الاثنين ١٩ آب (أغسطس) ٢٠١٣
بقلم محمود عبد الرحيم

خطيئة الإخوان’ يكررها اليساريون والليبراليون

ربما أكون من القلائل في مصر الآن الذين خرجوا من دائرة الاستقطاب، ورفضوا مبكرا هذه اللعبة الشريرة التي ليست في صالح مصر بكل تأكيد، وربما يكون موقف الابتعاد عن أي من طرفي الصراع الراهن (الجنرالات والفلول) أو (الاخوان) محل استهجان واسع، بل واتهام من كثيرين، وحملات هجوم عنيفة، غير أن قادم الأيام سيكشف أننا كنا على حق، وكان لدينا بعد نظر، وتقدير سليم للوضع، ورهاننا كان على الوطن وحقوق وحريات الجماهير، وليس على لوبي مصالح أو فصيل انتهازي.

والأزمة، أن كثيرين بمن في ذلك مثقفون وناشطون، سقطوا في الفخ، ولا يريدون الاعتراف بحقيقة الوضع، ولديهم تشخيص خاطئ للأمور، أو يلعبون لعبة ‘التحالف المرحلي’ ، وتصور أنه من الضروري الانحياز لطرف، في حين أن هذه العلاقة غير المتكافئة شديدة الخطورة حتى ولو مرحليا، لأنها ستصب في صالح الأقوى، وليس الأضعف، كحال الأحزاب اليسارية والليبرالية وشخصيات عامة عديدة، مع الجنرالات والفلول على سبيل المثال، إذ يتصورون أن التخلص من الإخوان بأي ثمن له الأولوية عما عداه، فضلا عن حالة العمى أو التعامي التي أصابت البعض جراء كراهية ‘الجماعة المحظورة’، بحيث لم يعد هؤلاء يرون خطرا آخر، أو استحقاقات أهم.
وواقع الحال، أن ما يجري في مصر صراع سلطة بين رجال أمريكا، سواء الجنرالات والفلول أو الاخوان، وليس للشعب ناقة أو جمل فيه، وأنما سيدفع الثمن في كل الأحوال، سواء انتصر هذا الطرف أو ذاك، طالما لم يحدد موقفه ومعركة نضاله بشكل واضح تجاه كل من استغله أو أهدر كرامته وحقوقه وحرياته، ولم يعاقب كل هؤلاء، جراء جرائمهم بحقه وحق الوطن، حيث أن جميعهم يستخدم الجماهير أداة لتمكينه من السيطرة وحصد شرعية مزيفة والتخديم على مصالح أمريكا التي يتقدمها أمن الصهاينة والرأسمالية المتوحشة، والتبعية الامبريالية.

فاذا انتصر الاخوان، فنحن إزاء مشروع ‘التمكين الاخواني’ والقمع تحت شعارات دينية وطائفية، وإذا تمكن الجنرالات والفلول فنحن إزاء عودة ‘الدولة البوليسية’ الفاسدة المستبدة. وإذا تحـــــالفا بدرجة أو بأخرى وتم توزيع الأدوار بينهما أمريكيا، كما حدث منذ حقبة السادات وطوال فترة مبارك، وعقب انتفاضة يناير، فعلى حساب التغيير الديمقراطي والعدل الاجتماعي واستقلال القرار الوطني.

فأين إذن مصالح الوطن والمواطن من تلك الدائرة الجهنمية؟

ورغم عدم انحيازي ولا تأييدي للمعسكر المناوئ للإخوان، فإني أحمل هذه الجماعة مسؤولية هذه الحالة العبثية التي تعيشها مصر حاليا، وارتكاب جرائم كبرى لن ينساها التاريخ، أولها إهدار فرصة التغيير الديمقراطي التي كانت متاحة بقوة في أعقاب انتفاضة يناير الشعبية، ودفع الجماهير إلى القبول بقوى فاسدة خرجوا عليها من قبل بعد أن بلغ الظلم والاستبداد مداه، بمنطق المفاضلة بين ‘المر’ و’الأمر’، عبر إضاعة جماعة الاخوان كل فرصة للتعاطف معها، بجشعها السلطوي والانحياز لمصالحها الضيقة ولـ’الأهل والعشيرة’، وليس لجموع المصريين، وفشلها الكبير على كافة المستويات السياسية والاقتصادية والأمنية، وعدم تلبية الاحتياجات الأساسية للمواطنين، وإشعال حدة الغضب والرفض الواسع لها لدى غالبية المصريين، لانشغالها بـ’مشروع الأخونة’ فقط، ما جعل الناس تترحم على حقبة الديكتاتور المخلوع، وهذه هي الثغرة التي نفذ منها رجال مبارك، خاصة مع آلة الاعلام الضخمة التي بحوزتهم، ودعم كثير من الأجهزة الأمنية والحكومية ورجال الأعمال، وبالطبع الجنرالات.

أما الجريمة الثانية، فهي أن لجوءهم للعنف الواسع والخطاب التحريضي التكفيري، خاصة بعد إزاحتهم من السلطة، واستثارة مخاوف المصريين، فتح الباب على مصراعيه أمام تلاعب الجنرالات بالإرادة الشعبية، واستخدامهم كفزاعة للشعب، على نحو يبرر إجراءات استثنائية من قبيل فرض حالة الطوارئ، التي أخشى ان تمتد لسنوات طويلة على غرار ما حدث عقب اغتيال السادات وامتدت لأكثر من ثلاثين عاما.

والأخطر، هو الترويج الواسع لانتهاكات حقوق الانسان في وسائل الإعلام تحت مبرر حماية الأمن الوطني من خطر الإرهاب والمؤامرات الداخلية والخارجية، واعتبار أن القـــــانون الطــبيعي والإجراءات المعتادة غير كافية ولا ذات جدوى، وأنه إذا كان رئيس وزراء بريطانيا ديفيد كاميرون قال ‘لا تحدثوني عن حقوق الانسان حين يتعرض أمن البلاد للخطر’، فما بالنا بوضع مصر؟
ما يعني ببساطة أن ثمة تهيئة لتأجيل المطالب الديمقراطية إلى أجل غير مسمى، وحتى المطالب الاجتماعية، خاصة أن وسائل الضغط الشعبية كالاحتجاجات السلمية بكافة أنواعها من اعتصامات ومسيرات ومظاهرات، يتم الآن بشكل ممنهج تشويهها، وإحراق تلك الورقة التي انتزعها بقوة الناشطون، ومن ورائهم الجماهير في أعقاب انتفاضة يناير.

ولعل مقولات من قبيل ‘من أعمالكم سُلط عليكم’ و’الجزاء من جنس العمل’ تنطبق على حالة الإخوان الآن، فقد أتوا بالسيسي وزيرا للدفاع، بعد ترشيح طنطاوي له في إطار صفقة الخروج الآمن، متصورين أنه بحكم انه مدير الاستخبارات الحربية، يستطيع السيطرة على الجيش ومنع أية حركات انقلابية عليهم، ويمكنهم من الهيمنة على ‘مؤسسة القوة’، فضلا عن مصاهرة بعض القادة العسكريين، فكان أن أزاحهم، وهدم مشروعهم الذي عملوا عليه أكثر من ثمانين عاما.

وأتوا بمحمد إبراهيم أحد رجال حبيب العادلي ومن ذات مدرسة العنف الأمني الممنهج، وزيرا للداخلية، ورفضوا هيكلة جهاز الشرطة، واكتفوا بزيادة المرتبات والحوافز بشكل مغال فيه، وتوفير أدوات القمع من قنابل غاز وأسلحة، ومدرعات، فكان أن تحول إبراهيم ورجاله من قمع معارضيهم إلى قمعهم.

وقاموا بتفصيل قانون لتقييد حق التظاهر والاعتصام، ويجري الآن الاستعداد لتطبيقه عليهم.
ورفضوا هيكلة الإعلام وضـــــمان استــــقلاله ليكون أداة تعبئة وحشد لتوجهاتهم ولتشويه خصومهم، فدارت الدائرة عليهم، بعد أن بات تحت سيطرة الجنرالات. والمؤسف في الأمر، أن قوى المعارضة تكرر نفس خطأ الاخوان، أو بالأحرى خطيئتهم، وتنظر تحت أقدامها، ولا تفكر في ما هو أبعد، وهو الرهان على مبادئ الدولة المدنية الحـــــديثة، وتأسيس قواعد وأعراف ديمقراطية، فكثـــــيرون بما فــــي ذلك الفصائل اليسارية التي طالما وقــــفت ضد حــــالة الطوارئ إبان حكم مبارك، وتضررت منها بشكل مباشر، ترحب الآن بفرضــــها، بل تذهب إلى أبعد من ذلك بدعــــوة الجماهير للاصطفاف في معسكر الجنرالات والفلول في مواجهة الإخوان، وتساهم في مسايرة الحملة الدعائية للسلطة الجديدة.

وهي التى كانت تصف بالأمس وزير الداخلية بـ’السفاح’، تعتبره اليوم ‘بطـــلا قومــــياً’، ويجب دعمه هو ورجاله. وبعد أن كانت تطالب بإبعاد الجــــنرالات عن الحــياة السياسية، ترى أن تدخلهم السياسي دور وطـــني لا غــبار عليه ومطلوب، وكذلك دور الكنيسة والأزهـــر، رغم الشعارات الرنانة حول الدولة الديمقراطية المدنية التي هي لا دينية ولا عسكرية.

وهذه المواقف المتهافتة للقوى اليسارية والليبرالية غير الناضجة، وغير المرتكزة على ثوابت، هي الأخرى جرائم في حق الوطن، تتساوى مع ما فعله الأخوان وأنصارهم من اليمين الديني، وتعكس انتهازية واضحة ورهانات وقتية فاسدة.

وكان من الأجدر، لو ان ثمة أجندة وطنية مخلصة تستهدف صالح الوطن والمواطن، طرح رؤية مغايرة أنضج وأكثر وعيا، تتجاوز حالة الاستقطاب الثنائية القطب، والصراع السلطوي بين معسكر’الجنرالات والفلول’ ومعسكر ‘الاخوان’، تتأسس على المسار الثوري الحقيقي، وليس على المسار السياسي أو بالأحرى الأمني، الذي لا يطرح حتى الحد الأدنى من الاصلاحات، وانما استبدال اشخاص وليس سياسات أو توجهات، واهدار مكتسبات الجماهير. وأن تكون المطالب المرفوعة في هذه المرحلة، والمعركة النضالية الحقيقية، هي الديمقراطية والعدل الاجتماعي واستقلال القرار الوطني، وليس شعارات كتلك التى تزايد بها السلطة الحاكمة وأنصارها على الجميع في إطار خطاب التعبئة والحشد للاستهلاك المحلي، مع طرح برنامج عملي للوصول إليها، وبدائل محددة لصيغة الحكم المتواصلة منذ أكثر من 40 عاما.

والأهم، كذلك، التأكيد على أنه لا يمكن تحت أية ذريعة التنازل عن ‘حقوق الإنسان’ أو اللجــــوء لإجراءات استثنائية، حيث أننا اذا سمحنا بتمرير انتهاك حقوق الانسان حتى ضد الخصوم، فإن الدائرة ستدور علينا غدا، ومن يستخدم آلة القمع ضد الخصوم لن يتورع عن توجيه هذا السلاح ضد أي معارض.

فالقانون الطبيعي يكفي للتعامل مع أية انحرافات أو خروج عن الشرعية بمفهومها الدستوري والقانوني، ووفق الأعراف الحقوقية الدولية، وغير ذلك إتاحة الفرصة للسلطة الحاكمة، لاستخدام موقف طارئ لابتزاز الجماهير بـ’فزاعة العنف والارهاب’، واستغلال عدم تقديرهم لخطورة التفويض المفتوح لدعم إجراءات قد تقود إلى عملية استبداد وقمع واسعة تطال الجميع.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى