الأربعاء ٨ أيار (مايو) ٢٠١٣
بقلم مادونا عسكر

سلاماً لك غزّة

قراءة في ديوان "ما يضرّ الكون لو أبقى حيّاً؟! "للكاتب والشّاعر الفلسطيني "سعيد الشّيخ"

هي لوحة كاملة متكاملة، تشاهدها بخشوع وتتأمّلها بمرارة، وأنت تعاين حديقة جميلة تدوسها أرجل من لم يفهموا يوماً معنى الأرض المقدّسة. هي مرحلة من تاريخ مخجل بحقّ الإنسانيّة تقرأ فيه بلاغة القتل، ومعنى الحداثة في مفهوم عقول لا تعرف من الحداثة إلّا الإبادة.

هي حقيقة تتحدّى بدعة حقوق الإنسان، ومنظّمات ومنظّمين يجتمعون وهم جالسون بتفاخر يناقشون حقوق الإنسان في البلاد الأنيقة. ويردّدون شعارات وخطابات وقرارات تلوّن بحبرها صفحات وصفحات ولا يذكرون أناساً يرقبون نوم الدّبابة كي يسدلوا أجفانهم، ويسرقوا من التّعب لحظات راحة.

هي غزّة، في ديوان الشّاعر "سعيد الشّيخ"، بل فلسطين كلّها، بآلامها ونضالها، بانتهاك حرمتها ومقاومتها. بسقوطها وقيامها، وبقوافل العابرين نحو الحرّيّة، نحو جنّة لا يفقه معناها من صنعوا دولة من وحش معدنيّ، ومن يفيضون كراهية على الإنسان والطّبيعة والبنيان.

يرسم لنا الشّاعر بلاده حديقة جميلة ببساطة رجالها ونسائها. هم ورود الحديقة يعانقون خيراتها، يعملون بجدّ وصبر، ولا يسمحون للكلل أن يحرمهم من متعة الحياة. هم مرتبطون بحديقتهم ارتباطاً حميميّاً؛ إذ كلّ تفصيل فيها يحتوي على جزء كبير من حياتهم. إلّا أن حديقة الشّاعر تشكّل مطمعاً للغرباء الآتين من الشرق والغرب، وكأنّهم اتّفقوا مع الكون بأسره على سحق ورد الحديقة. وبكلمات مختصرة في البداية ولكنها تحمل بين حروفها وعمق معناها تاريخاً مزيّفاً خطّه الغرباء في كتب خرافية، يؤرّخ لنا الشّاعر خطوات غزاة مدرّعين بالقتّل والكراهية، لا يفقهون العناية بالحدائق، بل يجعلونها أرضاً محروقة في سبيل امتلاكها.

يتجلّى المشهد الأوّل في تناقض بين السّماء والأرض، بين سيّد الحديد، وسيّد السّماء والأرض. فالأوّل يستخرج ناراً من جماد ليدرّ كلّ ما في كينونته من غضب وحقد وسمٍّ، والثّاني يستخرج من الغيوم رحمة كي يفيضها على أجساد الضّحايا. فيوحي لك المشهد بصراع بين الخير والشّرّ، وأيّهما الأقوى والأكثر فيضاً.
ويتساءل الشّاعر بإنسانيّة عالية على لسان بلبل:

لماذا يكرهون الزّيتون؟!
يسأل بلبل الحديقة
الّذي بات بلا غصن
وشريداً.

وهو يصوّر لنا مدى أنانيّة الحاقد الّذي يريد الحديقة له وحده حتّى وإن كانت خاوية إلّا من الأشباح الفرّيسيّة.
يؤرّخ لنا الشّاعر في مشهد ثان كيف يختار الفلسطينيّ موته، فهو، وإن كان الجنود يعدّون له موته، إلّا أنّه يسلم نفسه طوعاً:

إنّا أعددنا لكِ موتكِ،
يقول الجنود المنهمرون بالطّلقات
فاختاري كيف تموتين؟!
تقول اليمامة الرّاقدة على صغارها:
صبرا وشاتيلا، واللّيالي الثّلاث
جنين، من الظّهر وحتّى الأصيل
دير ياسين، على مرّ السّنين.

ذاكرة كيان يختار موته وهو يحمي الحياة بل وهو يمنحها. ذاكرة حافلة بالعار المنسوج من خيوط المؤامرات والمصالح السّياسيّة، وببصمات عار على جبين الإنسانيّة، يحطّ الحمام في حناياها تارةً وطوراً يطير، بل يختفي وكأنّه لم يكن. حمام غير الحمام، يخطف الأولاد من بطون أمّهاتهم في ليل غير الليالي، وغروب خجل، شهدت شمسه سحق الغرباء لورد الحديقة، وارتحالاً على مرّ السّنين، تعب التّراب من خطواته ولم يتعب الورد من النّظر بعيداً نحو السّماء في رجاء عظيم بمن حمّى الشمس وحمى البلاد.

وفي مشهد قدسيّ، يجعل الشّاعر من أمّه عنصراً متداخلاً في طقوس العيد. ففي حين ينهي حجّاج بيت الله طقوس العيد، لا تنتهي طقوس الرّصاص ولا تعترف بالعيد وتقتل البهجة كما الإنسان. ففي هذا اليوم بالتّحديد، يوم العيد، تتمدّد الأم على الرّصيف وكأنّها حوض الأرجوان في نيسان.

ثمّ ينقلنا الشّاعر إلى مشهد آخر يدير فيه سيناريو ساخراً عن المعنى العميق للحداثة الّتي يجسّدها مطر السّمّ الأبيض، أي الفوسفور الّذي يتوغّل في كلّ ذرّة من قطاع غزّة. ويستدعي العالم الأنيق ليعاين "الهولوكوست الجديد" أو " الهولوكوست الحقيقيّ" إن جاز التّعبير. فتلك الأكذوبة الخادعة الّتي استغلّتها الجمعيّات اليهوديّة لإيقاف النّقد ضدّ (إسرائيل) والّتي لا يمكنها أن تدافع عنها أخلاقيّاً، بات العالم بأسره يعلم، إن أعلن أو لا، كيف صُنعت، وكيف تمّ استغلال الغرب اقتصاديّاً وسياسيّاً. ويقول "البرفيسور نورمان فينكلشتاين" في كتابه (كيف صنع اليهود الهولوكوست): "إنّ إحدى أكبر القوّات العسكريّة وأعظمها في العالم وحيث إنّ فيها انتقاصات حقوق الإنسان هائلة قدّمت نفسها كبلد ضحيّة. وقد جنت أرباحاً هائلة عن هذا الوضع."

الإبادة الحقيقيّة هي هنا، في حديقة الشّاعر، حيث لا يمكن للتّاريخ أن يزيّف أو أن يبتدع أيديولوجية الهولوكوست ليبيعها أو يستغلّها. لأنّ المؤرّخ هنا هو الدّم الّذي ما زال ينزف من سنين طويلة ويتنقّل من مخيّم إلى آخر، ومن قطاع إلى آخر يصارع عواصف تهبّ بقوّة، لتبشّر بأمطار تحمل في ظاهرها بياضاً خادعاً وفي عمقها سواداً أعظم. المؤرّخ هنا جحيم حقيقيّ لا ينقل صورة عن الجحيم وحسب، بل هو الجحيم بعينه، فوهة مفتوحة مستعدّة لتجسيد محرقة حيّة وإبادة تخرج تفاصيلها عن المنطق!

النّقطة في آخر السّطر
من فصول المجزرة
لا ينبغي أن تمضي إلى انغلاق الأبواب
عليها أن تنساب إلى ملايين المجرّات
لكي يرى صاحب الكون
الجحيم
الّذي لم يصفه في كتاب.

في نظرة نهيويّة يجسّد الشّاعر تفاصيل الفناء ولكن بمنطق الّذين يأخذون الحياة وليس من يعطونها.

هو كمشهد الحشر
ولم يكن وقت القيامة كما وعدت الكتب القديمة
وحده لحم الفلسطيني يمتلئ بتفاصيل المشهد
إذ يوحي بالفناء الكامل

وحده اللّحم الفلسطيني الممزّق بين الأغصان المنكسرة يجسّد مفهوم الفكر التّلموديّ للقيامة. ووحده يدلّك على تفاصيل الفصول التّلموديّة دون الحاجة لقراءتها أو تحليلها. يكفي أن تنظر إلى الحديقة لتفهم!

لا تحضر السّياسة في ديوان الشّاعر، تلك الّتي تتحفنا بخططها المحكمة ومفاوضاتها البروتوكوليّة الرّنّانة، لأنّ الشّاعر أدار لها ظهره عندما أدرك ذوبان السياسات الغربية في كيان واهم أخضع له كل ّ السّياسات. واللافت أنّ الشّاعر لم يأت على ذكر السّياسات العربيّة إمّا لأنّه يئس منها أو ربّما لأنّه لم يشعر بوجودها أصلاً.

ديموقراطيّة الفوسفور، اجتاحت الكيان الفلسطيني بأكمله، واستحكمت بتفاصيله اليوميّة. من طفل يصرخ جوعاً والفوسفور يروي الزّعتر، إلى مؤمن ساجد في بيت الله. من فصل دراسيّ لا يعرّف عن ماهيّته سوى جثث تلاميذ متناثرة بين الأقلام والمساطر والكتب إلى رجل وقف فاقداً عقله وأولاده أمام دبّابة لا ليتحدّاها كما قالت الرّواية بل لأنّه نال الفناء قبل حينه. فالرّواية أنفع إلى بدعة حقوق الإنسان وإلى ديموقراطيّة الفوسفور أكثر من نقلها كما هي، بوحشيّتها وبربريّتها.

أيديولوجيّة الفوسفور غول حقيقيّ يخرج من الأساطير ليجعلها واقعاً حقيقيّاً ينفي به كلّ أسطورة عن الغيلان الأيديولوجيّة الّتي تقدّس نفسها وتحقّر الأنام، يسري الأذى في كلّ نقطة من دمها ومن كيانها. لقد فاقت كلّ الدّيكتاتوريّات وسبقتهم بأشواط بل منهجت الدّيكتاتوريّة الحديثة.

الصّهيونيّة غولة الأساطير تخرج من الكتب
وتأتي إلى فلسطين.. تشرّد أهلها
تبتلع الأطفال وتحرق الأشجار
في البلاد المقدّسة
تضع بيض الفساد
يفقّس دولة في دبابة
أذى نموذجيّ يشوّه وجه الكواكب

يحاكي الشّاعر " سعيد الشّيح" بحرقة ووجدانيّة شاعر المقاومة والثّورة "محمود درويش" إذ يقول:

نموت على هذه الأرض
نموت يا محمود
لأنّنا ببداهة لسنا العابرون
ولكن،
قد نعبر يوماً ونحن عائدون

فالعابرون في قصيدة درويش يخطفون ويسرقون ويدمّرون ويقتلون ويبطشون، وأمّا العائدون فيمنحون الدّم والسّهر على ورد الشّهداء، ويحيون كما يشاؤون. العائدون هم أصحاب الأرض ولهم أن يتجذّروا فيها شهداء ليزهروا أحياء كما الوردة تقاوم الحطام لتنظر إلى العلى.

ما يضرّ الكون لو يبقى الفلسطينيّ حيّاً؟! وما يضرّ الكون لو تتدلّى من روحه عرائش السّلام، لتنسكب عطراً على الكون بأسره. ما يضرّ الكون لو يبقى الفلسطينيّ حيّاً؟! وما يضرّه لو أزهرت الحديقة سنابل بهيّة تعانق السّماء.

هي تساؤلات إنسانيّة شاعر، تأمّلات قلبه الواقف على قمّة الشّعر يحمل بين يديه قصيدة يحاكي بها الله المحبّة، ويلامس بها أرض حديقة تتحدّى الفوسفور وهي تنتظر ميلاد حياة جديدة. فالحياة أقوى من الموت أبداً، وأعلم من الأيديولوجيات والسّياسات، وأعنف من رصاص يبحث عن ارتواء لفجعه. الحياة أقوى من عابرين بين سطور التّاريخ عنوة، وأبهى من دوي الإنفجارات. الحياة هي انتظار الميلاد أبداً، ها هي فلسطين.

قراءة في ديوان "ما يضرّ الكون لو أبقى حيّاً؟! "للكاتب والشّاعر الفلسطيني "سعيد الشّيخ"

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى