد واحد من أقدم الفنون، فإن هذا لا يعني ان كل قصة يقل عدد كلماتها، يمكن ان تكون مثالاً لما عرف بعد بالقصة القصيرة. القصة القصيرة الحديثة (من ناحية مقارنة) جديدة في الادب، بل انها اصغر عمراً من الرواية. لقد تم تأصيلها في السنوات الاولى من القرن التاسع عشر، وبعد خمسين عاماً من ظهورها.
بلغت مرحلة النضج في اعمال عدد من الكتاب من ابرزهم موباسان وتشيكوف، ثم ازدهرت بحيث وصلت إلى اكبر قدر من التعبير المكثف الذي عرفته القصة، وتمثل ذلك في آمال عدد من الكتاب المحدثين الكبار في بداية ومنتصف القرن العشرين من امثال جيمس جويس (1882 ـ 1941م) وفرانز كافكا (1888 ـ 1923م)، وارنست هيمنجوي (1898 ـ 1961م) وغيرهم.

الا ان ثمة اشكالية تتصل بفن القصة القصيرة، اصوله، مفهومه، نظرياته، تقنياته.. وهي اشكالية لعلها تبرز في هذا الفن اكثر من اي فن ادبي آخر. وفي الواقع انه لم تسد نظرية لشكل القصة القصيرة، بل ان معظم سمات هذا الفن جاء بها الممارسون له من الكتاب امثال فرانك اكونور (1903 ـ 1966م) والناقد المبدع بيتس (1905 ـ 1974م)، وقبل ذلك ادجار ألن بو (1809 ـ1849م) وموباسان (1850 ـ 1893م) وغيرهم.

في البدء يمكن لنا ان نلاحظ ان معظم الكتاب مبدعين ونقاداً يركزون على مسألة الرد والرواية وكأنها التقنية الوحيدة! دون ريب، السرد هو البوابة الرئيسية التي يدلف من خلالها كاتب القصة القصيرة وكذلك الرواية، لكن هناك معالم ودروساً لا تساعد في رفع المستوى التقني للقصة والرواية فحسب، بل من دونها لا تكون قصة قصيرة انما تصبح شيئاً آخر.
وليس من الممكن الحديث عن القصة القصيرة بمعزل عن الرواية، فثمة تداخل بينهما. بل ان هناك من يرى انه من المستحيل تمييز القصة القصيرة من الرواية على أساس معين غاير الطول. الا ان المشكلة تكمن في انه لا يوجد تحديد لطول اي منهما، فالقصة الطويلة والرواية القصيرة، مفهومات للقصص التي ـ بسبب طولها ـ لا يمكن تصنيفها على انها قصة قصيرة او رواية.

من جانب آخر لا يستطيع احد ان يقول ان القصة القصيرة اكثر وحدة من الرواية، فكل منهما يمكن ان تكون ذات وحدة متساوية، كما ان الونيت والملحمة يمكن ان تكونا ذات وحدة متساوية، رغم الفارق الكبير في طول كل منهما. ايضاً لا يمكن لاحد القول ان القصة القصيرة تتعامل مع شخصيات اقل، او فترة زمنية اخصر من الرواية، وحيث ان هذه هي الحالة الغالبة، فإن القصة ذات الصفحات المحدودة يمكن ان تتناول عدداً كبيراً من الشخصيات خلال اكثر من عقد من الزمن، في حين ان الرواية الطويلة يمكن ان تقصر نفسها على يوم واحد في حياة ثلاث او اربع شخصيات.

تلك رؤية لبعض النقاد، لكن براند ماثيوز احد المنظرين الاوائل للقصة القصيرة يؤكد قبل قرن من الزمان 1901م ان القصة القصيرة لا يمكن ان تكون جزءاً من رواية، كما انه لا يمكن ان يتوسع فيها كي تشكل رواية، ويؤكد بشكل قاطع بأن القصة القصيرة ليست فصلاً من رواية، او حتى حادثة او مشهداً تم استقطاعه من قصة طويلة، لكنها في احسن احوالها تؤثر في القاريء بحيث انه يصل إلى قناعة انها سوف تفسد لو انها كانت اطول من ذلك او لو انها جاءت على نحو تفصيلي اكبر.

الا اننا في الادب العربي نجد عدداً من الكتاب تتداخل قصصهم القصيرة مع اعمالهم الروائية مثل يحيى الطاهر وابراهيم اصلان ومحمود الورداني. وقد اشار خيري دومة في كتابه (تداخل الانواع في القصة المصرية القصيرة) إلى ان يحيى الطاهر نشر قصصاً قصيرة في مجموعة (الدف والصندوق) ثم أدخلها بعد ذلك في سياق روايته (الطوق والاسورة) .

وينشر ابراهيم اصلان كثيراً من نصوص (وردية ليل) في الدوريات، ثم يعيد تجميعها واكمالها لينشرها تحت اسم رواية. وينشر محمود الورداني بعض قصصه القصيرة في الدوريات وضمن مجموعاته القصصية، ثم يدخلها بعد ذلك في سياق روايته (نوبة رجوع).

إحدى القضايا المهمة التي تتعلق بفن القصة القصيرة تتمثل في النظر اليه ضمن المقدار الكمي للكتابة مع اغفال كافة الجوانب الاخرى نحن على يقين ان القصة القصيرة هي الابن الشرعي او بشكل ادق يمكن ان تكون الشقيقة الصغرى لفن الرواية، لكن هذا لا يعني بحال من الاحوال ان القصة القصيرة رواية يقل عدد كلماتها.
القصة القصيرة لا تتحمل ان تعالج عدداً من القضايا لعدد من الشخصيات عبر اجيال مختلفة، لانها لو فعلت ذلك فلن تكون سوى سرد لاحداث متتابعة، تخلو من التكييف اللغوي والمعالجة المركزة، الروائي غالباً ما يتناول شخصيات اكثر، وربما يغطي بشكل تفصيلي فترة زمنية طويلة، ويتناول عدة جوانب من الشخصية الواحدة لكن هذا لا يحدث في القصة القصيرة.

ثمة اتفاق ان الروائى وكاتب القصة القصيرة يستخدمان نفس المادة، التي يلتقطانها غالباً من الواقع المعاش الذي يحيط بهما، لكن الاختلاف بينهما انما يكون في اختيار الصيغة والشكل الانسب للتعامل مع هذه الاحداث.

وهنا يؤكد الطاهر احمد مكي انه لا قيمة للزمن هنا. واذا كان (طول الرواية هو الذي يحدد قالبها، كما ان قالب القصة القصيرة يحدد طولها)، فإنه في الوقت نفسه (لا يوجد مقياس للطول في القصة القصيرة الا ذلك المقياس الذي تحدده المادة نفسها، فالروائى قادر على تحويل الثواني إلى دقائق في القراءة، واللحظة إلى تحليلات متأنية) القصة القصيرة تحوي العناصر الاساسية لتقنية الرواية لكنها تأتي بشكل مضغوط ومركز.

حين يأتي عباس محمود العقاد لتعريف القصة القصيرة نجده يربطها بالرواية لكنه يرى انها تخالفها. هذه المخالفة ـ حسب رأيه ـ لا ترجع إلى التفاوت في عدد الصفحات او السطور او الاسهاب والايجاز، وانما يكون في الموضوع وطريقة التناول. القصة القصيرة كما يرى فتحي الابياري تعالج جانباً من الحياة يقتصر على حادثة واحدة، لا تستغرق فترة طويلة من الزمن، وان حدث ذلك فإن القصة تفقد قوامها الطبيعي وتصبح نوعاً من الاختصار للرواية.

من جانب آخر هناك ارتباط عكسي من حيث الابداع، فماثيوز يؤكد في كتابه (فلسفة القصة القصيرة) ان المستوى الكبير الذي تمتاز به الرواية الاميركية في ذلك الزمن 1901م يعود الفضل فيه إلى القصة القصيرة، حيث نجد تقريباً ان كل روائي اميركي تقرأ اعماله من قبل الناطقين بالانجليزية، قد بدأ ككاتب للقصة القصيرة. وقبل ذلك في سنة 1887م اشار محرر مجلة الناقد إلى كتابة القصة القصيرة والرواية بقوله (كقاعدة يتم انتاج القصة القصيرة في مرحلة الشباب، في حين ان الرواية انتاج الخبرة).

وهناك العديد من كتاب القصة الذين حاولوا الهروب من القصة القصيرة، من ابرز هؤلاء تشيكوف (1876 ـ 1941م) ولعله انتقال او تطور من كتابة القصة القصيرة إلى الرواية وفي الثلث الاول من هذا القرن نجد ان عدداً من الكتاب العرب تحولوا من كتابة القصة القصيرة إلى الرواية، ومن هؤلاء احمد خيري سعيد ومحمود طاهر لاشين ومحمود تيمور ويحيى حقي.. كما يشير إلى ذلك سيد حامد النساج،. في محاولة لاعطاء تعريف للقصة كتبت الناقدة الاميركية برولكس في مقدمة (افضل قصص اميركية 1997م) تقول بأن القصة القصيرة شكل ادبي صعب.

يتطلب اهتماماً اكبر من الرواية من اجل السيطرة والتوازن انها اختيار المبتدئين في عالم الكتابة، تجذبهم بسبب ايجازها ومظهرها الودود (الخادع) للموضوعات المختصرة، او وظيفتها المدركة كاختبار حقيقي قبل محاولة كتابة الرواية ذات الخمسمائة صفحة. ولعله يجدر التأكيد ان هذا الرأي ليس على ظاهره فهو لا يجعل القصة القصيرة محطة عبور فقط، بل انه يؤكد واقعاً عايشناه .
ومازلنا في حياتنا الادبية يتمثل في ان الذين كتبوا الرواية مروراً بالقصة القصيرة اقدر على تملك ناصية الكتابة والتعامل مع التقنية السردية (ولندع الاستثناءات جانباً) لكننا نؤكد ان القصة القصيرة عالم فني متكامل بذاته ومحطة بقاء دائم لكثير من المبدعين.

د. رمضان ديوب


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى