الخميس ١٦ أيار (مايو) ٢٠١٣

ذكريات شاعر

محمد بوثران‬‎

ساعة معصمه تشير إلى تمام العاشرة صباحا، يشرب قهوته الصباحية الباردة على ثلاث دفعات، يطوي جريدته المفروشة على الطاولة و يضعها على عجالة من أمره في محفظته
الواسعة.. تمر دورية للشرطة يرتعد لها المكان، يجمد الجميع في مكانه منتظرا عبورها إلا هو.. يخرج من الباب غير مبال، يردد بصوت منخفض و لكنه مسموع أناشيده
الوطنية التي يتغنى بها دائما..

يصطدم به وهو يحاول الاختفاء في ضوضاء الشارع و الابتعاد قدر المستطاع.. شاب في العشرين من عمره، بذلته المرتبة تخبرك الكثير كما تخفي عنك الكثير، لا يكلف نفسه عناء الالتفات وطلب العفو، مكتفيا ببضع كلمات تمتصها تلك الآذان الصاغية المنصوبة في كل مكان قبل أن تصل إليه مختلطة بجملة لامتناهية من العبارات التي تطيش إليه من هنا و هناك.. يوقظه مواء قطة تعبر الشارع من غفوته، ساحبا إياه إلى واقعه البائس.. لم يعد بمقدوره الاستمرار أكثر في هذه الأكذوبة البلهاء التي يحاول هؤلاء السياسيون المحنكون دسها في رأسه، فالعمل الفدائي حسب رأيه يكون بحمل السلاح لا بإعطاء أوامر من فوق مقعد وثير، و يتحمل الشباب المكافح مسؤولية تنفيذها.. دون أخطاء طبعا.. يشتم عملاء الحكومة الفرنسية
ممن تجردوا من وطنيتهم مقابل قطعة خبز تشبع بطونهم لا غير، تاركين الأغلبية في الشوارع تصارع من أجل العيش.. حمقى هم الأدباء الذين يكتفون بالمراقبة من مكان بعيد في هذه الأيام الصعبة، حتى و إن اعتبرهم قادة الثورة مناضلين بدرجة ضابط صف.. هو يرى قلمه غير قادر على قتل ذبابة واحدة، فكيف بثورة شعب كامل ضد ثورة عسكرية تعد وحداتها بعشرات بل مئات الآلاف.. قصة أو قصيدة شعر لن تكون يوما في مقام الرصاصة، الكل يعلم ذلك لكنهم لا يريدون أن يجرحوا مشاعر هؤلاء الحمقى، أم أنه الوحيد الذي كان يفكر هكذا؟..

كان عليه الجلوس مطولا في المحطة و انتظار القطار، ’يبصق’ على الأرضية الإسفلتية، يمسح بحذائه عليها.. يخرج قلما و ورقة من محفظته، يتخذ لنفسه جلسة مريحة على الكرسي، يهز برأسه، يفرك أصابعه،و بخفة يمزق الورقة و يرميها في سلة المهملات بجانبه، يرجع القلم إلى المحفظة و يغلقها بإحكام.. يقوم من مكانه و يحاول أن يسرع حتى يجد له كرسيا شاغرا في القطار لربما نعم بقيلولة قصيرة ريثما يصل إلى وجهته، يتنفس الصعداء عندما يجد أمامه كرسيا يطل على الواجهة الجنوبية للقطار، يمهد نفسه للدخول في غفوته لكن ملامح تلك الشابة
تدفعه لإلغاء الفكرة، كالعادة تتعرف عليه و تسرع بإلقاء التحية.. يستقبلها بابتسامة عريضة، يوقع في مذكرتها التي تخرجها من حقيبة يدها تلبية لرغبتها، يعرض عليها فنجان شاي عندما يصلان للمحطة، توافق دون تردد، أما هو فيعود لفكرته الأولى و يستسلم للنعاس..

تجره من يده.. لقد وصلنا للمحطة، قم.. يتأمل وجهها الأنثوي الجميل، يحاول أن يجد في قلبه مكانا لفتاة مثلها رغم أنه يعلم أن لا مكان للحب فيه.. يحاول أن لا يشرد و أن لا ينسى أن برفقته شابة تنتظر منه التفاتة في أي لحظة.. يستقر بهما الأمر في مقهى صغير قرب المحطة يطلب فنجاني شاي..فجأة ودون سابق إنذار ينقطع كل عنه شيء.. في اليوم الموالي، لا يمكنك أن تتصفح جريدة دون أن تقرأ عن حادثة الأمس التي راح ضحيتها كثيرون و نجا كذلك كثيرون، منهم شاعر وطني معروف لدى العامة و الخاصة صنف في عداد المفقودين..

بعد حوالي خمس سنوات من ذلك اليوم الذي مر على الجميع مرور الكرام.. الشوارع هادئة على غير عادتها، شاعر يسلك الرصيف ذاته الذي سلكه شاعر آخر منذ خمس سنوات دون أن
يرتطم به شاب في العشرين من عمره، متجه نحو محطة القطار.. يصعد القطار فور وصوله دون أن يضطر للانتظار، لا يفكر في أخذ غفوة قصيرة و لا تدفعه ملامح أي شابة لإلغاء أية فكرة.. أما هو الآن بعد خمس سنوات فصورته مختلفة.. يركل علبة ’البيرة’ الفارغة الملقاة على حافة الطريق، تنسكب منها بضع قطرات فيمد يدا متسخة إليها، يرتشف ما علق في قعرها..
يستخرج من جيبه سيجارة يشعلها بقداحة كان حصل عليها بالأمس من أحد المارة الذين كانوا كرماء معه، يستنشق دخانها الذي يعلق في رئتيه.. كان ضوء مصباح الشارع الرئيسي الخافت رفيقه الوحيد تلك الليلة، يهتدي إلى كرسي خشبي متهرئ يتوسط مساحة جرداء، كانت لتصبح حديقة جميلة لو انتهت الأعمال فيها، لكنها لسبب ما لم تستمر.. يسب الذباب الذي يحط على وجهه و يلطمه بكفه.. يجول ببصره في المكان فيقرر أن عليه الانصراف.. إلى أين؟!.. لكل شخص في هذا العالم بيت يرجع إليه كل مساء ليأخذ قسطا من الراحة وينعم
بأحلام سعيدة.. لكنه على عكس كل هؤلاء يأوي إلى زاوية ضيقة من الشارع، يحتضن علب
"الكرطون" الفارغة.. يبصق في كفيه، و يفركهما لربما أحس ببعض الدفئ الذي يذيب
الجليد عن أطراف أصابعه. تسبح في ذهنه ألوف الصور المبعثرة، يقلبهاة بين عينيه كمن يقلب بين عينيه كمن يقلب صفحات كتاب بالية محي أو ضاع أغلبها.. صورة منزل متواضع يبدو و كأنه مألوف لديه، و هذه الصورة المعلقة على الجدار تشبهه كثيرا، بل إنها نسخة طبق لأصله.. يحاول التعمق أكثر في التفاصيل، ينهره صوت عبور سيارات الشرطة.. يجمد في مكانه، و يدس رأسه بين فخذيه.. تراوده كوابيس مرعبة، يحاول التملص منها فلا يستطيع.. تعود من جديد تسبح في ذهنه تلك الصور المبعثرة التي يجهد نفسه في ترتيبها.. ’بناية تحترق، جثة شابة في مقتبل العمرتغرق في دمائها، صفير سيارات الإسعاف،.. ثم لا شيء.. لا شيء سوى هذا المتسول العجوز الذي يرتجف بردا حتى لكأنّ أعضاء جسمه التصقت بعضها ببعض.. لقد مل هذا الجسد المترهل و هذه الثياب البالية، هو يرى في نفسه شخصا مهما غدر به القدر فينفجر مقهقها.. يرفع رأسه للسماء و كأنه يقول هازئا لمن فيها.. " شكرا على هذه النعمة التي أنعمت علي بها، أن أعطيتني من كل هذا العالم الواسع جملة لا متناهية من اللاأشياء.. نعم، فكل ما يملكه هو لا شيء.." لا يطيل التفكير، فهو لا يهتم كثيرا لما وقع قبل خمس سنوات، لا يريد أن يتعمق أكثر في جغرافيا حياته المبهمة و لا يحاول أن يتذكر أنه كان يوما ما ذا شأن.. لذا يقرر أن عليه الاستسلام للنعاس أخيرا، دون أن يفكر فيما وراء هذه اللحظة..

محمد بوثران‬‎

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى