الخميس ٢٧ حزيران (يونيو) ٢٠١٣
بقلم مصطفى أدمين

رحلة بلاد كـَلـَخان

حدثني أبو ضياء قال:

البلد الوحيد الذي خفتُ من زيارته هو بلاد كَلَخان. وهو في شكل لطخة على أرض المعمور، وله حدودٌ ستة (6): مع سرقونيا، هلوفستان، الخلاء والقفار، خبزكستان، بقدونيا، وبلاد الكامْبودْج.

لم أتشوق إلى هذه الرحلة أبداً. ولولا تقديري الشديد لأستاذي أبي جنان لما قمتُ بها؛ ولتحمّلتُ توبيخ الدارسين لأدب الرحلات، وشماتة الغيورين والحساد، وامتعاض طلبتي مني لكوني سأكون تخلفتُ عن فصل مهم من فصول رحلاتي الخارقة. الأستاذ قال: «عليك الآن بزيارة بلاد كلخان الامتحان!» ثم أقفل بابه على سؤال كان على باب فمي.

صديقتي وفاء كانتْ ساعتها؛ ولما رأتني أستفهِمُ بعينيَّ الأمرَ الخطير، ربّتتْ على كتفي وقالت:«تصبّرْ على اختبار الأستاذ» وتركتني لحيرتي وتوجسي.

كلخان. أعلم أن الذي يزور هذا البلد لا بدَّ أن يفقدَ عقله. أذكر أن ابنة اللص الأول حاكم بلاد سرقونيا حكت لي عن البلد المجاور لبلدها؛ والذي زاره بعض أبناء وطنها للتجارة، فكانوا يعدون بالمال وبـِداء الكـُلاخ. هذا الداء لا يجعل المرء يفقد عقل، بل يتصرف وكأن له عقلا ليقترف أمورا لا علاقة لها بالعقل ويبررها عقليا.

قبل الدخول إلى كلخان من سرقونيا، عرجتُ على بيت ابنة اللص الأول في ذلك الدرب الذي يشبه دروب مدينة ستكون في المستقبل واسمها مراكش. دربٌ مظلم، ومداخل بيوت واطئة، وخوف.

بمجرد أن لامستْ أناملي بابَها المتواضع، انفتح، وظهرتْ كما عرفتُها آية من الجمال الخلاسي. وكأنّها على علم بقدومي. وكانتْ غير متزيّنة إلا بجمال بنات مراكش المستقبلي: كُحلٌ في عينين، شامة ٌ حُرْجوسية على خد، سِواكٌ عَطِرٌ في فم، عَكَرٌ أحمرَ فاسيٌّ على شفتين، تزويقُ حِنّاء على يدَيْن، قفطان سَلمون مُطرّز بآيات العشق، ونحْرٌ ممتد.
ـ بقيتْ لنا قراءة النص بالقلب. قالتْ.

في الصباح قالت: إيّاك أن ترجع لي بداء الكُلاخ! ومكّنتني بـِصُرة قالتْ فيها من الأدوية ما يعالج كلّ داء.

في الظهيرة، كنتُ على أبواب كلخان. واطئ ٌ وقصير وبمقدار قامة رجل عادي وكبير وأخير بمقدار عملاق. والناسُ حسب طول قامتهم يدخلونه من هذا أو ذاك.

سألني أحدُ الجمركيين:«هل أنت صائم؟» فأجبته:«ماذا لو قلتُ لك إنني غير صائم؟» فاستنفر هراوته وقال:«في هذه الحال سأذهب بك إلى السجن» فقلت:«اطمئن يا عسكري... أنا صائم» فردَّ:«هكذا صحّ» وتركني أعبر.

لما استقللتُ عربة نقل، قال الحوذي:«هل أتيتَ وحدك أم معك صديقة؟» فكان أن سألته لماذا، فردَّ:«لو أنك مع صديقة لتدبّرتُ لكما بيتا...».

في الطريق رأيتُ قنطرة على تلّة لا يعبرها أحد، وعمارة ضخمة ليس لها نوافذ، وأشجار زينة وسّختْ الإسفلت بثمار وسخة، ودكاكين مكتوب على أبوابها « التسوّل من الإيمان» وأخرى عليها «السرقة تجارة والتدليس شطارة» وأخرى «هاتِ درهما وتكلّم ساعة» والناس تؤدّي الدراهم وتتكلّم في الخواء.

ورأيتُ ساحة فيها حلقات من الناس. استوقفتُ الحوذي وسألتُه كم أجره؛ فاخرج أصابعه وراح يعـُدّ ُ:«درهم ودرهم ودرهم...» ولمّا استنفذ أصابع يديه، أخرج أصابع رجليه، وعندما استنفذها، أخرج لسانهُ، ثمّ غمز بعين، ثم بعين. ولما استهلك جميع أعضائه، خفتُ أن... وكانت الأجرة عشرة أصابع يدين وعشرة أصابع رجلين ولسان وغمزتين.
سألتُه:«هل فندقي ما زال بعيدا؟» فاستخرج خارطة طريق واستغرق يتفحصّـُها ثم طواها وأشار:«فندُقك هو ذاك» ولم يكن يبعُد عن الساحة سوى بدقيقتين (مشياً على الأقدام وليس على الرؤوس).

رأيتُ. ويا ليتني ما رأيت: قرداً يمسك بآدميين بسلاسل ويجعلهم ينطـّون ويرقصون، وخطيباً يخطب في ناس وضعوا على رؤوسهم جـُلاّت بقرية، ومجموعة غنائية صوفية تردّد [العام زوين. العام زوين. العام زوين. العام زوين...] وصحافي يـُعلّق على مباراة في ذهنه ويقول:«...الهجومُ أضاع الكرة بشكل جيّد... الجمهور لم يحضر المباراة... التنظيم جيّد... الحَكمُ الأول يطرد أحد حُكـّام (؟) الشرط... الطبيب الرياضي يُخرج بصلة... يفرمها بشكل جيّد... يشمّـِمُها لأحد اللاعبين ... اللاعب انكسرتْ ساقه...»

في نفس الساحة، آلمني الجوع. تقدّمتُ إلى شوّاء فرحّب بي قائلا:«تذوّق هذه الكفتة... والله إنها من لحم العـُجول» وشرع ينبح. فأحسستُ بيد غريبة تستكشف جيب سروالي فقبضتُ عليها:«ماذا تفعل في جيبي يا أخي؟» فأجابني فـَمٌ:«معذرة... أنا لست من هنا». وتقدمّت منـّي امرأة شابّة جميلة متبرجة وعلى صفحة جسدها الأبيض لطخات وردية:«هل لك في؟» فسألتها عن البـُقع الوردية فأجابت وهي تضحك:«لا شيء... إنها من النوّار الزهري.»
رأيتُ وسمعتُ ويا ليتني ما رأيت وسمعت.

في الفندق، استقبلني المسؤول ليسألني:«كم خمسة أيام ستقضيها معنا على أبعد تقدير؟» ومن دون أن أسأله لماذا، أجاب:«...ذلك لأن غرفتـَك محجوزة بعد هذا التاريخ». لحظتها سألتـُه:«هل تعرف متى تخرج إلى سرقونيا قافلة يوم السبت ساعة العاشرة بالضبط ؟» فحرّك رأسه بالنفي.

لم أطلبْ أكلا، فجاؤوني بطعام وسألوني إذا ما كان سيعجبني. وبنديم وسألوني ما إذا كنتُ لن أتخاصم معه، وبامرأة في مثل الكارثة ونصحوني بألاّ أتحدّث ْ معها لأنها مُصابة بداء النساء، ثم بجهاز تلفازي ألصقوه على حائط الغرفة وقالو:«لا تتعبْ نفسَك، فهذا الجهاز لا يعمل». وما اكتمل الليل حتى جاؤوني بطعام السَّحور: كباب وكفتة وطاجين وكسكس وسبانخ بالأرانب و وأرانب بالسبانخ وخمس بيضات و بيض وبصل وفول مدمّس ومُدمس مفلفل ومسدس بخمس طلقات وملح و«عيش الكريم على خبز وماء*** وعيش اللئيم على مكر وداء» وورقة مكتوب عليها [إن شاء الله] وأخرى مثلها مكتوب عليها [إن شاء الله] وورقة غير مكتوب عليها [يا ربّ؛ ارحمنا من داء الكـُلاخ].
هذه الورقة غير المكتوبة أصلا، هي ما جعلتْ بني كـُلاخْ يتهمونني بالتجسس وبأكل رمضان ومنه بالكفر.

تساءلوا:[من أيّ بلد غرباتيا أتى هذا الغريب؟ فإن كان لأجل أن يستكمل كتابَه حول أدب الرحلات، فنحن لسنا رحلة، ولكننا سنقوم بما يلزم لكي لا يتجرأ أصحاب اللزوميات على فعل ما فعل هذا اللزومي المُكنّى بأبي ضياء... الظلامي]

لحظتها تناولتُ سبّابتي وغمستُها في مَرق أصفر ورحتُ أكتبُ ما لم يحدث لي في بلاد كلخان على ظهر قميصي...

لحظتها عرفتُ أنني أصِبتُ بداء الكـُلاخ ؛ فاستخرجتُ صُرّة صديقتي، فوجدتُ فيها قبلة شكلاطية مطوّلة كانت البلسَم الذي شفاني.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى