الجمعة ٢٣ آب (أغسطس) ٢٠١٣
بقلم مصطفى لغتيري

الفرح الجديد

الامتداد لا حدود له.. أشجار التين والصبار تنتشر في كل مكان.. خضرتها اليانعة تشلح عن المكان وحشته.. أكوام من التربة المتراكمة تتخللها صخور تميل إلى البياض، تنغرس في أعماق الأرض فلا يبدو منها غير بقع متناثرة في غير انتظام، والطفل يركض مع باقي الأطفال في كل الاتجاهات. جلهم أقاربه الذين يقضي العطلة الصيفية في ضيافتهم. جسده الصغير ينضح بسيل من العرق تحت أشعة الشمس الحارقة.. في الظلال الشاحبة تنبطح كلاب ترقب الأطفال بأعين متكاسلة. لهاثها يبعث على الضحك.. البحر الذي لا يبعد عن القرية كثيرا يرسل بين الفينة والأخرى أنفاسه المنعشة، فتتلقفها أجساد الصغار الملتهبة بلهفة وشوق..

بغتة وبشكل لم يتوقعه، لاحت له من بعيد، تحمل على رأسها كيسا تغوص بأقدامها الصغيرة في اتجاه القرية.. تراكضت خفقات قلبه.. داهم الاضطراب حركاته.. وحتى لا ينفضح أمره دارى ارتباكه، ثم خاتل أصدقاءه وتسلل مبتعدا. لمحه ابن عمه يبتعد، فسأله أين يذهب. تحجج بأمر ما، ولما أصر على أن يرافقه رفض بقوة.. موه الجميع وغاص في كثافة أحد البساتين.. الحرارة تلفح جسده، غير أن الاخضرار الذي احتضنه بلطف خفف من قسوتها.. عيناه لا تفارقانها.. تعلقتا بها بكل إصرار.. يخشى أن تضيع منه إن غفل عنها برهة. تذكر حينئذ تلك اللحظات المتوترة، حين تأججت في أحشائه لوعة لم يشعر بمثلها من قبل. كان الوقت صباحا، قابلها قرب البئر، حينما رافق أحد أقاربه لجلب الماء.. ما إن تشابكت نظراتهما، حتى أحس بأنه أبدا لن يستطيع الانفلات من سطوتها.. اخترقه لحظتها شيء ما، لم يتبين طبيعته.. رعشة اعترته، دوار خفيف اكتنفه. الدماء تدفقت بكثافة نحو رأسه، فتسارعت نبضات قلبه.. لم يستطع أن يحدد بدقة ما إذا كانت دواخله قد فقدت شيئا أو أضيف إليها شيء جديد، بيد أنه كان متأكدا من أن نفس الشيء حدث لها.. صعب أن يبرهن على ذلك، لكنه أحس به. انتزعت نظراتها من نظراته وانصرفت، بينما استغرقته حالة من الذهول دامت مدة من الزمن.. فيما بعد عرف اسمها وارتشف أخبارها قطرة قطرة. علم أن الكثيرين يطمحون إلى الفوز بقلبها.. لم ينل ذاك من عزمه.. أحس أن انتماءه للمدينة يرجح كفته، ويمنحه امتيازا أثلج صدره.

انبثق لها من بين النباتات الكثيفة، فبدت سيماء المفاجأة على ملامحها.. أسرعت في مشيتها، فتبعها بقدمين لا تكادان تحملانه، وهو يلتفت في كل الاتجاهات خوفا من أن يراه أحد.. دنا منها بشكل كبير..حين تبينت إصراره على ملاحقتها، التفت نحوه متصنعة الغضب:

• ماذا تريد مني ؟ اذهب لحالك.

أحس بأن غضبها مفتعل. عيناها الباسمتان أوحيتا له بذلك. قهر اضطرابه، وبصوت متهدج خاطبها:

• فقط أريد أن أكلمك.

تابعت سيرها، غير أن خطواتها تباطأت قليلا، وهي تحدجه بعينيها العسليتين:

• قل ماذا تريد. أخاف أن يرانا أخي.

نبضه كاد يتوقف.. الكلمات انحبست في حلقه، فلم يدر ما يقول. لاحظت ارتباكه، فرمقته بنظرة حانية، أججت من حدة الوجع الذي باغته. لم ينبس ببنت شفة.. انجذب جسده نحوها.. تقدم خطوتين. أدخل يده اليمنى في جيبه.. الاضطراب يكتنفه.. أخرج "علكة" التمع لون غشائها الأصفر بين أنامله المضطربة، وبيد متوترة مدها إليها. بعد تردد لم يدم طويلا، بسطت يدها. تناولتها منه، وابتسامة خجلى تداعي شفتيها القرمزيتين. فرحة غامرة اكتسحته. بعد برهة استأنفت سيرها. حاول أن يتبعها غير أن قدميه تصلبتا.. بعينين ذاهلتين شيعها، وبعد هنيهة انتشل نفسه من ذهولها.

" لقد كلمتها وقبلت العلك مني". تردد ذلك في أعماقه، وقد افترت شفتاه عن ابتسامة ماكرة. انسل وسط االبساتين، وما هي إلا فترة قصيرة حتى أخذ مكانه بين أقرانه. سأله قريبه عن المكان الذي ذهب إليه.. تجاهل السؤال، وانشغل – إلى أبعد الحدود- بتأثيث دواخله بالفرح الجديد، الذي حل ضيفا على كيانه، محاولا أن يفرد له أجمل مكان في قلبه.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى