الثلاثاء ٢١ آذار (مارس) ٢٠٠٦
«رحلة بالداسار» رحلة النفس البشرية في غياهب المجهول
بقلم سعداء الدعاس

أمين معلوف يتحفنا برائعته في ظل لغزيته المعتادة

في فضاء النبوءات والخرافات يحلّق بنا الروائي الرائع أمين معلوف في رائعته «رحلة بالداسار» ترجمة روز مخلوف الصادرة عن دار ورد للطباعة والنشر – دمشق

في رحلة بالداسار نشد الرحال إلى كل الأمكنة وكل الأزمنة، فبينما العالم يتأهب لعام الوحش 1666م نجد عقولنا تتأهب للعودة للعام الخامس قبل الميلاد لاستعارة عقول اليونان والرومان التي عرفت بامتلائها بالنبوءات والخرافات ،التي صيغ حولها إطار يفوق الصورة ذاتها في التفاصيل والمتاهات.

ففي هذا العام 1666م يفترض أن العالم سيفنى ويزول إما بفيضان أو زلزال أو حريق كما حدث في لندن عندما احترقت كل البيوت ليظن الناس أنها بوادر عام الوحش ، وبما أن (بالداسار) شاب مثقف يمتلك محلاًّ لبيع القطع الثمينة والنادرة ومن بينها الكتب فإنه لم يكن يؤمن بما يقال ، لكن حوادث مهمة طرأت عليه جعلته يغير مسار حياته معتمداً على هذه النبوءة الغريبة.

تقتضي النبوءة الحصول على كتاب يدعى (الإسم المئة) للمازندراني، كحل وحيد للخلاص من وطأة هذا العام المخيب.

وهكذا يقضي (بالداسار) حياته في البحث عن هذا الكتاب الذي يتزامن وجوده مع العديد من الحوادث الغريبة والمثيرة التي يسجلها (بالداسار) في يومياته، يوميات كتب عليها التشتت كصاحبها فتضمنتها أربعة دفاتر لم يجتمع بها كاتبها أبداً (الاسم المئة، صوت سابَّاتاي، سماء بلا نجوم وإغواء جنوة) كل دفتر سجل مرحلة مهمة من هذه الرحلة.

لعل أمين معلوف في روايته هذه أكثر غموضاً مما عرف عنه في رواياته السابقة، بل أنه ينتهج مبدأ اللغزية / العماية (Aporia) الذي يصل بالمتلقي للاشيء، فاللغزية كمصطلح تعني الأبهام والمسار المسدود ، وهذا ما ينتهجه الكاتب من إثارة تساؤلات ضمن أطر مبهمة ومربكة دون تقديم أية حلول لها.

فالرواية في مجملها تعتمد على لغز يطرحه معلوف في أولى صفحات روايته، هو الأسم الذي إن حصل عليه المرء فتحت له أبواب السعادة والأمان، ولن يعود بعدها إلى الخوف من أي شيء حتى وإن كان عام الوحش المزعوم.

لكن معلوف في نهاية الرواية لايفصح عن هذا الاسم أبداً، بل أنه يتجاهله وكأنه لم يجعل (بالداسار) ونحن معه نطوف العالم بحثاً عن الكتاب الذي يحويه، متناسياً مدى الانفعال الذي قد يصيب المتلقي طوال فترة القراءة، وخيبة الأمل التي قد تصيبه عند الوصول للنهاية التي لا تحمل نهاية من الأساس.

ووراء لغزية أمين معلوف هذه مغزى مهم ينصب في الفكر الانساني
الخالد، فالنبوءة لم تكن سوى وسيلة لغاية أكبر: اكتشاف العالم هو السر الحقيقي الكامن الذي يسعى وراءه (بالداسار) ولم يكن كتاب (الاسم المئة) سوى ذريعة يتحجج بها لذاته التي أنهكها الترحال، وما تبريره أفعاله وجنونه إلا تبريراً لذاته أولاً قبل الآخرين، أما تلك الخرافات فهي على أية حال غول صنعه الناس بأنفسهم ليخافوا منه، حتى أصبح هو من يقودهم لاكتشاف العالم من حولهم، ويبدو أن بالداسار آمن بجدوى أن لا يقع الأنسان تحت وطأة الخرافة مستسلماً لها، لذا نجده أخيراً يقرر رحلاته كما يريد لا كما يفرض عليه كتاب (الاسم المئة).

رواية «رحلة بالداسار» – التي تقع في 412 صفحة من القطع المتوسط - رواية تستحق القراءة، فمنذ صفحاتها الأولى نجد أنفسنا في قبضة المجهول الذي لاينفك يستحوذ علينا إلى آخر حرف في الرواية، بتلك الأجواء التاريخية المذهلة التي عرف معلوف بدقة وصفها كما أمتعنا سابقاً بالعديد من رواياته مثل «موانئ المشرق» و«سمرقند».


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى