الأحد ٩ حزيران (يونيو) ٢٠١٣
مدينة العميان

قصص إعادة خلق الذات

بقلم: وفاء الجبالي

ما يسترعي الانتباه في مجموعة (مدينة العميان) القصصية للكاتب هاني حجاج، أنها مكتوبة بعمق شديد بالغ التأثر بمختلف الثقافات الإنسانية. وبتفهم للشخصيات والأحداث والدوافع يستند على وعي صوفي حكيم لا يتهم ولا يستفز لكنه يحاول بإصرار مخلص أن يفهم ويحتضن الجميع.

وتتميز (مدينة العميان) برونقها الكلاسي الحريص على أن ينأى بشكله ومضمونه عن الشكل المتشظي المعاصر للأدب، فالقصص في هذه المجموعة واضحة الرؤية والعبارة والشكل التعبيري من خلال جهد بالغ البراعة من المؤلف الذي استخدم هذا التكنيك الرصين لمناقشة مسائل جوهرية تتعلق بذاتية الإنسان ومكانه في العالم.

نصوص هذه المجموعة رائقة ممتعة للغاية لها حرص تشيكوف في قصصه القصيرة ونجيب محفوظ في مجموعاته على إثارة الدهشة والتقاط مواقف النشوة والفكاهة من الحياة العادية اليومية، كما يجب قراءتها على عدة مستويات لفهمها، المستوى الأول يكمن في التوازن الهندسي الرائع لثنائية الواقع والخيال الكاشفة لتجاور مباديء قديمة لمفاهيم جديدة ومجتمعات عتيقة لعالم معاصر، واستعادة مواضيع تراثية تعجبية لقراءة معضلات العصر، ومجاورة القديم للجديد، والقبيح للحسن، العشق والانزجار. الزمن في مجموعة هاني حجاج، ذهني أكثر منه مضطربا بفعل الحوادث، وهو ما يجعل الإحالة الميتافيزيقية لبعض القصص تجبر الزمن أن يكون بطلا فانتاستيكيا داخل النص، وهي مقدرة نادرة تجعل الكاتب المتمكن يتوقف لمدة أو يرجع للماضي السحيق، أو يفر نحو المستقبل، ويبدو سريعا حينا، وبطيئا حينا آخر. الهجاء والفكاهية والسخرية موجودة هنا بكثرة، ليس كنوع محدد من السلوك وإنما إدانة عملية لما يسمى بالحماسة الإنسانية، فهو ذهول ممنهج كذهول دون كيشوت الأكثر كوميدية في العالم، بل هو الكوميديا نفسها. وهي الحقيقة التي صاغها برجسون في قوله: الكوميديا اللا معقولة هي من نفس طبيعة الأحلام.

إنه لشيء شديد الدلالة على تمكّن الكاتب من أدواته، فاستخدام السخرية المُرة بحيث لا تستخف بالعمل لهو أمر لا يقدر عليه الجميع، خاصة إذا قرأت معالجاته الحكيمة الصلبة ذات البعد المنطقي والمنهج العلمي للمناقشة والحل، مغلفا كل ذلك بألوان فلسفية عدة تشي بدراسة شاملة للسلوك الإنساني وتطور النظريات الفلسفية لكشف القناع والوصول إلى الجوهر وتحدي الزيف، إنه بالتأكيد يرى للفلسفة أهمية خاصة فليست هي الكلمات وليست الغموض ومصطلحات معقدة تحتاج للشرح الطويل.

لغة القصص المكتوبة خبيرة في المرارة لكنها لا تحيل الشكل النقدي للواقع لأي شخص أو جهة وإنما على سمة من سمات الإنسانية والعالم. فهي مجموعة قصصية عميقة لا يُسبر غورها، قبضت على عمق الوجود وقدمته تحت مظلة الدهشة.

بقلم: وفاء الجبالي

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى