السبت ٣١ آب (أغسطس) ٢٠١٣
بقلم حاتم جوعية

دِرَاسَة ٌ لكتاب «عَوْدَةِ الآلهة» للشَّاعرة دوريس خوري

صدرَ هذا الكتاب «عودة الآلهة» للكاتبةِ والشَّاعرةِ «دوريس خوري»، من قرية «البقيعة»- الجليل الأعلى (وهي من أصل لبناني) قبل بضع ِ سنوات وهو باكورة إنتاجها الأدبي المطبوع، يقع في 112 صفحة من الحجم المتوسط، يضمُّ مجموعة ً من المقالاتِ والنصوص الأدبيَّة والخواطر والتأمُّلاتِ الفلسفيَّةِ وبعض القصائد الوجدانيَّة. وكتبَ مقدِّمة َهذا الكتاب الرِّوائي الصَّديق «سهيل كيوان» - مُحَرِّر الزاوية الادبية في صحيفة "كل العرب".

الأديبة ُ الشَّاعرة ُ «دوريس خوري» معروفة ٌ على الصَّعيدِ الأدبي والثقافي المحلِّي، نشرت كتاباتها في مختلفِ الصحف والمجلات المحليَّة، ولها رصيدٌ وكمٌّ كبيرٌ من الإنتاج ِ الأدبي قد يطبعُ عشرات الكتب. هي لا تكتبُ لظرفٍ آنيٍّ ابن ساعتهِ أو لمناسبةٍ مُعيَّنة طارئة فقط كما يحدو بمعظم ِ الكتابِ والشُّعراءِ المحلِّيِّين، بل كتاباتها عبارة ٌعن مواضيع تأمُّليَّة فلسفيَّة عميقة وإنسانيَّة شاملة، وستبقى مُحافظة ً على رونقِها وقيمتِها الفنيَّة في كلِّ ظرفٍ ومكان مهما تغيَّرت الأوضاع والأزمان.

والجديرُ بالذكر ِ أنَّ «دوريس» درَست موضوعَ الفلسفة واللاهوت وكانَ لهذا الموضوع تأثيرٌ كبيرٌ ومُباشر على ألوان ومواضيع كتاباتِها مُؤخَّرًا. ومن ناحيةِ كونها لبنانيَّة الأصل فقد تأثَّرت كثيرًا بالشِّعر ِ اللبناني، وخاصَّة ًالزَّجلي، فكتبت الزَّجلَ والقصائدَ الكثيرة باللهجةِ العاميَّةِ البنانيَّة... ولكنها لم تنشرْ شِعرَهَا الزَّحلي بعد في دواوين مستقلَّة. ونجدُ في شعرها أيضًا ذكرًا لأسماءِ بعض ِالآلهةِ من الفينيقيِّين أو البابليِّين والكنعانيِّين والمصريِّين، وغيرهم. وتأثَّرت كثيرًا بحبران خليل جبران وبالفيلسوف الألماني " فريد ريك نيتشه "، وخاصَّة ً في كتابهِ الشَّهير (هكذا تكلَّمَ زارادشت) كما يبدو - (مقال "عودة الآلهة "– صفحة 5 - 7، ومقال " إله المال " - صفحة 8-9).

إنَّ دوريس خوري من الكاتباتِ والشَّاعراتِ المُتميِّزات فنيًّا والمُبدِعات على الصَّعيد المحلِّي. تمتازُ كتاباتها بالشَّفافيَّةِ والرُّومانسيَّةِ وبالعباراتِ الحُلوة الجميلة وباللغةِ القويَّةِ الصَّافية الجذلى وبالمعاني الفلسفيَّةِ العميقةِ وبالرُّؤيا الإنسانيَّة السَّامية الشَّاملة. ولا أبالغُ إذا قلتُ إنَّ لديها أسلوبًا وطابعًا خاصًّا ومُمَيَّزًا في كتاباتِها يختلفُ عن جميع الكتابِ محليًّا وعربيًّا. ولكتاباتِهَا جاذبيَّة ٌ وَسِحرٌ أخَّاذ ٌ حيثُ القارىءُ مهما كانَت نوعيَّتهُ ومستوى ثقافتِهِ سيقرأ كتاباتها بشغفٍ وحُبٍّ كبيرين ولا يستطيعُ أن يتركَ مقالا ً أو قصيدة ً لها حتى يأتي على آخرها ( عنصر التشويق ). وهذهِ الجاذبيَّة العظيمة التي تتمتَّعُ وتتحلَّى بها والأريج الخاص قد نجدُهُ عند بعض الشُّعراءِ والكتابِ الكبار، وخاصَّة ًعند بعض ِ شعراء المهجر، مثل : جبران خليل جبران وميخائل نعيمه، فهي تأثَّرت بهم. ودوريس مِمَّا يُميِّزُهَا عن الكتابِ المحلِّيِّين أيضًا أنها غير متقوقعة في الآنيَّة والأمور المحليَّةِ الضيِّقةِ، بل نجدُ في كتاباتِها " الإنسان " بكلِّ معنى الكلمة.. الإنسان الذي على أهبَةِ الإستعدادِ لكيّ يهبَ روحَهُ قربانا ً لأجل ِ شعبِهِ وللإنسانيَّةِ. فكتاباتها جميعها ترفلُ وتزهُو وتسطعُ بالقيم ِ الإنسانيَّةِ وبالمبادىءِ والمُثل السَّاميةِ ويشوبُهَا وَيُترعُهَا روحُ الإيمان العميق والعظيم. في كتاباتِهَا الشِّعريَّةِ هي لا تلتزمُ بالوزن ولكن يوجدُ عندها موسيقى داخليَّة أخَّاذة، كما أنها تلتزمُ أحيانا بالقوافي في شعرها - على نمط شعر التفعيلة. وهنالك بعضُ المقاطع جاءَتْ موزونة ً، ( قصائد " يا آخر العنقود " – صفحة 69 – 70 )، وقصيدة ( أنا رداؤك الأبيّ تقبَّلني – صفحة 71 ). وقصائدُها في قمَّةِ العذوبةِ والجمال اللفظي وغنيَّة ٌ بالصُّور ِ الشِّعريَّةِ المُستوحاة من الطبيعةِ ومن صميم الواقع الذي نحياهُ. في أشعارها وكتاباتِهَا النثريَّةِ نُحِسُّ أيضًا بجمال ِ لبنان الرَّائع ( وطنها الأمّ ومسقط رأسِها)، وبشموخ الأرز وبالجبال والشَّلالاتِ والسُّهول الخضراءِ والزهور اليانعةِ وبالحياةِ الجميلةِ البريئةِ الخَلابة الخالية من الكدر والحقدِ، يشوبُها ويُترعُها الصَّفاء والنقاء. فالطبيعة ُ عنصرٌ أساسيٌّ في كتاباتِ دوريس (الشعريَّة والنثريَّة) فتستوحي إبداعاتِها وشاعريَّتهَا منها فتأخذ ُ عناصرَهَا ورموزَهَا وتوظفها في أشعرها وكتاباتها، كما أنها تستعملُ بعضَ المصطلحات والرُّموز التاريخيَّة واللاَّهوتيَّة وتدخلها يشكل ٍ متجانس ٍ متناغم ٍ في قصائدِهَا وكتاباتها... فجاءت قصائدُها بالذاتِ حُلية ً فاتنة ً كالرّبيع ِ في عنفوانهِ يزهو ويتبخترُ في ثيابِ السندس والجمال والبهاء.

لقد استطاعت " دوريس " في كتاباتِها مَزجَ عالم الخيال ِ والأساطير (ميثولوجيا) مع عالم ِ الواقع المُباشر والحوار المُباشر، وذلك من خلال حواريَّاتها المُتعدِّدةِ مع الشخصيَّاتِ المُؤَلَّهَةِ التي ذكرتها المؤلِّفة ُ. وتلك الشَّخصيَّاتُ تبدو وكأنها واقعٌ وحقيقة ٌ. فاستحضرَت أرواحَ تلكَ الشَّخصيَّات وخاطبتهم، بدورها، كما تخاطبُ البشرَ تمامًا. ونحنُ بإمكاننا تخيُّل الشَّخصيَّات، وهي : إله المال، إله الحرب، إله الشِّعر، إله السِّحر - التي آمنَ بها البشرُ منذ أقدم ِ العصور واستحوذت على عقل وفكر الإنسان، والهدفُ والمفادُ من عبادتِهَا لأجل ِ المكاسب الماديَّةِ والمعنويَّةِ. ودوريس ُتثرينا في حواراتِهَا مع تلكَ الشَّخصيَّاتِ المُؤَلَّهَةِ بالمعلوماتِ التاريخيَّةِ والميثولوجيَّةِ المترعةِ بأسماءٍ فينيقيَّةٍ وفرعونيَّةٍ وكنعانيَّةٍ وغيرها من الآلهة. فتستجلي التاريخَ القديمَ وتبرزُهُ أمامَنا فترجعُ تفكيرَنا إلى الوراءِ آلافَ السِّنين، فنجدُهُ مليئا ً بالحِسِّ الإنساني الرَّفيع والأسلوبِ التَّأمُّلي الشَّائق العميق. هي تنقلنا معها في رحلةٍ رائعةٍ جميلةٍ إلى جبل ِ المعابد الذي تحدَّثتْ عنهُ الكاتبة ُ وبأبعادِه التاريخيَّة والفلسقيَّة. وهذهِ الصَّبغة ُ والمسحة ُ اللاهوتيًَّة ليست بمفهوم ِ اللاهوتِ الديني والحِسِّي المُجَرَّد، بل بالفكر الفلسفي والأبعاد التاريخيَّة والإنسانيَّة والتَّأمُّليَّة، فهذهِ الصُّور والألوان والمزيج من التباعد والتقاربِ ما بين الواقع والخيال والإنطلاق والولوج في مجاهل التاريخ العابر هو إثباتٌ وشهادة ٌعلى ثقافةِ الكاتبةِ الواسعةِ وكيفيَّة صياغتها الإبداعيَّةِ الفنيَّةِ للعمل ِالأدبي بأسلوبٍ جميل ٍ وبلغةٍ متماسكةٍ جزلةٍ تنقلنا من عالم ِالواقع إلى عالم ِالخيال ِ والأساطير. كما أنَّ الرَّمزيَّة َ التي تتخذها الكاتبة ُ ُتشيرُ إلى الدَّلالاتِ الحسِّيًَّة أنَّ المرأة َغير هاربةٍ من السّرب، بل هي الرَّمزيَّة بعينيها عند تحليلها للمرأةِ الأفعى وغيرها من الرُّموز التي صوَّرَ التاريخُ المرأةَ بصور ٍ متعدِّدةٍ، فهي تعني الإزدواجيَّة َ لدى الشَّعبِ العبري الذي في تصوُّراتِهِ للمرأةِ ظلمها كثيرًا، فالمرأةُ بدورها تفتشُ عن الأمان كباقي النساءِ.

وفي هذا الكتاب (المُؤلَّف) بعضُ القصائد الوجدانيَّة والرُّوحانيَّة كما ذكرتُ أعلاه، فتقولُ دوريس مثلا ً:

(" أنا روحٌ هائمة ٌ في أحضان ِ الطبيعة ". وفي قصيدةٍ : " أنا رداؤكَ الآتي فقبِّلني " توظفُ الشَّاعرة ُالطبيعة َ وتجعلها ركنا ً أساسيًّا من أركان ِ لغتِهَا الشِّعريَّة. وكما أنها في كتاباتِها النثريَّة تتطرَّقُ إلى مواضيع السِّياسيِّين والأغنياء والحكَّام فتقولُ :

("اللحيَّة التي بكرمنا أوفى من الزَّعيم بضيعتِنا " - فهذهِ العبارة ُ قد غدت رمزًا ومثلا ً يُردَّدُ على ألسنةِ الكثيرين من الناس. ولا تنسَى في كتاباتِها أيضًا الفقراء والمُشَرَّدين والمسحوقين، فكتبت : " آلهة الصَّعاليك ".

وفي إحدى مقالاتِها الأدبيَّةِ في هذا الكتابِ تتطرَّقُ كاتبتنا إلى موضوع الإستنسَاخ، وتتمنَّى بدورها أن تستنسخَ منها ثلاث نساء حتى تحقَّقَ جميعَ طموحاتها وآمالها وتطلُّعاتها في الحياة. وفي الكثير من كتاباتها تلجأ إلى الطبيعةِ كمعظم الشُّعراءِ اللبنانيِّين والمَهجر. فتعطي لنفسِها فرصة ً من جديد لتتأمَّلَ الطبيعة َ وتستنطقها كما تستنطقت الآلهة َ وتحادثها في نصِّ جلبابِ العبوديَّة، وتحادثُ الطيور والنباتات والبحر، وهذهِ المُداخلاُت والأسلوب الحواري الجدلي مع الحيواناتِ والبهائم يعيدُ إلى أذهاننا كتاب " كليلة ودمنه " لإبن المُقفَّع " الذي ألَّفهُ على ألسنةِ الحيوانات.

وفي رحلتِها الإغريقيَّةِ مع الآلهة وحوارها الدرامي معهم نتذكَّر بديهيًّا رسالة الغفران لأبي العلاء المعرِّي وبالكوميديا الإلهيَّة لدانتي.

ومن خلال حواريَّاتِهَا المتعدِّدةِ التي ذكرتها الكاتبة ُ فهي تستنبط ُ الفكرَ الفلسطيني الإنساني من الرّجل وحده، ولم تذكر انها استوحت من المرأةِ شيئا إلا َّ ما ذكرتهُ عن شخصيَّات مؤلَّهة من النساءِ في عصور سابقة. وهذا الكتاب ُ بإختصار يضعُ القارىءُ في حيرةٍ وتساؤلاتٍ لا متناهية في شؤون الحياةِ والموتِ والنهاية وتكوين العالم وتأسيسهِ وحقيقتِهِ وأسرارهِ.
وبإختصار ٍ هذا الكتاب مستواهُ عال جدا وأسلوبُهُ مُميَّزٌ ومواضيعُهُ هامَّة ٌ ومُلفتة ٌ للنظر، وربًّما لم يكتب في هذا الموضوع وهذا التوجُّه واللون أيُّ كاتبٍ محلِّي... ولم يسلكْ في هذا المنحى والمجال الأدبي. ونظرًا للأبعاد الجماليًّةِ والفلسفيَّةِ والفنيَّةِ والشَّطحَاتِ الصوفيَّةِ التي ُتترعُ مواد هذا الكتابُ قد يكونُ فهمُهُ صعبًا على الكثيرين من الناس... وحتى لبعض النقادِ والأدباء المحلِّيِّين، وذلك لسبب ثقافتِهم المحدودةِ ولإنشغالهم في المواضيع المحليَّة فقط، فثقافة ُ وكتاباتُ ونقدُ بعض النقاد المحلَّيِّين (معظمهم ) تتمحورُ حولَ الأمور الهامشيَّةِ والسَّطحيَّة وحول الشِّعر الذي يشوبُهُ الطالبعُ السياسي ذي الفكر الضيِّق والمحدود وأدب الشِّعارات المحلِّي الذي معظمه يفتقرُ إلى المستوى الفني الرَّاقي والنظرة الشُّموليَّة والفلسفيَّة العالميَّة. وكتابُ دوريس خوري هذا ((عودة ُ الآلهة )) جاءَ قمَّة ً في الرَّوعةِ والإبداع ِ ويستحقُّ أن يُترجمَ لجميع ِ لغاتِ العالم لقيمتِهِ الفنيَّةِ والأدبيَّةِ والإنسانيَّةِ.

 وأخيرًا - نتمنَّى للكاتبةِ والشَّاعرةِ الكيرة والمُبدعة "دوريس خوري" العُمرَ المَديدَ والمزيدَ منَ العطاءِ الشِّعري والنثري المطبوع قريبًا فهي رُكنٌ أساسيٌّ هامٌّ في حركتِنا ومسيرتِنا الشِّعريَّة المحلِّيَّة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى