الاثنين ٢٠ آذار (مارس) ٢٠٠٦
بقلم مروة كريديه

وصراع الكائنات "المؤدلجة"

منذ طفولتي وأنا منشغلة بمحاولة فهم البُنى المؤسِّسَة للمجتمعات، والدلالات الرمزية والمعنوية للبعد السلوكي عند الكائن البشري، لا لحذاقة أتحلى بها، بل لأني ولدت في مكان اسمه لبنان في احد أحياء بيروت، صبيحة انفجار حرب طائفية أحرقت الأخضر واليابس وتركت البلاد حجر على حجر، فتحتُ عيني لأجد مجازر يومية دامية، لا أفهم سببها وتَحفرُ في ذاكرتي صور لمآسي لا تنتهي تشوه جمال مخيلتي وتقتلع الابتسامة عن شفتيّ اقتلاعًا...

كانت البلاد تموج وتعج بشعارات " مؤدلجة " غير مفهومة ولا معلومة لا عند الناس حتى عند معظم حامليها... كنت أقف كالبلهاء أمام أحداث لا افهمها... وأفعال مجتمعية لا أدرك أبعادها...

وتعود بي الذاكرة لعام 1981 وأنا في السادسة من عمري , عندما كنا في أحد الفصول الدراسية ودخلت " الناظرة " الكريمة بورقة طويلة, حاملة قلمًا احمر قائلة " من كان مسيحي فليقف" فوقف من وقف ... فسألتها : مدام هل أقف أم اجلس ؟؟ فأجابتني: "ابقي جالسة" فجلست وأنا لا افهم لماذا وقف من وقف ولا جلس من جلس... ثم دخلت بعد قليل ممسكة بالورقة نفسها حاملة قلما اخضر لتقول من منكم "شيعي " فليرفع يده...

و في اليوم التالي اقتحمت علينا صفنا المتواضع الذي سينهار على رؤوسنا لشدة التصدعات الموجودة فيه لتعلن لنا بصوت " أجش: من كان "سنيّا" فليقم... فرفعت إصبعي النحيل لأسألها: ماذا أفعل ؟؟ هل أقوم أم أقعد ؟؟ فسألتني : أنت بنت مين؟؟ فقلت لها: "كريدية" فهزت رأسها : من بيروت ؟؟ قفي إذن !! فقمت...

كانت مسرحية "طائفية" بامتياز أبطالها "أطفال أبرياء" لا يفهمون ما يمثلون!!

كنت أعود الى البيت كل يوم لوالدتي بسؤال " ماذا يعني أن فلان " درزي "؟؟ وما هو "الشيعي " وما هو " فلان "؟؟ تعابير ومصطلحات تمر أمام عيني يوميّا اسمعها من هنا وهناك في المدرسة في الأزقة والأحياء "الارستوقراطية" منها و "المتوسطة " و" الفقيرة "...

كنت اسأل ربي قائلة : يارب... لماذا ؟؟ لماذا الحرب ؟؟ لماذا الكره؟؟ لماذا يستهزأ البشر ببعضهم البعض ؟؟ ماذا كان سيحصل لو ولدت لعائلة من طائفة أخرى ؟؟ ما ذنب هذا "الكائن " الذي لم يختار " اسمه " ولا " دينه " ولا " مذهبه " ؟؟

كنت استرق السمع أثناء صبحيّات والدتي وصديقاتها ممن يصفن أنفسهن "بسيدات المجتمع", وهن يشتمن " الآخر " باللغة "الفرنسية " في أحاديث الصالونات " المخملية ", ويستهزئن ب"العادات الاجتماعية " الموجودة عند "الآخر " ناعتات الطبقات الاجتماعية للفئات الأخرى ب" المتدنية "، كنت أكره هذا النفاق واكره تلك الأحاديث , وأمقت تلك السيدات ذوات "الشعر الذهبي" و"معاطف الفراء" الذين يشبهن تماثيل الشمع الى حد كبير، حيث لم يغب عنهن الاهتمام بأشكالهن في ظل "الظروف الأمنية" الصعبة التي تحياها البلاد، ويتفاخرن بأنهن ممن يسافرن إذا "علقت الحرب" الى الخارج ويعدن أثناء "الهدنة"...

وأنا اليوم استعرض في ذاكرتي المشهد البانورامي فأجد مشهد لكائنات "لبنانية " شوّهتها " الأفكار "الطائفية "، صور متعاقبة متتالية، وأطلّ بعيوني الى ما تعرضه الفضائيات اللبنانية من "أخبار "حاليّا، فأجد تلك الوجوه " المؤدلجة " والكائنات " الطائفية " تطل علينا من جديد متبجحة "بخطابات " ومهاترات " مذهبية " من جديد... لتعيد شحن الكائنات الأخرى بعصبيات وتعيد إنتاج شروط إنتاج المجتمع الطائفي القديم وبالتالي , ويعاود " زعماء الطوائف" تقديم أنفسهم بنسخة جديدة منقحة أكثر "طائفية" تتلاءم مع متغيرات "العصر" ولكنها لا تحمل في باطنها سوى إيديولوجيات " وتعود العصبيات لترتدي ثوب جديد تحت شعارات متنوعة لطوائف متعددة ...

لا يسعني أمام هذه المشاهد المقززة إلا أن ابتعد... لأقف خارج كل الاثنيات المتصارعة و "الطوائف " المتناحرة "، هازئة بواقع صنعه "أمراء "الحرب " ملوك "الطوائف "، متحسرَّةً على دماء بني "البشر "، وقلبي يقطر دمًا على جمال سيدة "العواصم " وصوت الساحرة فيروز يصدح في أذني :

" لبيروت من قلبي سلام لبيروت

وقبل للبحر والبيوت

لصخرة كأنها وجه بحّار قديم "


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى