الخميس ١٦ أيار (مايو) ٢٠١٣
بقلم عبد الرحمن البيدر

قفص الحرية

يستفيق حسون مثقلا بتراكمات الشهور الاخيرة، مرض ابنه الوحيد، وازدياد المبالغ التي استدانها لتسديد اثمان العلاج، وتراكم الدين لدى بائع الخضروات الذي بدأ يسمعه كلاما مؤذيا كل ما مر من امامه، باع اغلب اثاث المنزل فراتبه التقاعدي الذي يتسلمه كل شهرين لا يفي قيمة علاج ولده لأسبوع واحد، اخذ يكثر من السير في الشوارع بلا هدف، هاربا من نظرات ابنه الوحيد الذي بدأ يستسلم للمرض بعد ان ذبلت ساقاه اللتان داهمهما الشلل اثر سقوطه من شجرة الكالبتوس التي كان يهوى تسلقها، لم يعد حسون يلقي السلام على احد كما كان من قبل، ولا يجلس في المقهى مع زملائه، السير المتكرر في الشوارع اخذ يدفعه الى الهروب من ذاته، في نفسه يلعن القدر الذي اوصله الى هذا الحال، التعثر بين طيات القدر وخلجات نفسه القلقة اكبر من طاقته على التحمل، يرفع رأسه مراقبا انثناءات الغيوم، وسكون السماء، وحول اذنيه تهكمات بائع الخضروات ( عيني.. سلم علينا )، ويقصد سدد الدين، لقد اختلفت الكثير من المفاهيم، وضاعت الكثير من القيم، لا احد يهتم إلا بنفسه، انكفأ لدى الناس حب المساعدة والمشاركة في هموم الاخرين، ما الذي اوصلنا الى هذا الحال ؟ لا يجد اجابة واضحة على تساؤلاته، وعندما يزحف الليل نحو المدينة يعود الى البيت وفي نفسه رغبة قلقة، يتمنى ان يجد ابنه اسيرا للنوم، ليسند هو رأسه على يده ويتأمل قليلا عسى ان تأخذه اغفاءة تسافر به وتبعده عما هو فيه.. زوجته التي داهمها مرض السكر لا تطلب منه اصطحابها الى الطبيب فهي تعلم بالحال وقد باعت حتى خاتم الزواج لتساهم في توفير علاج ابنهم، لا تنام إلا حين تأخذها اغفاءة وهي جالسة بالقرب من ولدها، اخر مرة رأت فيها السرير كانت يوم اشتراه البائع الجوال الذي يشتري قطع الاثاث القديمة من اصحاب المحلة ويبيعها في سوق ( الجمعة )، لقد نسيت حتى انوثتها وغزا وجهها الانكماش.
حسون لم يعد يطيق الصبر، وبدأ يفكر بالسرقة، لأول مرة في حياته يميل الى الانحراف وهو الذي قضى حياته عصاميا منذ ان كان في الجيش، اخر ما تبقى لديه في البيت هو المسدس الذي يحتفظ به منذ سنين حيث اشتراه من احد اصدقائه، تراكم لديه الغضب على كل شيء، على القدر، وسوء الحال، والزواج المتأخر الذي لم يجن منه إلا الولد الوحيد الذي شل حياته، كان مؤمنا ان دفع حياته ثمنا لسرقة يشفى بعدها ابنه وتؤمن معيشة عائلته بضع سنين لن يكون باهظا..

حمل المسدس واتجه الى المصرف القريب، جلس على الرصيف المقابل للمصرف يراقب الخارجين وهم يحملون اكياس النقود، يفتش بينهم عن صيد سهل، تكرر ذهابه الى المصرف، اخذ يكثر من مراقبة مندوب مصلحة الماء الذي يحضر الى المصرف بشكل متكرر لإيداع المبالغ المستحصلة، قرر في نفسه سرقة مبالغ تعود الى الدولة وليس الى الاشخاص، فهو يعتقد ان الدولة مسؤولة عن ما الت اليه حياته، وبعد أن حفظ طريق مندوب مصلحة الماء لف وجهه بكوفية سوداء ونصب كمينا عند نهاية الفرع الذي يؤدي الى المصرف، حضر الرجل حاملا كيس النقود فوقف حسون بجانبه واضعا المسدس في خاصرته مهددا اياه بالقتل ان لم يتخل عن الكيس، وافق مندوب المصلحة وأعطاه الكيس الذي اخذه وذهب فارا..

عاد الى البيت بعد ان اخفى النقود في جيوب بدلته، اخبر زوجته بأنه جلب مبلغا من المال وطلب منها التهيؤ للذهاب الى المستشفى الخاص للكشف على ولده وإجراء العملية التي قال له الاطباء في البداية ان نسبة نجاحها خمسون في المائة،
سألته زوجته عن مصدر النقود.

• لقد استدنتها

• وهل عاد من يعطي دينا

• نعم ذهبت الى صديق قديم فوافق على تسليفي مبلغا كبيرا

• وماذا يعمل صديقك، هل اعرفه

• لا انه في مصلحة الماء، لم تريه من قبل

• الم تقل ان المفاهيم تغيرت

• نعم ولكن هناك مفاهيم اخرى

• ماذا تعني

• لا شيء

ذهبا بابنهما الى المستشفى الخاص وعرضاه على نفس الطبيب الذي وافق على اجراء العملية بعد ان دفع حسون كل التكاليف، وبين ترقب وقلق امام صالة العمليات دام ساعات طويلة خرج الطبيب وهو يتصبب عرقا..

• لا فائدة، الولد لن يتمكن من المشي

انزعج الاب ونظر الى الطبيب بشيء من الغضب.

• الم تقل ان نسبة النجاح خمسون في المائة؟

• نعم، ونسبة الفشل كذلك

اطرقا رأسيهما وبدأ يساوره الندم على ما فعله مع مندوب مصلحة الماء الذي أودعوه السجن بتهمة خيانة الامانة، ازداد همه ولم يعد لديه أمل في شيء، فالنقود لم تنفع في شفاء ابنه، وضاع تاريخه بما فعله مع مندوب مصلحة الماء، فقرر ان يتحرى عن الرجل والسجن الذي يقطن فيه ليقوم بتسليم نفسه والاعتراف بفعلته....اخرج الولد من المستشفى وأوصله الى البيت وابلغ زوجته بما فعله مع مندوب مصلحة الماء وما قرر فعله الان.

عرف عنوان السجن ووصل الى الزنزانة ووقف امام الرجل، اندهش مندوب مصلحة الماء وشب واقفا دافعا نفسه بفوران نحو الباب، امسك بالقضبان معاتبا..

• لماذا فعلت معي ما فعلت يا ظالم؟

• كنت مجبرا.

• وما الذي جاء بك؟

• قررت ان اعترف وأتحمل الجزاء فأنت لا ذنب لك.

• اشرح لي اكثر، انت رجل غريب الاطوار، تسرقني ثم تأتي برجليك الى السجن.

• يا اخي سرقت المال لغرض علاج ابني الوحيد فقد بعت كل اثاث المنزل دون جدوى.

• ولماذا لم تبع المنزل؟

• ليس ملكي، انا مستأجر.

• وماذا حصل مع ابنك؟

• لا فائدة، اصيب بشلل لا يمكن شفاؤه؟

• لا اله إلا الله.

• اين ضابط المركز؟

• هناك في الغرفة الاخيرة.

• انا اعتذر منك مرة اخرى، وسأذهب لتسليم نفسي.

ذهب الى ضابط مركز الشرطة، اخبره بأنه هو من سرق النقود من مندوب مصلحة الماء، فتح الضابط محضر التحقيق وبدأ بإطلاق الاسئلة:

• ما اسمك؟

• حسون خضير حسون.

• كم عمرك؟

• واحد وخمسون.

• عملك؟

• عسكري متقاعد.

• لماذا سرقت النقود من مندوب مصلحة الماء وأين ذهبت بها؟

• لغرض علاج ولدي الوحيد.

• ولماذا لم تعالج ابنك في مستشفى حكومي؟

• لا يوجد في المستشفيات الحكومية عمليات جراحية دقيقة.

• وهل هذا سبب كاف للسرقة؟

• حين لا توفر الحكومة مستشفيات متطورة ماذا نفعل؟

• تحترم النظام والقانون.

• نحترم النظام والقانون حين تحترمنا الحكومة.

• الست نادما على فعلتك؟

• بلى وهذا ما جاء بي.

دخل السجن ليشعر ببعض راحة الضمير، وتمنى ان يكون السجن ملاذا له من نظرات ابنه الذي لم يستطع ان يعيد الحياة لساقيه.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى